عبدالسلام بنعبد العالي - الكتابة في لغة أخرى، كتابة أخرى

كتب جاك دريدا في رسالة إلى صديق يابانيّ شارحا له صعوبات نقل لفظ déconstruction إلى لغة أخرى:" إنني لا أرى في الترجمة حدثا ثانويا أو متفرّعا بالقياس إلى لغة أصيلة أو نصّ أصليّ. وكما جئت على قوله منذ وهلة، فإنّ déconstruction هي مفردة قابلة أساسا للإبدال بكلمة أخرى في سلسلة من البدائل. ويمكن أن يتحقّق هذا بين لغة وأخرى أيضا. سيتمثل حظ الـ"تفكيك" في أن تتوفّر اليابانية على مفردة أخرى ( هي نفسها وسواها) للتعبير عن الشيء نفسه (نفسه وسواه)، للكلام على التفكيك واجتذابه إلى محلات أخرى، وكتابته وخطّه في كلمة تكون أجمل أيضا. عندما أتحدّث عن كتابة الآخر هذه، التي قد تكون أجمل، فأنا أفهم الترجمة، بدهيا، باعتبارها مجازفة القصيدة وفرصتها".
يصرّ دريدا هنا على التمييز بين الأصل والترجمة من جهة، وبين الأساسيّ والثانويّ من جهة أخرى، فليست علاقة الأصل بالترجمة علاقة أساسيّ بثانويّ، ولا هي حتّى علاقة فرع بأصل. كما أنّ الترجمة، أو ما يدعوه دريدا هنا كتابة الآخر، ليست بالضرورة تدهورا وسقطة تبتعد فيها النُّسَخُ عن أصولها. إنها اغتناء يحمل المعنى وسواه، بل إنّها مجازفة تجتذب المعاني نحو محلاّت أخرى وقد تسفر عمّا لم يكن في الحسبان. لذا يستخلص في مكان آخر :" إنّ العمل لا يعيش مدة أطول بفضل ترجماته، بل مدة أطول، وفي حلّة أحسنmieux ، انّه يحيى فوق مستوى مؤلفه" au-dessus des moyens de son auteur فوق مستواه يعني أساسا خارج رقابته وخارج سلطته autorité من حيث هو مؤلف وauteur ، فوق مستواه يعني أنّ المؤلف لا يملك أمامه حيلة. ذلك أنّ المؤلّف سرعان ما يتبين عند كلّ ترجمة أنّه عاجز عن بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوّعت مشاربه اللغوية والثقافية. فالترجمة ترسّب بقايا تنفلت من كلّ رقابة شعورية، وتجعل المعاني في اختلاف عن ذاتها، لا تحضر إلا مبتعدة عنها مباينة لها، خصوصا عندما تكون مرغمة على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات. إنها تجعل الأصل في ابتعاد عن ذاته يهجر موطنه الأصليّ ومكانه المميّز كي يعيش قي نسخه، ويتغذّى من حبرها حتى لا نقول من دمها.
بفضل الترجمات إذن فإنّ النصّ لا يبقى ويدوم فحسب، لا ينمو ويتزايد فحسب، وإنما يبقى ويرقى sur-vit.
كيف نفهم هذا الرقيّ، هذا الارتقاء؟ غنيّ عن البيان أنّ الأمر لا يتعلّق، ولا يمكن أن يتعلّق بارتقاء قيميّ بمقتضاه تكون الترجمات أكثر من أصولها جودة وأرقى قيمة أدبية وأعمق بعدا فكريا. ليس الارتقاء إلا انكشاف ما يظلّ غائبا عن صاحبه مغمورا في لغته، ولا ينكشف إلا في حضن لغة أخرى، ولا يظهر إلا إذا كتب من جديد، لا يظهر إلا في "كتابة الآخر"، لا ينجلي إلا في/ وكـ كتابة أخرى.



عبد السلام بنعبد العالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى