إيتالو كالفينو - بزوغ ضوء النّهار.. ت: مبارك وساط

في كل مرة، يبدأ الشّيخُ الكلام بتأكيدِ أَنَّ ما وَرَدَ في فقرةِ الاستهلال، ذاتِ الطّابَعِ العِلْمي، صحيحٌ، بناءً على تجربة شخصيّة عاشَها في ماضٍ سحيق، وبعدها يُباشِرُ سَرْدَ ذكرياته عن التّجربة المذكورة. بهذه الصّورة، يُصْبِحُ النّص القصصي في “كوسميكوميكس” مجالاً تلتقي فيه الكوسمولوجيا – باعتبار أنّ ذكريات صاحبنا هي عن بدايات تشكّل الكون والتّحوّلات الكُبْرى التي طَرَأَتْ عليه…- بالسّرد القصصيّ المنفتح على الغرائبيّة وعلى الخُرافة…
مِنْ أَجْلِ أنْ نُوَضِّحَ نَهْجَ كالفينو في هذه القصص، نُقَدِّمُ هذين المَثَلَيْن: – في القصّة الأولى من المجموعة، وعنوانُها “المسافة إلى القمر” ، يتمّ الابتداء بفقرة قصيرة، حيثُ تُعْرَض فكرة عِلْمِيّة مفادُها أنّ القمر، في ماضٍ سحيق، كان قريبًا من الأرض. يلي تلك الفقرة القصيرة بياضٌ، وبعده، نجِدُ الشّيخ المُسِنّ يُعَلّقُ على مُحتوى الفقرة المذكورة، بقوله: « أعرفُ هذا جيّداً! لا تستطيعون، أنتم، أنْ تتذكّروا ذلك، أمّا أنا فأستطيع. لقدْ كان فوق ظهورنا باستمرار، أعني القمر…»، وهكذا يبدأ في سرْد قِصّةٍ طويلة، تتبدّى لنا في ثناياها شخصِيّاتٌ ذاتُ أسماء تستعْصي على النُّطق، وتروي لنا عن وقائعَ وعلاقات، وعنْ حُبٍّ يائس وعواطفَ مشبوبة… – في قِصّةٍ أُخرى، بعنوان: “العمّ المائيّ“، تُطْلِعُنا الفقرة العِلْميّة التّمهيديّة على أنّ الفقريّات الأولى التي تَرَكت العيشَ في المياه خلال العَصْر الفَحْمِيّ من أجل أنْ تَحْيا على الأرض، كانتْ سليلةَ أسماكٍ ذاتِ عظامٍ، وكانَ لِكُلٍّ من تلك الفقريّات رئتان و«زعانف يُمْكِنُها أنْ تطْويَها تحت البَدَن وأنْ ُتُصبِحَ قوائمَ لها على الأرض»… إثْرَ هذا، يتدخّلُ صاحِبُنا “ك ف و ف ك“، فيقول: «وَقْتَها، كان قدْ أَصْبَحَ واضِحاً أنّ أزمنةَ العيش في المياه قد انتهتْ، وكان عددُ الذين يُقَرّرون أنْ يَقوموا بالخطوة الكبيرة يتزايدُ يوماً بعد يوم، ولمْ تكنْ هنالك من عائلة إلّا وكان واحدٌ من أفرادِها العزيزين عليها قد انتقل إلى البرّ…». ويروي لنا كيف أنّه وعائلتَه كانوا قد صعدوا إلى البرّ، فلمْ يرفض التّخلّي، مِنْ بينِهِمْ، عن العيش في المياه سوى عمِّهِ “نبَا نْغَا“!.. ولَكَمْ سيجِدُ “ك ف و ف ك” نفْسَهُ في مواقف مُحْرِجة لكونِ عمِّه ذاك كان في الواقع… سمكة!..

وُلِدَ الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو في إحدى ضواحي هافانا (عاصمة كوبا)، سنة 1923، وتُوُفِّيَ في مدينة سيِينَا، بإيطاليا، سنة 1985. عاد والداه إلى إيطاليا وهو طِفل. شارك في المقاومة الإيطالية خلال الحرب العالميّة الثّانِية، واستلهم من تجربته تلك كتاباته الأولى (“الطّريق إلى بيوت العناكب“، “الغُرابُ هو آخِرُ مَنْ يَأْتي“…)، لكنّه سيشتهر على نطاق واسع باعتباره كاتباً كبيراً، بعد أنْ تَظهرَ له ثُلاثِيّة “أسلافُنا“، التي تتشكّل من الرّوايات التّالية، المُستقلّة عن بعضها، والتي يجمعُ بينها الطّابع العَجائبيّ وكونُ كلٍّ منها ذات خلفيّة تاريخيّة تعود إلى ما قبل قرون، وهي: “الفِسْكونت المشطور“، “البارون المُعلَّق“، “الفارس اللاموجود“. من أعمال كالفينو الأخرى: “كوسْميكوميكس” ، “الزّمن الصِّفْر” (وهي مجموعة قصص، بعضُها نلتقي فيه مُجَدَّداً بسارد قصص “كوسميكوميكس“)، “المدن اللامرئيّة“، “لو أنّ مُسافِراً في ليلة شتاء“… ولإيتالو كالفينو عددٌ من الكتابات النّظريّة في الأدب.
فيما يلي، قصة كالفينو المختارة :
………………..

بزوغ ضوء النّهار

لقد أوضح ج. ب. كويبر أنّ كواكب المجموعة الشّمسيّة، فيما كانت الظّلمات تلفّها، بدأتْ في التّصلّب نتيجةَ تكاثفِ تشكيلٍ سديميٍّ، مائع ومن دون هيئة محدّدة. كان البرد والظّلام يغمران كلّ شيء. وبعد ذلك بزمن، بدأت الشّمس تتركّز حتّى تقلَّص حجمها إلى ما هو عليه الآن، تقريباً، وهكذا ارتفعتْ حرارتها وزادت في الارتفاع إلى أن بلغتْ آلاف الدّرجات، وبدأتْ تبثّ إشعاعات في الفضاء.

نعم، كان الظّلام مُخَيِّمًا بشكل مثير – أكّدَ “ك ف و ف ك“ الشّيخ– ، وكنتُ أنا طفلاً ما أزال في تلك الحقبة، فبصعوبة شديدة أستطيعُ تذكّرها. كنّا نتخذ لنا مكاناً هناك في العادة، فيكون ثمّة الأب والأمّ، والجدّة “ب ب‘ ب“، وأخوال زائرون، والسّيّد “ه ن و“، الذي أصبح فيما بعد حصاناً، إضافة إلينا، نحن الأصغر سِنّاً. على التّشكيل السّديمي – ويبدو أنّي حكيْتُ هذا مرّات عديدة – كنّا متمدِّدِين كما قد يقول المرء، مُسَطَّحي الأجسام على أيّ حال، لا تصدر عنّا حركة البتّة، وكنّا نترك أنفسنا ننزاح نحو الجانب الذي يتمّ منه الدّوران. لم نكن نتمدّد بالخارج، على سطح التّشكيل السّديميّ، أتفهمون؟ كلّا، فالبرودة كانت شديدة هنالك؛ بل كنّا تحت ذلك السّطح، بداخل طبقة من المادّة المائعة والمُحبّبة، كما يكون الإنسان، وهو في سريره، مدثّراً بأغطية مثبّتةِ الحواشي تحت الحَشِيّة. وما من وسيلةٍ لقياس الزّمان؛ ففي كلّ مرّة كنّا نشرع خلالها في عَدّ دورات التّشكيل السّديميّ، تكون هنالك اعتراضات، إذْ في الظّلام، كانت تنقصنا نقاط استدلال؛ ولذا كان ينتهي بنا الأمر إلى التّشاجُر. هكذا فضّلنا أن نَدَعَ القرون تمرّ كما لو كانتْ دقائق؛ لمْ يكنْ بمقدورنا سوى أن ننتظر، وأن نُبقيَ أجسادَنا مُغطّاة أطول ما نستطيع، وأن نغفو بين الفينة والأخرى، وأن ننادي بعضنا من حين لآخر لنتيقّن أنّنا كنّا لا نزال جميعاً في مواضعنا؛ وبالطّبع، كان ينبغي أنْ نحكّ أجسامنا، فعليّ الإقرار بأنّ تلك الحركة المضطربة للجُزَيْئات لم يكن لها من مفعول سوى أن تُسَبّب لنا حكّة شديدة مُضجرة.
ماذا كنّا ننتظر، هذا ما لم يكن بوسع أحد أن يُحدّده؛ فلا شكّ أنّ الجدّة “ب ب‘ ب” كانت ما تزال تتذكّر الزّمن الذي، خلاله، كانت المادّة تتناثر بشكل منتظم في الفضاء، مثلما الضّوء، والحرارة؛ وبالرّغم من كلّ المبالغات التي قد تحفل بها حكايات العجائز، فتلك الأزمنة كانت، على أيّ حال، أحسنَ حقّاً، بصورة ما؛ وبالنّسبة إلينا، فقد كان علينا أن ننتظر انصرام ذلك الليل المَهول.
وقد كانت أختي “ج‘ د (و)ن” الأحسنَ حالا بسبب مزاجها الانطوائيّ: لقد كانت طفلة منعزلة، وكانت تحبّ الظّلام. والأماكن التي كانت تختارها لتبقى فيها كانت منتحية، على حافة التّشكيل السّديميّ، وكانت تتأمّل الظّلام، تاركةً حبّات الغبار الدّقيقة تنساب فيما يشبه الجدول الصّغير، بينما تتحدّثُ هي إلى نفسِها وتندّ عنها ضحكات مقتضبة شبيهة بِشلّالِ غبارٍ يَهوي سريعاً، وكانت تدندن، وسواء أكانتْ نائمة أو مستيقِظة، فقد كانت تترك نفسها تسرح في عالم الأحلام. ولم تكن أحلامها شبيهة بما كنّا نحن نحلم به، فقد كنّا نحلم بتلك الظّلمة، حيثُ نقيم، إذْ لمْ يكنْ هنالك شيءٌ غيرُها يراود أذهاننا؛ أمّا هي فكانت ترى في نومها – حسبما كنّا نفهم من هذياناتها – ظلمةً أكثر عُمْقاً بمئة مرّة، وذات طابع متنوّع، ومخمليّة.
كان أبي هو أوّل مَن لاحظ أنّ شيئاً ما كان يتغيّر. وقد كنتُ أنا نائماً، وإذا بصوته الجهوريّ يوقِظُني:
– يا جماعة! ها هنا لنا موطئ قدم!
تحتنا، كانت مادّة التّشكيل السّديميّ، المائعة فيما قبل باستمرار، قد بدأت تتكاثف.
في الحقيقة، فإنّ أُمّي كانتْ، قبل ساعات من تلك اللحظة، قد بدأتْ تتقلّبُ في هذا الاتّجاه ثمّ في ذاك، وتُردّد: « آه، لا أعرف أيّ وضع أتّخذ!». وإذا كنّا قد فهمناها، فإنّها، باختصار، ستكون قد استشعرتْ تغيُّراً في المكان الذي كانتْ مُسْتلقيةً فيه، ذلك أنّ كتل الغبار الدّقيق لم تعد على هيئتها السّالفة: ناعمةً، مرنة، منتظمة، بحيثُ يمكن للمرء أن يعبث وسطها متى شاء من دون أن يترك أثراً، بل كان يَحدث فيها ما يشبه هبوطاً أو انخفاضاً، خاصّةً في المكان الذي كانت تستند إليه هي بكامل ثقلها. وكان شعورها أنّها كأنّما تَجُسّ فيما تحتها ما يماثل كمّاً من الحَبّ أو امتداداتٍ ثخينة أوْ مادّةً ما مُتخثّرة، ويمكن أن يكون ما جَسّته مردوماً على بعد مئات الكيلومترات في الأسفل، دون أن يمنع هذا إمكانية الإحساس به عبر طبقات الغبار الدّقيق النّاعم. في العادة، لم نكن نعير كبير اهتمام لحدوس مماثلة لأمّي: فبالنّسبة إليها هي، المسكينة، ذات الحساسِيّة الشّديدة، والتي لم تكنْ بعد في عنفوان الشّباب، لم يكن الوضع الذي كان عليها أن تبقى عليه هو الأكثر ملاءمةً لحالة أعصابها.
ثمّ جاء دور أخي “ر و ز ف س“، الذي كان طفلاً في تلك الأيّام، فقد سمعته في لحظة ما – كيف أعبّر عن هذا؟ – سمعته يخبط ويحفر، وفي عبارة واضحة: يتحرّك بشدّة وبلا هوادة، وسألتُه:
– خَبِّرْني، مالذي تفعله؟
قال لي:
– إنّني ألعب.
– تلعب، ولكن بماذا؟
– بشيء، قال هو.
أتفهمون؟ تلك كانت المرّة الأولى. فلم توجدْ قَطّ، مِن قَبْل، أشياء يُمكن اللعب بها. وكيف تريدون منّا أن نلعب في ذلك الزّمان؟ أنلعبُ، وقتها، بتلك المادّة الغازيّة الدَّبقة؟ سيُتيحُ ذلك تسلية جميلة، لكنّها لم تكن تُلائمُ حقًّا إلّا أختي “غ‘ د (و)ن“. فإذا كان “ر و ز ف س” قد انهمك في اللعب، فذلك يعني أنّه عثر على شيء جديد؛ وقد بلغ به الأمر حدّ أنّه، بميله المألوف إلى المبالغة، قال إنّه عثر على حصاة. كلّا، لا يتعلّق الأمر فعلاً بحصاة، لكن، بلا شكّ، بقطعة مادّة أكثر صلابة من الغاز، أو، إذا فضَّلْتُم، أقلّ منه غازِيّةً. إنّه لم يلتزم قَطّ الدّقّة الشّديدة بخصوص هذه المسألة، بل وأنشأ حولها ما تبادر إلى ذهنه من حكايات؛ وحين جاءتء حقبةُ تشكُّل النّيكل، التي لم يكن فيها حديث إلّا عن النّيكل، قال: «هذا ما كنتُ عثرتُ عليه: قطعة نيكل، لقد كنتُ ألعب بقطعة نيكل!»، ومن هنا جاءته تلك التّسميّة: «”ر و ز ف س” الذي من نيكل» (وليس لأنّه، كما يقول بعضهم اليوم، كان قد أصبح من نيكل، إذْ إنّه لم يستطع، نظرا للتّأخّر الذي لزمه، أن يتجاوز المرحلة اللاعضويّة؛ إذن، ليس ذاك هو أصل تلك التسمية: وأقول ما أقول حُبّاً في الحقيقة وليس لأنّ الأمر يتعلّق بأخي: لقد كان على شيء من التّأخُّر، حقيقةً، لكنّه لم يكن من النّمط المعدنيّ، بل كان بالأحرى من الصّنف الغَرَوانِيّ؛ وتلك كانتْ سِمَته، حدّ أنّه، في وقت كان لا يزال خلاله صغيرا جِدّاً، تزوّج بطحلبة – إحدى أوائل ما ظهر من طحالب– وبعدها، لم نعد ندري شيئاً من أمره.)
بإيجاز، فقد بدا أنّ الجميع أحسّوا بشيء ما، فيما عداي. لا شكّ أنّي أتميّز بشرود الذّهن. وقد سمعت، لا أدري أكان ذلك أثناء نومي أم بعد أن استيقظت، أبي يقول مندهشاً:
– هنالك ما يُمكِنُ لَمْسُه! إنّ لنا موطئ قدم!
لم يكن لقوله هذا من دلالة (فقبل ذلك اليوم، لم يكن شيء قد لَمَسَ شيئًا، هذا مؤكّد)، لكنّ ذلك القول اكتسب دلالة في اللحظة نفسِها التي خرج خلالها من فمه، بمعنى أنّه دلَّ على ذلك الإحساس الذي بدأ يتشكّل لدينا – وهو إحساسٌ مُقَزِّزٌ قليلا – بأنّ ما يُشْبِهُ طبقةَ وَحْلٍ كانتْ تَمُرُّ مِنْ تحتِنا، منبسطةً، وأنّنا كُنّا، فيما يبدو، نرطُمُها فتجعلنا نثِبُ إلى أعلى. وأنا قُلْتُ، بنبرة فيها لوم:
– آه! جدّتي!
كثيرًا ما تساءلْتُ، فيما تلا ذلك، لماذا كانت ردّة فِعْلي الأولى هي مؤاخذة جَدّتنا. فالجدّة “ب ب‘ ب“، نظراً لأنها حافظتْ على عاداتها المنتمية إلى زمن آخر، كانت تقوم بأمور في غير محلِّها؛ فلأنّها كانت ما تزال تعتقد أنّ المادّة تنتشر بشكل منتظم، اعتَبرتْ، على سبيل المثال، أنّه كان يكفي رمي الأزبال كما اتّفق وستتخلخل كثافتها ونراها تختفي في البعيد. والواقع أنّ عمليّة التّكاثُف كانتْ قد بدأت منذ فترة من الزّمن، وهذا يعني أنّ القذارة كانتْ تغدو سميكة فوق الجُزَيئات بصورة لا تَعود بالإمكان إزالتُها، لكنّ الجدّة لم تكن قادرةً على إدخال هذا إلى ذهنها. وهكذا، فبصورة لاشعوريّة، ربطتُ هذا الحدث الجديد المتمثّل في «إنّ لنا موطئ قَدَم!» بزلّةٍ ما أقدمتْ عليها جدّتي، ولذا صدرَ عنّي ذلك القول التّعَجُّبِيّ.
وجاء جواب الجدّة:
– ماذا هنالك؟ هل عثرتَ على التّاج الضّائع؟
إنّ ذلك التّاج كان عبارة عن قطعة إهليلجيّة صغيرة من المادّة المُكوِّنة للمَجَرّة، ولا أحد يدري أين عثرتْ عليها الجدّة خلال الكوارث الكونيّة الأولى، لكنّها بقيتْ تنقلها معها باستمرار لتتّخذ فيها مكاناً. وفي لحظةٍ ما، خلال الليل الكبير، ضاع التّاج، واتّهمتني جدّتي بأنّني أخفيتُه عنها. ولا شكّ أنّي، حقّاً وصِدْقاً، كنتُ دائم الكراهيّة لذلك التّاج، لفرط ما كان وجوده يبدو نشازاً وغيرَ معقول على التّشكيل السّديميّ حيثُ كنّا، لكن ما كان يمكن أنْ أؤاخَذ عليه هو، في الحدّ الأقصى، أنّني لم أكن أحرسه باستمرار، كما كانت الجدّة تطلب.
وحتّى أبي الذي كان يُظْهر لها الاحترام التّامّ على الدّوام، لم يستطع ثَنْيَ نفسه عن إثارة انتباهها:
– لكنْ عليكِ أن تدركي، يا أمّي، أنّ هنالك شيئاً ما بصدد الوقوع، فيما ينصبُّ اهتمامكِ أنت على استرجاع هذا التّاج!
– آه، لقد قلت وأعدت بأنّي لا أجد إلى النّوم سبيلاً! قالتْ أُمّي (وهذا التّدخّل كان، أيضاً، غيرَ متلائم مع الموقف).
إثْرَ هذا سمعنا أصواتاً قويّة: «بوَاهْ! واهْ! سگرّْرْرْ!» وفهمنا أنّ أمْراً ما لا شكّ وقع للسّيّد “ه ن و“: فقد كان يتجشّأ ويبصق دون تحفُّظ.
–سيّد “ه ن و“! سيّد “ه ن و“! تماسكْ واعتدِلْ! لكنْ، أين يمكن أن يكون قد مضى؟ بدأ أبي بالقول.
مُتَلَمِّسين سبيلنا في هذه الظّلمات التي ليس بها ولا بارقة ضوء، أفلحنا في الإمساك به وَرَفْعِهِ إلى سطح التّشكيل السّديميّ من أجل أن يسترجع أنفاسه. وقد مَدَّدْناه على تلك الطّبقة الخارجيّة التي كانتْ تكتسب قِواماً، فتصبح متخثِّرة وزَلِقة.
– واه! إنّه ينغلقُ عليّ، هذا الشّيء! كان السّيّد “ه ن و” يُحاول أنْ يقول (فهو لم يَكنْ قَطُّ ذا موهبة كبيرة فيما يَخُصُّ القدرة على التّعبير). ننزل، ننزل، ونبتلِع! سكررراه!
وكان يبصق.
فالجديد، الآن، على التّشكيل السّديميّ، كان هو أنّ من لا يأخذ الحذر، ينتهي به المطاف إلى أن يغوص. وأمّي، بالغريزة التي للأمّهات، كانت الأولى التي فهمت ذلك. وقد نادتْ بصوت جهوري:
– يا أطفال، هل أنتم جميعاً هنا؟ أينكم؟
والواقع أنّنا كنّا قد تركنا أنفسنا نشرد بعض الشّيء، ففيما مضى، حين كان كلّ شيء في مكانه، منتظماً لقرون، كان ديدننا الحرص على ألّا نتفرّق، أمّا الآن، فقد غاب ذلك عن أذهاننا.
– اِلزموا الهدوء. ولا يبتعِدَنْ من بينكم أحد، قال أبي. “غ‘ د (و)ن ! أين أنتِ؟ والتّوأمان؟ من رأى منكم التّوأمين فليقلها!
لمْ يُجِبْ أحد.
– آه! لقد ضاعا! قالت أمّنا وهي تصرخ.
كان أخواي الصّغيران دون السّنّ التي يستطيعان فيها أنْ يُبَلِّغا الآخرين أمراً ما، ولذا كان من السّهل أنْ يضيعا، وإن كانا مَحروسَيْن باستمرار.
– سأمضي للبحث عنهما، قُلْت.
– نعم، “ك ف و ف ك“، اِمْضِ، هذا جيّد! قال كلّ من أبي وأمّي.
ثمّ أضافا، وقد أعادا النّظر، على الفور، في ما قالاه:
– لكنّك إذا ابتعدت، ستضيع أنت بدورك! اِبْقَ هنا!… على أيٍّ، اِمْضِ، لكنْ أخْبِرْ بالمكان الذي توجد فيه: اصْفِرْ!
بدأتُ أمشي في الحُلْكة، في المَوْحِلِ الذي آلَ إليه التّشكيل السّديميّ في تكاثُفِه، وأنا أصفر بلا انقطاع. قلت: أَمْشي، وأعني التّحرّك على السّطح بطريقةٍ ما، الأمر الذي كان بعيداً عن أن يتخيّله المرء دقائقَ معدودة قبل تلك اللحظة، والذي أصبح، بحلولها، كلَّ ما يستطيعُ محاولة القيام به، ذلك أنّ المادّة كانتْ رخوة حدّ أنّ المرء، إذا لم يتّخذ الحذر، فعوض أن يتقدّم على السّطح، سيغوص في خطٍّ منحرف، أو حتّى عموديّاً، ويجد نفسَه مدفوناً. لكنّي في أيّما جهة سرت، وفي أيّ مستوى تمّ ذلك، فإنّ حظوظ عثوري على أَخَوَيّ الصّغيرين كانت متساوية: والله أعلم بالمكان الذي تسلّل إليه هذان الاثنان.
فجأةً، هويت وتدحرجت؛ فكما لو أنّ أحدهم قام – بحسب لغة هذه الأيّام– ب“عرقلتي“. تلك كانت المرّة الأولى التي أسقُطُ فيها، فأنا لم أكن أعرف حتّى كيف تكون «السّقطة»؛ لكنّنا كنّا ما نزال فوق شيء ما ناعم، ولذا لم يتسبّب لي سقوطي في أيّ ضرر.
– لا تَسِرْ هناك، قال صوت؛ يا “ك ف و ف ك“، أنا لا أريد ذلك.
ذاك كان صوت أختي “غ‘ د (و)ن“.
– لماذا؟ ماذا يُوجَد هنا؟
– قُمتُ بأشياء مع الأشياء… قالت هي.
لقد لزمتني لحظة لأدرك، عن طريق التّلمّس، أنّ أختي، إذْ كانت تفرك ذلك النّوع من الوحل، استخرجتْ منه كومةً من الأشياء: قُبَيْبَاتٍ، أشياءَ مُحَزّزة وسِهاماً.
– لكن، ما الذي تفعلينه؟
كانتْ “غ‘ د (و)ن” تُقَدِّم دائما أجوبة ليس لكلماتها ضابط ولا رابط:
– خارِجٌ ما في داخله داخل. تسالّلّلّلّلّ، تسالّلّلّلّلّ، تسالّلّلّلّلّ…
تابعتُ مساري، الذي تخلَّلَتْه سقطات. ثمّ حدثَ أنْ تعثّرتُ بالأبديّ الحضور، السّيّد “ه ن و“، الذي كان قد عاد في النّهاية، ورأسه يتقدّمه، إلى نطاق المادّة التي كانت تتكاثف.
– هيّا، يا سيّد “ه ن و“، يا سيّد “ه ن و“، أيَصِحّ أنّك لا تستطيع البقاء واقفاً!
وبدأتُ أساعده مُجَدّداً، ليخرج من ورطته، بدفعه من حين لآخر بقوّة، ومن تحت إلى فوق، إذْ إنّي كنتُ، أنا نفسي، منغمراً بكاملي في المادّة الرّخوة.
كان السّيّد “ه ن و” يسعل وينفخ ويعطس (فالبرد كان قد اشتدّ بصورة لم نَشْهد لها من قبلُ مثيلاً) حين برز إلى السّطح، وتحديداً إلى تلك البقعة من السّطح التي كانت تجلس بها الجدّة “ب ب‘. ب“. واهتزّت الجدّة إلى أعلى، وفي اللحظة نفسِها، تملّكها الانفعال:
– الحفيدان! لقد عادا… الحفيدان!
– كلّا، أُمّاه، انظُري، إنّه السّيّد “ه ن و“!
إنّها لم تعدْ تفهم شيئًا.
– والحفيدان؟
– إنّهما هنا! قلتُ لها بصوت جهوريّ. وهنا أيضًا يوجد التّاج!
لا شكّ أنّ التّوأمين، منذ وقت طويل، كانا قد هيّآ لنفسيهما مخبأً سِرِّياً، في سُمْك التّشكيل السّديمي، وهما اللذان خبّآ التّاج في هذا المكان السُّفْلِيّ ليلعبا به. ففي الوقت الذي كانت المادّة خلاله قد بقيتْ شِبْهَ سائلة هنالك في الوسط تماماً، وفي غياب الجاذبيّة، كان بمستطاعهما أن يقوما حتّى بقفزات خطيرة على حياتهما نافِذَيْنِ عبر التّاج، لكنّهما، في هذه المرّة، قد وجدا نفسيهما أسيريْ نوع من الجبنة البيضاء الإسفنجِيّة التي سدَّتْ التّاج، وهما نفسهما كانا يشعران بأنّهما يُضْغطان بشِدّة مِنْ كلّ الجهات.
– تمسّكا جيِّدًا بالتّاج – حاولتُ أنْ أُفْهِمَهُما هذا– لأحاوِل أن أُخْرِجكما من محبسكما، أيّها الأبلهان الصّغيران!
وبدأتُ أجذب وأجذب، وفي لحظةٍ ما، وحتّى قبل أنْ يتبيّنا وضعهما الجديد، كانا يتشقلبان على السّطح الذي كانَ غِشاءٌ قِشْريٌّ رقيق، شبيه بزلال البيض، يُغَطّيه الآن. أمّا التّاج فإنّه، على العكس من هذا، ما إنْ ظهر حتّى تحلّل. فهل كان بالإمكان استيعاب الظّواهر التي كانت تحدث في ذلك الزّمن، ومن ثمَّ شرحُها للجدّة “ب ب‘ ب“؟
في هذه اللحظة بالضّبط، كما لو لم يكنْ بإمكانهم اختيارُ وقتٍ أفضل، نَهَضَ الأخوال ببطء وقالوا:
– حسناً. إنّه لوقت متأخّر، والله يعلم ما الذي يقوم به أطفالنا، نحن قلقون بعض الشّيء، وقد سعدْنا برؤيتكم، لكنْ حان الآن وقتُ الذّهاب.
لا يمكننا القول بأنّهم كانوا على خطأ؛ بل كان هنالك حقّاً، ومنذ وقت لا بأس بطوله، ما يجعل المرء يتخوّف ويمضي إلى حال سبيله بسرعة؛ لكنّ هؤلاء الأخوال، رُبّما بسبب المكان الشّديد الانتحاء الذي كانوا يقطنون به في العادة، كانوا من الصّنف الذي يستشعر الحرج. وإذن، فلا شكّ أنّهم، حتّى تلك اللحظة، كانوا كالجالسين على الأشواك، لكنّهم تلبّثوا صابرين.
قال أبي:
– إذا أردتمْ أن تذهبوا، فأنا لن أستبقيَكم؛ ولكن، فكّروا جيّداً، فلربّما يكون أكثرَ مُلاءَمةً أنْ تنتظروا حتّى يتّضح الوضع قليلا، ففي هذه اللحظة، لا يعرف المرء أيّ أخطار يمكنها أن تظهر في طريقه.
جملة القول هي أنّ ما قاله أبي كان تجسيداً للحِسّ السّليم.
لكنّهم أجابوا:
– لا، لا، شُكْراً على كُلِّ ما قُلت، وكلّ شيء كان على ما يُرام، لكنّنا نحن، الآن، قد أتعبناكم بما فيه الكِفاية.
وأضافوا أقوالاً أخرى خرقاء. وصفوة القول إنّنا، من جهتنا، لم نكن نفقه الكثير في شأن ما كان يحدث؛ أمّا هُمْ فلم يكونوا قد أدركوا شيئاً مِمّا يقع.
أولئك الأخوال كانوا ثلاثة: خالة وخالان، إذا شئنا الدّقّة. كانوا طوالاً جِدّاً ومتماثلين، تقريباً؛ ونحن لم نفهم أبداً مَنْ مِن الثّلاثة كانَ أخَ مَنْ أو زوجَ مَنْ، ولا كنّا نعرف أيَّ علاقةٍ عائليّة، تحديداً، كانتْ تربطنا بهم في تلك الأزمنة، فأشياء كثرة كانت تبقى مبهمة.
وقد بادروا إلى الذّهاب، واحِداً تِلْوَ الآخر، ومضوا، كلٌّ في اتّجاه، صوبَ السّماء السّوداء، ومن حين لآخر، كما لو كانوا يتوخّون البقاء على اتّصال ببعضهم، كانَ يصدر عنهم: «أوه! أوه!». كانوا يلجؤون باستمرار إلى أسلوبهم ذاك، ولم يكونوا قادرين على القيام بأيّما شيء بقليلٍ من المنهجيّة.
فَوْرَ انصرافهم، أصبحت «أوه! أوه!» تلك تُسْمَع من أماكن نائية عنّا، في وقت كان ينبغي أن يكونوا خلاله ما يزالون على بُعْدِ خُطواتٍ منّا. وكانت عباراتهم المستغرِبة تُسْمَعُ أيضاً، ولم نكن نفهم ما الذي تعنيه: «لكنْ ها هنا، ثمّة الفراغ!»، «لكن، مِن هنا، يستحيلُ المرور!»، «ولماذا لا تجيء إلى هنا؟»، «وأين أنت؟»، «لكن، اِقْفِزْ، إذنْ!»، «أقفز على ماذا، إذن!»، «لكنّنا هنا نعود إلى الخلف!». وجملة القول إنّنا لم نكن نفهم من كلّ ذلك شيئاً، فيما عدا أنّ بيننا وبين الأخوال كانت قد أصبحتْ تمتدّ، شيئاً فشيئاً، مسافاتٍ مَهُولة.
كانت الخالة، التي انصرفت بعد الآخَرَيْن، هي التي زعقتْ بِعبارات أكثر وضوحاً: «وأنا، الآن، أبقى وحيدَةً على قِمّة هذا الشّيء الذي انفصل…»
وكان صوتا الخالين، الضّعيفان جِدّاً الآن بفعل البعد، يُكَرّران: «بلهاء… بلهاء… بلهاء».
كنّا منشغلِينَ بِسَبْرِ تلك الظّلمة التي تعبرُها أصوات، وإذا بالتّغيّر يحدث: التّغيّر الوحيد الحقيقيّ الذي قُيِّضَ لي أنْ أَشْهَدَه، والذي كان كلُّ شيء، بالمقارنة معه، كَأنه لَاشَيْء. وصفوة القول إنّه كان هنالك ذلك الشّيء الذي شرع في البزوغ في الأفق، تلك الذّبذبة، غير الشّبيهة بالأخرى التي كنّا، وقتَهَا، نُسَمّيها صوْتًا، ولا بتلك التي عبّر عنها القول الذي زُعِقَ به: «لنا موطئ قدم!»، ولا أيَّ واحدةٍ أُخْرى؛ كان الأمر يتعلّق بِغليانٍ ما يتمّ، في مكانٍ بعيد بالتّأكيد، ولكنّه كان يدنو، ومعنى ذلك أنّ وقتَ حدوثِه، حيثُ كُنّا، كان قد أزِف؛ وبإيجاز، ففي لحظةٍ ما، أصبحت الظّلمة مظلمةً بالتّبايُن مع شيء آخر لم يكن كذلك، أعني الضّوء. وبجهد جهيد أمكننا القيام بتحليل أكثر تركيزاً للوضع من حولنا؛ وقد نتج عنه ما يلي: أوّلاً، السّماء، سوداءُ كالعادة، لكنّها كانت قد شرعتْ في ألّا تكون سوداء تماماً؛ ثانيًا، السّطح الذي كنّا نقبع فوقه، والذي كان مُحْتَدِباً جِدّاً وذا قِشْرة مُشَكَّلَة من جليدٍ قذارتُهُ مُقَزِّزة، ها قد بدأت قِشْرته تذوب لأنّ الحرارة كانت تَقْوى بسرعة كبيرة؛ ثالثاً: ظهر ما سنسمّيه، لاحقاً، منبع ضوء، أعني كتلةً كانتْ تتأجّج وكان يفصلها عنّا فراغٌ مَهُول، كما كان يبدو أنّها كانت تقوم بتجريب الألوانِ كُلِّها، واحداً واحِداً وباهتزازاتٍ متباينة. ثمّ، فيما عدا هذا: هناك، في وسط السّماء، بيننا وبين الكتلة المتأَجّجة، كان ما يُشْبِهُ مناطق صغيرة ومنفصلة عن أيّ شيء، مُضاءة ومتنقّلة كيفما اتّفق، تدور في ذلك الارتفاع وفوقها أخوالنا أو أشخاص آخرون، يبدون ظلالاً بعيدة ويصدُرُ عنهم ضَرْبٌ من الصّرخات الثّاقبة.
لقد تمّ إذن أصعبُ الأمور: فقلبُ التّشكيل السّديميّ، إذ انقبض، أنتج الحرارة والضّوء، والآن، كانت هنالك الشّمس. والباقي كلُّه كان مُسْتمرّاً في الدّوران حولها – موزَّعاً ومُجَمّعاً في أقسام متنوّعة -: عُطارد، الزُّهَرَة، الأرض، وأُخريات أكثر بعدا، وكلّ الأشياء الأخرى، كلّ الأشياء. وإضافةً إلى كلّ هذا، كان الجوّ حارّاً بشكل لا يُطاق.
ونحن، هنالك، كنّا مستقيمين تماماً في وقفتنا، فاغري الأفواه، ما عدا السّيّد “ه ن و“، الذي بقي، من باب الحذر، جاثماً على أربع. وجدّتي، هناك، بدأت تَضحك. لقد قلتُ هذا: فجدّتي “ب ب‘ ب” كانت من زمن الإضاءة المُشَتّتة، وخلال زمن الإظلام بأكمله، كانت قد استمرَّتْ في الحديث بطريقة يُفهم منها أنّه، بين لحظة وأخرى، ستعود الأمور إلى ما كانت عليه. والآن، بدا لها أنّ تلك اللحظة كانت قد حلّتْ فعلا؛ في البداية، حاولت أن تتظاهر بعدمِ إيلاء أهمّية لما حدث، وبأنّها الكائن الذي يبدو له كلّ ما يقع طبيعيّاً؛ ثمّ، نظراً إلى كونها بقيتْ خارج اهتمام الآخرين، فقد بدأت تضحك وتُعنِّفنا:
– أيّها الجُهّال… أيّها الجهلة…
ومع ذلك، فهي لمْ تكنْ حسنة النّيّة بشكل تامّ، أو ربّما كانت ذاكرتها قد فقدتْ مِنْ قُوَّتِها. وانطلاقاً ممّا كان قد فَهم، بادر أبي إلى القول، باحترازه المعهود:
– أمّاه، أعرف ما الذي تريدين قوله، لكنْ، يبدو لي أنّ الأمر يتعلّق، رُبّما، بظاهرة مُختلفة…
وأشار إلى حيثُ الشّمس، وهتف متعجّباً:
– انظروا حول أقدامكم!
خفضْنا أبصارنا. كانت الأرض التي نقف عليها ما تزال ركاماً هَلامِياً، شَفّافًا، وكانت تزدادُ صلابة وتكتسب كثافةَ لونٍ، بدءاً بمركزها الذي كان ضَرْبٌ من صَفارِ البَيْض يتراكمُ فيه، لكنّ نظراتنا كانتْ ما تزال قادرةً على اختراقها من طرف إلى آخر، إذْ كانت تلك الشّمس الأولى تُضيئُها بِقُوَّة. وفي الوسط من تلك الفقاعة الشّفّافة، أعني الأرض، رأينا ظِلّاً يتحرّك، ويبدو كأنّما كان يسبح أو يطير. وقالتْ أُمّنا:
– ابنتي!
وبأجمعنا تعرّفنا على “غ‘ ي(و)ن“: فلربّما كانت الحرارة المُسْتعرة التي انبثقتْ من الشّمس قد أرعبتها، وجعلها ذلك، في اندفاعة من روحها المنعزلة، تغوص في المادّة الأرضيّة التي كانت تتكاثف، وها هي الآن تحاول أن تفتح لنفسها منفذاً في أعماق كوكبنا، وكانت تبدو مثلما فراشة من ذهب وفِضّة حين كانتْ تمرّ من منطقة بقيت مُضاءة وشفّافة، ثمّ تختفي في دائرة الظِّلّ التي ما انفكّتْ تتعاظم.
هتفنا:
– “غ‘ د(و)ن! غ‘ د(و)ن!”
وارتمينا أرضاً مُحاولين بدورنا أنْ نفتح لنا مسلكاً، لنلحقها. لكنّ سطح الأرض كان يتجمّد أكثر فأكثر ويصبح قشْرة ذاتَ مسامّ، وهكذا، فإنّ أخي “ر و ز ف س“، الذي كان قد نجح في حشر رأسِه بِداخل شَقٍّ في السّطح، وجد نفسه على وشك أنْ يُخنق بِعنف.
بعدها، لم نَرَ الأخت أبداً: كانت المنطقة الصُّلبة قد انتشرتْ في الجانب الأوسط من كوكب الأرض. وكانت أختي قد بقيتْ في الجهة الأخرى، ولم أعرف قطُّ شيئاً عنها، ولمْ أَدْرِ إنْ كانتْ قدْ طُمِرَتْ في الأعماق أو أمكنها أن تنجو بجلدِها من الجهة الأخرى، وذلك حتّى اليوم الذي التقيتُها فيه، بعد زمن طويل جِدّاً، فقد تمّ اللقاء في كانبيرا، سنة 1912، وكانت هي متزوّجة بشخص يُدْعى سوليفان، متقاعدٍ من الخدمة بالسّكك الحديديّة، كما كانتْ قد تغيّرتْ كثيراً، حدَّ أنّني لم أتعرَّفْ عليها إلّا بجهد جهيد.
وقد نهضنا، وكان السّيّد “ه ن و” والجدّة أمامنا، وقد أحاطتْ بكلّ منهما ألسنةُ لهب لازورديّة وذهبيّة اللون.
– “ر و ز ف س“! لماذا أشعلت ناراً في الجدّة؟ قال أبي بصوتٍ جهوريّ.
لكنّه، حين التفتَ ناحية أخي، رآه هو أيضًا مُحاطاً بألسنة اللهيب. وكنّا كُلُّنا، أبي وأُمّي وأنا أيضاً، نحترق في النّار. أو على العكس: لم نكن نحترق، بل كنّا منغمسين فيما يشبه غابةً تُعمي الأبصار، إذْ كانت ألسنة النّار تتعالى حتّى ارتفاع شديد على سطح الكوكب كلِّه، وهكذا، فقد كان هنالك جوٌّ من نار وفيه كان بإمكاننا أن نجري وأن نُحَوِّم ونطير إلى الحدّ الذي تملكَنا معه حبورٌ جديدٌ علينا.
كانت إشعاعاتُ الشّمس قد بدأتْ تُحْرِقُ أغلفة الكواكب، التي كانتْ مِن هِلْيومٍ ومن هيدروجين: وفي السّماء، حيثُ ينبغي أن يكون أخوالُنا، كانت تتدحرج كُراتٌ مُشتعلةٌ، ساحبةً خلفها أشرِطةً مُهَدّبةً تجمع بين الذّهبيّ والأزرق الفيروزيّ، مثلما تفعل بأذنابها المُذنّبات.
ثُمّ عادتِ الظُّلمة. ووقتها فكَّرْنا أنّ ما كان يُمكن أن يَقَع قد وقع. «ها قد انتهى الآن ما كان قد استجدّ، قالت الجدّة، علينا أنْ نُصَدِّقَ القُدامى».
على العكس، فالأرض كانت بالضّبط قدْ أنهت إحدى دوراتها اليوميّة. وكان الليل قد حلّ. وما استجدّ كان فحسب في طور الابتداء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى