كريم الأسدي - نخيلٌ ومدرسةٌ وأهل..

(من أدب المذكرات)
( اهداء : الى المعلمين والمدرسين والأساتذة الذين أفنوا أعمارهم وتفانوا في تحقيق رسالتهم التعليمية التربوية الإنسانية أنقياء ، شرفاء ، بعيدين عن الطموح بنيل مصلحة شخصية ، مترفعين عن لوثات التحزب والآيدلوجيا والانتماءات السياسية أو الدينية أو الطائفية أو الطبقية أو العرقية أو العشائرية ، مخلصين لضميرهم ومهنتهم وهم يتعاملون مع أبنائهم الطلبة ، اليهم في عيدهم عيد المعلم الآن ودائماً وأبدا . )


في منتصف أيلول من كل عام كنّا نتهيأ للعودة الى مدارسنا بعد عطلة الصيف الطويلة التي تستمر لمئة يوم!
يتزامن مع موعد رجوعنا الى المدارس في منتصف أيلول موسمُ القطاف النهائي للتمور!
في كل مدن وقرى النخيل في العراق يمنح النخيل غلته في هذا الوقت تمراً في انتظار موسم ثمرة آخر ، وبعد ان استمر موسم الثمرة لأكثر من شهرين يجتني فيه الناس من النخيل الرَطب الشهي.
مايزيد على حاجة العوائل يُهدى قسمٌ منه ويتم تسويق القسم الآخر الى البصرة عاصمة التمور في العراق والعالم!!
الرطب أشهى وأجمل وأروع من التمر بأعتقادي والأفضل منه ماكان نصفه خلالاً والنصف الباقي تمراً.
ولربما كان الرطب أروع وأجمل وأشهى أنواع الفاكهة في عموم الكوكب الأرضي ، هذا فضلاً عن قيمته الغذائية التي لا تُبارى!!
لي مع النخيل وبساتين النخيل وعوالم النخيل علاقة قوية تقارن بعلاقة الطفل بأمه ، وفي مدينة صغيرة مثل المدينة التي وُلدتُ ودرستُ فيها كان بستان النخيل يعني المتنزه والمكتبة وأحياناً الملعب وشاطيء المسبح.
علاقتنا بالنخيل وبستانه يومية ففي أيام المدرسة كنّا نحضر فيه واجباتنا المدرسية وفي أيام العطل كنّا نقصده للنزهة أو لتسلق أشجاره وقطف أرطابه.
كتبتُ في الحقيقة الكثير عن بساتين النخيل وعن هذه الشجرة الرائعة الكريمة الشامخة المباركة الطيبة الحانية ، وسأعود للكتابة في هذا الموضوع واصفاً ومسهباً ومدققاً فللنخلة علاقة بأخلاق العراقي وطبيعته الحقيقية وفطرته ، وكيف لا ووجودها في هذا البلد ممتد على مدى دهور وألفيات وقد ربّت الأنسان ورعته ، فما ان يتجاوز العراقي مرحلة الفطام حتى تبدأ علاقته بالتمر واللبن!!
بدأت علاقتي ببستان النخيل كمكتبة في الصف الخامس الأبتدائي ، وفي الصف السادس الأبتدائي كنتُ أحضرهناك للأمتحان الوزاري أو أمتحان البكلوريا مثلما كنّا نسميه في العراق!
الدروس التي تخلو من الأرقام والمعادلات مثل التاريخ والأدب كنا نقرأها مشياً حيث يختطُّ كلٌ منّا لنفسه درباً بين صفين من أشجار النخيل ذاهباً وآيباً وهو يقرأ بصوت عال.
أما دروس الرياضيات وفيما بعد الجبر والفيزياء والهندسة المستوية والمجسمة والتحليلية فانها تحتاج الى جلوس وقلم وورقة .
الصف السادس الأبتدائي كان الطريق الى الدراسة المتوسطة والثانوية ومن ثم الطريق الى عالم الكبار ، وبعده ستتغير الأزياء التي نرتديها في المدرسة ففي الأبتدائية كان مسموحاً لنا بالذهاب الى المدرسة بالدشداشة ، أما في الدراسة المتوسطة والثانوية فيجب ارتداء القميص والبنطال .
والقميص والبنطلون أو الزي الأوربي بدأ في منطقتنا في الأعم الأغلب مع جيلنا وجيل أخواننا الأكبر ، حيث يرتدي معظم آبائنا الزي العراقي التقليدي القديم بالعقال والكوفية مع الدشداشة أوالصاية.
أدينا الأمتحانات الوزارية للصف السادس الأبتدائي في مدرسة الخزرجية الأبتدائية للبنين في ناحية الفهود التابعة الى قضاء الجبايش في محافظة الناصرية ، وقالوا لنا ان أسماء الطلبة على دفاتر الامتحانات ستكون مغلقة وستذهب الدفاتر للتصحيح من قبل معلمين غرباء في بغداد أو في مركز الناصرية.
كنّا ننتظر النتائج بفارغ الصبر!
المدرسة في مدينتنا مفصل مهم جداً في حياة الناس ، فأعلان نتائج الأمتحانات والمسابقات الأدبية والشعرية والخطابية والمباريات الرياضية مناسبات تخص الجميع وجمهورها اناس المدينة من مختلف الأعمار والأماكن!!
قالوا ان أعلان وتوزيع النتائج سيتم في بيت مدير المدرسة الأستاذ شريف محمد الصالح ، وهو من أقدم معلمي المنطقة وأكثرهم حرصاً على مستوى التعليم فيها ، وقد تخرجت على يديه أجيال وأجيال!!
لم تكن هناك هواتف في البيوت بعد سوى في بيوت محدودة وفي دوائرالدولة الّا ان الخبر ينتقل بين الناس بطريقة سحرية!!
علينا ان نذهب الى بيت مدير المدرسة العم شريف الصالح أو أبو نبيل ، وبيته لا يبعد عن المدرسة سوى بعض الأمتار ، وله بابان ، باب قريب جداً من المدرسة أما الباب الثاني فينفتح على حديقة البيت ، وكانت حديقة جميلة عامرة خضراء تميّزها أوراق نبات متسلق التلفون.
طلبتُ من أبي مبلغ مئة فلس لأدفعه للمدرسة مقابل الحصول على النتيجة وهذا تقليد يشبه الواجب متبع في أوقات توزيع نتائج الأمتحانات حيث يتعين على الطلبة الناجحين فقط ، لأنهم سيفرحون !!
أعطاني أبي مئة فلس وأضاف خمسين فلساً أو درهماً ، فأصبح عندي ثلاثة دراهم!
ذهبتُ وطرقتُ الباب الذي كان مفتوحاً ، كان الأستاذ شريف يتوسط أصدقاء ووجهاء من أهل المدينة ، وقد جلسوا على الكراسي والأرائك في منتصف الحديقة أمام غرفة الضيوف ، حين لمحني قادماً صاح بأعلى صوته :
كريم .. مبروك ابني ، أنت الناجح الأول وليس على المدرسة فقط ، بل على كل مدارس الناحية وكل مدارس القضاء ، معدلك تسعون ولديك مئة في الرياضيات!
قال هذا وبريق الفخر يشع من عينيه عابراً نظارته ووجهه الأسمر باتجاه الضيوف.
دوى بين الجمهور مايشبه الهتاف والتصفيق!
كنتُ أريد ان امنح مئة فلس واحتفظ بالدرهم المتبقي لي ، ولكنني وجدتني أعطي المئة وخمسين فلساً بأكملها واستلم الورقة التي احتوت الدرجات لأعبر الجسر على فرع النهر الأول والجسر على فرع النهر الثاني والمسافة بين بيت العم أبو نبيل وبيتنا وكأنني عداء مسافات الماراثون الطويلة !!


* كتبتُ هذا النص الذي ستتبعه سلسلة نصوص من أدب المذكرات في برلين ـ في 14.09.2015

""
* عن الناقد العراقي
كريم الأسدي : نخيلٌ ومدرسةٌ وأهل* (من أدب المذكرات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى