ناصر سالم الجاسم - الوجوه.. قصة قصيرة

في البدء: لكي نتحرر من عقدنا ، ومرجعيتنا الثقافية الخاطئة القاسية ، يجب أن تتنفس في دمائنا بشكل طبيعي إمرأة من جهة أخرى .

الصباح وجه امرأة من الشام ، ووجهي فيه وجه راع في صحراء الدهناء ، ووجهها القروي الأسمر في شمال الأحساء ينطفيء ، ووجه الرفيق شافي مفجوع دائمًا ، يترسبُ فيه حزن حمائم بيضاء ، ويده ممسكة بالفرشاة تضعُ الخطوط الأخيرة لوجهي المرسوم في فخذ امرأة عارية منبطحة يحتل جسدها العاجي اللوحة كلها ،
كانت يده تحن إلى رسم وجهي مشطورا على نهدي المرأة ، خمنتُ ذلك من أخذه الأبعاد على منطقة النهدين ، ومن إطالته النظر إلى وجهي من جديد ، فكرتُ في دمي المزروع في دمائهم ، وفي حزني الداخل في أحزانهم ، فانتفضتُ ، وأوقفتُ مشروعه العبثي ، وقلبتُ اللوحة .
كتبَ شافي باللون الأحمر على ظهر اللوحة :
سيحرقون دمك لو استطاعوا، لقد أكلوا الجلود السائحة في وسط البحر حين جاعوا ، وإذا تلبس الجن نساءهم ، قاموا من فورهم يضاجعوهن .

حين قرأتُ ما خطَ الرفيقُ شافي تذكرتُ كيف أطفأوا وجهها ؟! وكيف دخلوا أسلاك الهاتف مثل موجات كهرومغناطيسية ، وسجلوا أنفاسنا الحميمة ، وأشواقنا الظامئة ، وعرينا الشهي ؟!
قلت لشافي بيقين إنسان ينتحر :
أمة تدار بالحقد والحسد والدسائس والمبتزين والمنتفعين أمة ساقطة! وأعدتُ اللوحة إلى وضعها الطبيعي ، ووضعتُ الفرشاة التي تنقطُ في يده، ابتدأ شافي يشطّر وجهي ، نصف فمي على النهد الأيمن ، والنصف الآخر منه على النهد الأيسر ، نصف شاربي على النهد الأيمن ، والنصف الآخر منه على النهد الأيسر، نصف أنفي على النهد الأيمن ، والنصف الآخر منه على النهد الأيسر . ...

لقد كان شافي بارعًا في التشطير ، وفي الرسم ، تأملتُ فمي مشطورًا ، فتذكرتُ فمها قبل أن ينطفىء ، وكلماتها تتدفق منه ، والنغم الفارسي الهادىء الحزين يظلل صوتها المنساب مع النغم في أذني ، والسرير يحتفلُ بجسدينا الخاطئين في الحجرة التي حفظتْ تاريخ لذاتنا القصيرة .
.
لقد قررتْ الآتي وأناملي تخيمُ على وجهها ، وهي عارية ومنبطحة بجانبي:
أنتَ أقوى منهم ، أنتَ تطيرُ وتحلقُ ، وهم حشرات تهبطُ .
اندلقتْ علبة الصبغ على قدمي ، ونالتْ ذيل ثوبي ، فأخذ الصبغ ينقطُ على الأرضية ، وطرحَ شافي الفرشاة جانبًا ، وتحدثَ إليّ بيقين إنسان كان في الصفوف الخلفية لجيش دخلَ معركة وخرجَ مهزومًا :
كان وجهك آخر الحصون ، ولقد سكنوه ، كانت عيناك آخر القلاع ، ولقد احتلوها ، كان فمك آخر السدود ، ولقد فتحوه .
حين سمعتُ حديثه ، فكرتُ في قلبي النابض مع قلوبهم ، في عقلي الذي فكر مع عقولهم ، في يدي التي ضربتْ مع أيديهم ، ونظرتُ إلى علبة الصبغ فوجدتها قد أفرغتْ على الأرضية كل مخزونها ، ونظرتُ إلى الفرشاة ، فوجدتها قد ساءتْ ، ونظرتُ إلى وجه الرفيق شافي فوجدته يبكي ، ونظرتُ إلى وجهي في فخذ المرأة ، وفي نهديها ، فوجدته لم يكتمل ، فبكيتُ .


ناصر سالم الجاسم - السعودية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى