حليمة زين العابدين - هكذا أحببت نعيمة ( أستاذة من زمن آخر) قصة قصيرة

مهداة إلى نعيمة الملوكي، أستاذتي بالقسم الثالث ابتدائي بمراكش، السنة الدراسية 66/65

زمن القحط والفقر... كان، وكان قسمنا المختلط يعكس أوضاعنا الاجتماعية.
رغم تفاوتاتها الطبقية الضئيلة، كنا متساوين في شكل لباسنا ومظهر القهر على وجوهنا... حتى الأوبئة لم تكن تميز بين فقيرنا ومترفنا.
"سواح" مرض العيون اللعين، أصاب القسم كله، عمش وعمشاوات كنا نأتي درسنا، نتلمس طريقنا إلى مقاعدنا في الظلمة، إفرازات صفراء لزجة تتراكم فوق عيوننا المريضة، تغلق ما تبقى بها من منافذ للرؤية، وغزى المرض الحكاكي أجسادنا الطرية، طفح جلدي متعفن، لم يترك منطقة على أجسامنا لم يستوطنها.
تحول قسمنا إلى طقس للحك أشبه بالجذبة على إيقاع أغنية "أمل حياتي حك، بالتي..."
أما القمل فكان الأليف والصاحب الوفي يسرح فوق فروة رؤوسنا وعلى لباسنا في أمن وأمان...
لم نكن فقراء كلنا... ولكن أسرنا كانت حديثة العهد بالمدينة، الأقدم بها، جاءها نازحا من باديته، هاربا من مجاعة وطاعون الأربعينات من القرن الماضي، وإن كان أكثرهم قد اشتغل بالتجارة، فتحسن وضعه المادي واستقر في سكن مديني، فإن نمط عيشه ظل على حالة الجفاف البدوي، مظهر البذخ عنده، فيض أكل من لحم الضأن ثم نكاح وفيض نسل... أما النظافة، فلم تكن وسائلها الحديثة تدرج في ميزانية المصروف الأسري، ليس لأنها مكلفة وشبه نادرة، أو لأنها لم تكن في المتناول، ولكن، لأنها لم تكن لها قوة الإعلان التجاري لتزاحم آنذاك ثقافة الصابون البلدي الأسود لغسل الأبدان و"تيغشت" ومحلول الرماد لغسل الملابس والأغطية.
كانت أستاذتنا وحدها، "نعيمة" تلك الأنيقة الجميلة، تفوح منها رائحة النظافة... نظافة متأصلة، هي النازح أجدادها من غرناطة الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي، مستوطنين المدينة، مدينة فاس قرب جامعة القرويين، مجاورين علماءها قرونا طويلة، قبل انتقال أجدادها القريبين إلى مدينة مراكش... لم تحدثنا أبدأ عن عائلتها العريقة، الثرية والمتضلعة في العلوم وفنون التجارة، لا من فوق متعال ولا من أسفل مساو...
حين انتشر بين تلاميذ فصلها الرمد، لم تكن الأستاذة نعيمة، مدرسة الصف الثالث ابتدائي، لتتقزز من عيوننا العمشاء ولم تتركنا للمرض يخمد لمعة الضوء بها، هاربة منا تحت ذريعة خوف انتقال العدوى إليها.
تأتي كل حصة محملة بعتادها لفتح عيوننا، تغمس قطعة قطن ناصع البياض في ماء دافئ ومالح تمسح عيني الواحد/ة منا، ثم تضع مرهما طبيا داخل كل عين.
شفينا من داء العيون وحل بنا الجرب، تمازج دمه وخيوط لباسنا وقشرة جلدنا. وحين استحال عليها علاجنا، طلبت منا أن نستدعي أمهاتنا...
كن كلهن بالمدرسة في الوقت المحدد، أمضت معهن وقتا طويلا من يوم عطلة الأحد... وحين عادت أمي للبيت كانت تردد بلهجتها: "لا أعرف كيف نسيت أن النظافة غير مكلفة وهي أولى خطوات حماية بني الإنسان"
يوم الاثنين أحضرت الأستاذة نعيمة، لكل واحد/ة منا كيسا من ثوب أنيق جدا، داخله فوطة جديدة، عبوة شامبو لاستعمالات متكررة، مشط، قطعة صابون كبيرة، ولفة إسفنج لفرك الجلد.
مر درس النظافة في غير بهرجة إعلامية، لم يسمع به وزير التربية الوطنية آنذاكَ، الدكتور يوسف بن العباس، فيأتي قسمنا، نمثل الدور أمامه ونحن نرفع شارة النصر، يبتسم بعيدا عنا، كي لا ننقل له عدوى الحك، تلتقط له صور وسط أكياسنا، تتداولها مواقع التواصل الاجتماعي، تشغل الناس عن القذارة السياسة، تلك التي عرت سوأتها مذكرة تعديل نظام البكالوريا، لتفجر انتفاضة 23 مارس1965، فلا يكون بعدها عزل من منصبه الوزاري، ولا إعلان حالة الطوارئ في البلاد، ولا ولادة اليسار الماركسي، ولا سنوات الجمر والرصاص، ولا إنصاف ولا مصالحة...
لم يكن وقتذاك تلفاز ولا نيت ولا مواقع تواصل اجتماعي... كانت الأستاذة نعيمة لا غير، تغرس فينا وعيا بالنظافة، نظافة الجسد والعقل وفي أمكنة عيشنا، تربي ذوقنا على عشق الجميل فينا وفي محيطنا، تعلمنا كيف تنسجم الألوان في الإبداع، في اللباس وكيف نستمتع بها في مكونات الطبيعة لننقل نشوة الإحساس بجمالها إلى بيوتنا، فنحاكيها كما هي، بسيطة ومدهشة.
كبر تلامذة القسم، صاروا رجالا ونساء، أكيد أنهم نجحوا كلهم في حياتهم، وقد نسوا كيف صار عشق الجمال وحب النظافة والرفع من قيمة الإنسان محددا لهويتهم... ولكنهم لن ينسوا الأستاذة نعيمة التي لم تقل يوما عن نفسها، إنها أنيقة ونظيفة أو أن صفاتها هاته انتقلت لها عبر جينات وراثة حصرية، وهي وقف على عائلتها.


* نقلا عن:
هكذا أحببت نعيمة،قصة قصيرة لحليمة زين العابدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى