رشيد تجان - بيت جدي

ملعب لكرة القدم وسط الأحياء المكتظة بالسكان، أزقة تنفتح على بعضها البعض، كل ممراتها تؤدي إلى الملعب، وتصب فيه كل حمولتها من الجمهور، ملعب طُلِيَت جدرانه بأصباغ مختلفة الألوان؛ رسوم وكتابات وأشكال هندسية تثير المارة والزائرين الملعب، يتجاوز ارتفاع جدرانه المتر والنصف بقليل، لذلك يسهل على فئة من الجمهور اجتياز هذه الجدران والنط عليها بسهولة حين اختلقوا حفرا على الحيطان لتسهيل الصعود ومشاهدة بعض المباريات المدفوعة الثمن. تمتلئ كل الأزقة بالجمهور الوافد من أحياء مختلفة على الملعب، أغلب هؤلاء يثيرهم باب منزل جدي الذي كُتِبتْ عليه عبارات بلون يمجد إحدى الفرق المحلية.

يوجد بيت جدي في الطريق الرئيسي المؤدي إلى الملعب، يتكون من طابق أرضي يستقر فيه جدي وزجته التي تصغره بثلاثة عقود تقريبا، تقول إنها جميلة ولا تحمل من الجمال سوى الاسم، ارتبطت به بعد عنوسة طويلة، عاشت خلالها سنوات عجاف، وطمعا في إرث قيل لها إنه ثروة لا يستهان بها، وسيكون لها نصيب يصل حد الثُّمُنِ من التركة:" فإن كان لكم ولد فلهن الثمن.. مما تركتم".
تنهره كلما طلب منها شيئا، وتصرخ في وجهه دون أن يكون له انفعال أو رد فعل، لأنه لا يقوى على ذلك، فقد اشتعل رأسه شيبا، ووهن العظم منه، وتحول إلى كائن لا يستطيع القيام بأي عمل دون مساعدة، حركاته بطيئة جدا نتيجة حياة صعبة قضاها بين ميلاد في البادية وهجرة إلى المدينة. تغيب عن البيت لأيام بحجة أنها تزور والدتها المريضة، وتقدم لها بعض الخدمات كالأكل وتنظيف الملابس والاغتسال في حمام الحي. حتى إن كانت في البيت فإنها تغيب عنه لساعات. كنت مرة عائدا من المدرسة الإعدادية، وفي الطريق، وجدتها مع بائع خضار، يتبادلان أطراف الحديث بطريقة مشبوهة؛ يلامس يدها كلما سمحت له الفرصة، ولما تيقنت أني فهمت ما تقوم به من أفعال نادتني وبررت موقفها بأنه يعرف جدي ويطمئن على أحواله. وطابق آخر عُلْوي يتقاسمه والدي مع أخيه الأكبر؛ كل واحد منهما يعول عائلة كثيرة الأنفار. عمي رجل طيب، أكبر إخوته، يحب الخير للجميع، ازداد في قرية جبلية منعزلة عن باقي العالم قبل أن يهاجر جدي إلى المدينة، اشتغل في شركة للنسيج لمدة طويلة، عاش حياته بين مد وجزر يسعى إلى إرضاء عائلته بعيش كريم حدوده الكفاف والعفاف. أصيب في السنوات الأخيرة، قبل التقاعد عن العمل، بداء السل الذي لازال يعاني منه إلى الآن، إذ تنقل بين المصحات العمومية، ولازال، طلبا للعلاج، إلا أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل. أما عمتي، التي تزوجت بعد قصة حب عنيف مع رجل يدَّعِي كل شيء إلا أن يكون مسؤولا عن بيته وزوجته وبناته، فتتقاسم السطح مع خم كبير للدجاج، وشبه إصطبل لخرفان عيد الأضحى، تُشترى في بداية شهر رمضان من كل سنة، وتُسَمَّن على السطح طيلة المدة الفاصلة بين الشهر الفضيل وشهر ذي الحجة لتكون أضحية العيد.

بيت جدي يعرف شهرة خاصة، وترجع هذه الشهرة إلى ذلك الإعلان على بابه. كلما مر المتفرجون، ذهابا، إلى الملعب يعلقون على ذلك بجمل متباينة بين المؤيدة والمعارضة. هذا التأييد أو الاعتراض يتحول بعد الخروج من الملعب إلى سبٍ وشتمٍ بألفاظ نابية تخدش الحياء، وقذفٍ للباب بالحجارة وخاصة إذا كان الفريق الخصم منهزما، ينزل السخط كله على البيت، كأنه المسؤول على ذلك. وكلما فكر بعضُ أفراد العائلة في تغيير لون الباب وطمسِ الصباغة بطلاء آخر محايد، لا علاقة له بالفريقين المحليين يرتفع اللغط في البيت على ترك الأمور على حالها، ما دام صاحب البيت حيا يُرزَقُ، وهو الأولى بالتغيير. عبارة أصبحت منقِذاً لمن يريد تمرير رأي بسهولة ودون معاكسة الآخرين له، ولا تكون لصاحب البيت قيمة إلا عندما تختلف الآراء حول موقف ما يخص البيت الذي لا يملك فيه الجميع سوى القرابة من الجد.

الدارالبيضاء في 07/05/2017

ـ سورة النساء، الآية 12

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى