عبد الرحمن طهمازي - أبواب هائمة.. شعر

“بقيّة القصة مع القصّاص”
الحلاج



ساءني أن أتأخَر في الانضمام اليكم ايَها
الباحثون عن الباب الخلفي للطبيعة
وقد احسستُ بغموض مؤكَّد انّ جهلي يكنز من
المجاهيل ما ينوء به حملي . لم أستطع
التخفّف من ذلك الاّ بفضل معرفتكم التي تتواطأ
معي بين الحين والحين فنحن نقوم باشتباكات قصيرة
مع المصير نخرج منها لا غالب ولا مغلوب.
اخترقنا الاضطرابُ وطالَ علينا الأمد . وها نحن
لا ندري ما الذي نفعل بقيودنا ولا ما تفعله فينا ،
فهل نحن جديرون بالذهاب معاً الى الباب الخلفي
للطبيعة دون أن نأخذ معنا لغتنا المتخالفة العاجزة المعجزة
ونتوقف هنيهة في أيّما مكان ، نحن موتى الراحة ،
ونتعرَّف على وجودنا الكامل ، حيث يتربَّع ذلك الباب
الخلفي بيننا على مستطيل كئيب : آه .. أهذا هو
الباب الذي أردناه مغلقاً واذا به مفتوح منذ
أن كان ثمّة شئ اسمه طبيعة. ماذا خسرنا وما الذي
ستخسره الطبيعة . انّ الأرباح متعادلة في الخسائر
أيضاً ، واذا تردّدنا على المصير الذي كان تقصيرنا
فادحاً في حقّه . اذنْ فالطبيعة ليس لها باب وحيد، وانّما
هي أبواب هائمة على العتبات يجثو الأفراد الذين
تلهمهم الجماهير الجاحدة. المنظر الوحيد الذي اعتدنا
عليه: مستقبل معتدى عليه نراه كلّ وقت متشرّداً
تصطفق دونه الأبواب . تلك عقيدتنا
التي يرعاها الخمول المستبدّ.
اعذريني يا ربّة القصيد التي تثوي في نثر متلكئ:
ألم تعرف بعد مطايا التجدي التي لحسن حظها لم
يعبث بها الوليد.
في بواكير الفصول يعود الصبا الصحيح الى ينابيع
الحواسّ يتلقّى الحياة في وادينا المغبون ، وهاهي تقوم
بتحسين نفسها حيث اللّذة المباغتة.
يا هذا لا تترك البلاغة الطائشة على هواها فالسبك
العراقيّ لا يقبل الهراء ، دع نقرة الوسطى خفيّة
على الدفّ الطائر وترَّفق ولا تضغط
الكلمات فالحروف النائمة فيها ستنفرط ولن يعود
السبك عراقياً ولا الصبا الصحيح صبا صحيحاً ولا
الأشياء في المتناول الطازج، لاشئ يمسك بشئ
… المفاصل.. المفاصل.. صاح المشايخ : انفصلتْ..
يا أخواننا المتواضعين تحققّوا من الحجارة التي تحتكم
حتى ولو كانت صغيرة فأنّها ثابتة مادامت في مكانها.”هكذا
والا فلا” كما كتب ابيلار أمام أوراقه.
صاح المشايخ صيحة واحدة : هذا وقت يترنّح .. وحدكم
الذين لا تنزلقون. اخرقوا العادة قبل أن
تخرقكم العادات .. تعلّموا الكلام مع انفسكم طويلاً
حتى يقلّ خطره ، وكفّوا عنه آنذاك واطمئنوّا الى
الصمت النفساني. لا تنتقلوا في الصهاريج الماجنة
فليست هي روعة الفجر . اقلبوا الروتين المتوّقع
واقطعوا عليه الطريق .. ليس هذا وقت راحتكم
لتأخذوها . الوحش يتربّص هناك عند وهم الباب
الخلفي للطبيعة . انكم الآن على مسافة قريبة
من انفسكم اللطيفة.
المشايخ يقولون : البقية ستكون من حصتكم دون
دليل جاهز . وهنا عليكم القبض على القدر بالتمام
والكمال. لا تسمحوا لبذرة منه أن تطير منكم فهي
ستنمو على نسيانكم وعلى لعنة الوجود الذي
أنقصتموه.
الخبرة واحدة لا تتكثّروا منها. ذلك هدْر فلسفيّ.
تستطيعون اقتسامها . لا تزجّوا بها في شؤون كثيرة،
انّها اذن باهتة . لا تسرعوا متوسّعين في
التنقيب عن أحلامكم. دعونا من التذرّع
بالباب الخلفي.
الآن يتململ الشيخ المدبّب : ياأولاد الحرام لقد وصلت
الحداثة البليدة ذروتها ، اللولب واشعاع الأوتار
الصوتيّة حين تصمت، ارفعْ قواك عن جاذبيّة الحزن
السقيم، ارفعها الى مستوى النشاط الزائف
لمآدب سوء الهضم ؛ الى الفجوة التي انخرقتَ فيها
وانظر الى عربات بابل فوق الأسوار وهي تطفر على
زمن السباق وتتحطّم في المكان الذي ظلّ يمتصّ
عصير صخورها . ايّها الشعب تعلّمْ من الخسائر أكثر
فأكثر ، لا تكن وسيطاً خائباً ، يا أخا حوّاء لا تُحصِ
أخطاء الذريّة فهي غنائمك تتبخّر وتعود في السحابة،
وهلمّ جرّاً ، وأولاد الحرام يذوبون في ذريّتهم ويفسدون
زنابق سامراء وقرطبة ، هذا هو الشخير المقّفى ايّها
الشيخ المدبّب اذا استرخيت على ظهرك خالطاً الرمال
بالنجوم ولا تعزل اللولب عن الشعاع ولا الصوت
عن الأوتار الصامتة، تبّاً ايّها الرفاق القدامى
لقد أنهى الغرباء الطارئون خدماتكم المروريّة وعلى
الله قصد السبيل ، هل ستنسى هذا ايّها الشيخ
المدبَّب وأنت تدبّ على دويّ المجاهيل في الفجوة
الشنعاء حيث اللولب يحكّ لك جلدك ويهرس
ظلمتك المنسيّة الناسية ، هذه هي دوّامة شركان
التي تهرول على سطح البسيطة بعد أن كانت متلفعة
بين الصفحات في الليلة الفلانية من الليالي.لم يستيقظ
الملك الّا على وقع الكلمة التي ترتجّ فيه قائلة له:
أنا الكلمة ، أنا زوجتك الوحيدة سيّدي غير الوحيد
لن ينتزعنا أحد من العالمين . سنتعارف في مخدع
الحقيقة الساهية حين تتبخّر في قدحك
الحلزوني.
ايّها القارئ المصَّفد بالنعوت : ابقَ معي حتى تنفجر الصرخة
من تلقاء نفسها وتقصف الآلة الوترية الذي سيتناوب
عليها إيعاز متوقّع بلا هوادة . ابقَ لترى الشعر
ينتزع جلدة الخيال ولتلقي الاشعاع فاقد الحركة المظلمة،
ولترى الاعتداء على المستقبل جهاراً نهارآ . اخترْ
لونك كما تشاء ايّها القارئ ولا تغسله بلون غيرك.
الألوان لها حكايات لا تتلوّن .آه من الشعاع:يصعد
ولا ينزل . هو لم تصنعه المواساة . انّ لبّه تبتاعه
المصادفة التي تبدو جريئة وهي تتسوّل طاعة تتباهى
بميوعتها المحظوظة . هاهو جراد حزيران يتنفس في
وجه العشب ولا يشبع ، وأعمامنا المفترضون يولولون :
الهجيج .. الهجيج فيما يجأر البدوي الأعزل بلحنه
الذي لا يذوب في حنجرته : أسفآ على الخابور ليس له
وطن. ليست هذه انحرافات هندسية . انّها اليابسة
السياسية التي تلعق المياه.
أقول لك أيّها القارئ مادمت قد وصلت الى كلماتي : لا
تتعوّدْ على ايّة لغة فذلك هو النفاق والمتاهة.
النفاق من غير فائدة والمتاهة التي يصير فيها اليمين يسارآ
ذلك ما توفّره الحياة .أما حين لا تكون لك عادة
اللغة فانك ستبدأ من جديد.من سلّم الى سلّم
ستعرف المكان المجازي . ستثير المعاني على الألفاظ
والألفاظ على الالفاظ. ستبدأ ايّها العنصر بالتحرّك .
الى أين ؟ الى خرق العادة. أنا صديقك لن تفقدني اذا
فقدتك . سنلتقي عند الزنبقة القرمزية في سامرّاء
أو في قرطبة ، حيث الأهالي يضمنون أوزان الأفراد.حيث
الطائر الأبيض يضع صدره النظيف على مبسم الزنبقة وهي
هانئة بتلطيفهِ . حيث يكتشف قابيل أخا، القتيل
ويكسبه . أوّل الاكتشافات وآخر المكاسب.
إصعدْ وترجَّلْ… طارداً ومطروداً.. لابدّ من ايقاظ
الأخوَة النائمة مع القتيل كي تثأر من القتل وتعيد
للولادة صراعها مع القوّة الكامنة صعودأً الى الأمّ
المعبودة التي تستر العريَ الأصيل وهو يبحث عن
الباب الخلفي للأوهام السرمدية ويعود قانعاً بالضباب
العراقيّ الذي لم نقم بتنظيف قروحه جيّداً. ستصاب
القوى العارية بالالتهاب وتدور عمياء في طيّات القدر
الهارب يتنوّع ويسخر قريباً وبعيداً، لاشئ في الوسط
لنقبض عليه، هذه هي أيضاً ألياف الماضي
التي تلتفّ على الحاضر لئلاّ يرفّ له جفن لتدنيس
المستقبل. الأبواب الهائمة على العتبات مصنوعة من ألياف
الماضي المضغوط التي لا يطيقها المستقبل المتشرّد.
لابدّ أن تتحسّس نسيج هذا الوادي . لا بدّ أن تحرس
الصدى. لابدّ أن تقوم بأشياء عديدة لاثبات جدارتك
العقيمة وتتفرّج عليها ببلاهة لا انسانيّة. الويل لكم
ايّها الأشباه الذين لا يندى لهم جبين وقد جفّوا في
القوالب الفضفاضة حتى تفطّرتْ أنيابهم والأضراس
فانتهبها الشيطان المارد كلّها تقريباً وأبقى لكم المضغة
اللاصقة على اللهاة.الآن تستطيعون التمرّغ على
أبواب الطبيعة الخلفية وتنبشون فضلات الذاكرة
– ماالذي حلّ بكم وحلّ بنا؟ لانعرف الاتجاه.
– بماذا أقايضكم يا لصوص الحياة. يا متاع الغرور.
– مانريده هو أن لاتأتي لنا بالبوصلة
– لا ينفع معكم شئ . لا نفع منكم.
قبل أن ينتهي الكابوس غير المزعج وغير الطارئ استعدّ
النيام للأرق الأبدي . انه استعداد الغريزة الذي لا
خيار فيه ويتدرّبون على الهزائم الشريفة . الغريزة
ليست تشريفاً أو مسؤولية ، ويقف أمامها قاضيها
الوحيد. يقف وراءها أيضاً اذا انعمنا النظر في
الأحوال الغامضة وفي صراحة الليل والنهار ، لكنّ
الأرق شئ آخر يجلب أشياء أخرى ثمّ لا نعرف
ما هي هذه الأشياء. أين هم علماء الترّهات ؟ اين
أرامل الأحزاب المقدّسة وايتامها الذين لم يشبّوا عن
الطوق؟
– ما من دواء لجروح نرسيس.
ومع مرور الوقت وايذانه ستختلط الغرائز فيما بينها
وتمتقع ويصير الجسد كالطل البالي، ولن تنفعنا تحيّة
الصباح كما استدرك الملك الضلّيل . الأرق شئ
آخر لم تصمد بابل لخرابه. الارق الأبدي سيبقى في
حسبان الشعوب. الغرائز تشيخ منذ الصبا ويمدّها
الأرق بطاقة الموت الشحيحة التي تسوّغ الهلاك
في البيوت.
الشعب اختارَ اعداءه بسرعة واصدقاءه على
نحو أسرع ، وتركهم يتسابقون أمامه وخلفه
مختلفين دون أن يصرعه النعاس وقام بتشجعيهم معاً
ينهر هذا ويشرئبّ الى ذاك، وهم يتموّجون ويهاجمون
خياله بذاكرته الكسول التي لم ينظّفها فالهاوية
تصيح في رأسه: هل من مزيد ، هناك المزيد من
المتطوّعين الأحرار والشعب يتهدّل ويتشنّج على حبل
الأرق المفتول لا يدري متى ستنقطع اللعبة .هذا
هو مستنقع الصدأ ، من أين أتيت بهذا النبوغ
الطريف وأنت في هذه الحال، هذا الأرق صار
يقظتك الزائفة التي خانتك وأنت تحملق في الغامض
والرطب .اغربْ عن وجهي مع صفاتك المملّة ، اغرب
وستجد هدايا الغيب تنتظرك على باب خيمة هولاكو،
المفتاح هو القفل ، تستطيع الآن أن تنقلب على
جنبك الأيسر وتقلب المعادلة : يزورك هولاكو في
بلاطك ليقدّم لك مصيرك هديّة : القفل هو المفتاح
عفا الله عمّا سلف يا ابن التجربة المناسبة . يا ربّ البهائم
هذه هي الذئاب تدوس على اذنابها تلطم وجوهها وتصول.
اللعنة على المقبل والمقبول.
ظلّ الأرق يمتصّ الغرائز التي اتحدّتْ في المؤخرة
الفضائية ، هنا قلنا نحن الذين نقوم بنزهات أدبيّة
قصيرة، قلنا: اذن هناك أمل . فالجدران التي
نهضت في الفضاء عازلة الضوء عن الظلمة كانت هي
معجزة الشعب المأزوق الذي أحسّ لتوّه بالصوت
الذي ظل محبوساً لسبب من الأسباب : أنا بحاجة
الى بغداد ، بغداد بحاجة اليّ. على مهلك يا عازف
الناي .. اهبطْ بلحنك لنتمكّن من النزول الى الشاطئ
.. ونواصل البحث عن الأبواب وندخل ردهات
الشعور مهما كانت التكلفة ، أنا الآن يا ربّي ..خارج
احبولات الصيّادين المخروطية ، ها هي الأصوات
تصعد ثم تنزل مصحوبة بعناقيد النور، أمّا نحن
حديثي العهد بمصائرنا ، فسنسير مع كلاب الحراسة على
ايقاعات ذيولها تسبقنا الأحلام الفطيرة منحنية
بين الكوابيس التي تراجعت الى خطوطها التي انطلق
منها الأرق ، الأزل الملتبس بالأبد.
على كلّ حال فقد عادت الأشياء الى نصابها الذي تعرفه
الغرائز الخنثوية وتعيد بناءه بالالهام المتكامل داخل
وخارج المجاميع غير المنتظرة التي تحفّ بالأقدار.
ذلكم هو أمرُ الأمور :التصديقُ ثمّ تكذيب…
التكذيب ثمّ تصديق .. وهكذا دواليك.
وجثّتك تنتظرك من الداخل ولا تستقبلها في الخارج
الشعراء لا يجيدون التصفيق للنثر الصامت .. لقد
تطوّعت الأميّة بالنيابة عنهم. واحتملت السذاجة
بوكلائها المخضرمين . من اليسار الى اليسار حتى
اليمين. تلك هي الحركة التي يتلقّفها أي تفسير وهي
في بحبوحة الزمن في ميعة الصبا وفي أرذل العمر.
أيّها الربيع المشوّش .. انها الغابة التي تتعرّى
لنفسها .. ايّها القارئ الصامت أنت أخي بحقّ .. ايّها
الجمال الذي تتابعه الغزلان وتشّمه بحذر حريص.. كلّ
شئ يمرّ بطريقه الى أن يلتئم الزمان وتعتدل
مواضيعه بعد أن وجدته ملجأً لها كما الماء
الذي تستبطنه فلاة ما ليصير من مكنوناتها المثالية
… كم يلزمنا من الغباء لكي نتسابق معك؟ ايّها
الزمان : قليل من الغباء يساوي الكثير منه .. نسبق
أنفسنا في السرد المتخالف للنهاية التي تتقهقر الى
البداية.. وأنت أيّها الزمان ، الذي أعاني من سلامته،
أنت المتعادل الوحيد الذي تنشأ الدوائر في مركزه
والمحيط، لقد تعلمنا منك فنون الدفاع والاندفاع ولم
نتعلّم مراعاة الاختلاف لأننا لم نجد غيرك حين
تزداد قابليّتنا على القلق ، وما دام النوع متمسّكاً
بالأفراد فأن النوافذ ستتسّع في نزعتها الى النور
وتنجح تجربة الأنواع في الافراد وتتعكّر بما يبدو
للمواهب الناشئة انه فشل ذريع.
سيلزم الشيخ المدبّب الصمت ملزوزاً في الفجوة
ذات الأسنان حيث يهجس منيّته على عتبة
الباب الخلفي ولن يدلي بشهادته على براءة
الجميع . يالهول التسويات التي لا تجد موضوعها
بين فنون القول. هكذا هو الامر المفعول:
دهاقين الظلام ينهبون الأضواء نهباً
وداعاً ايّها التكرار المتهوّر المتضايق.. وحيهلا بعصا الندّاف المثيرة..
وشجاعة اللسان المبين..
واسلم الشيخ روحه يداً بيد صاكّاً فكيّه على لحظة
واحدة مختنقة.
الان ، الان ؛ ربما خرج التوقيع على الخط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى