ما اعتقد أحد قبل تلك اللحظة أن بركات "مولاي أحمد السيد" و من سار على نهجهم ستصبح في مهب الريح بتلك السرعة. و أن الناس سيكتشفون أن ما اعتقدوه مركزا للوجود، لم يكن سوى نقطة ضائعة منه.
قبو كان يبدو أن فيه ابتدأ و فيه سينتهي كل شئ. ربوعه بدت لساكنيه أنها شهدت إشراقة و تسللات خيوط الشمس في أول طلعة لها على الوجود. و حيث الجبال الغربية كان يبدو أن زحفها ينتهي هناك لتغوص في شئ لايفقه له كنه، مخلفة الدنيا وراءها تنتظر شمسا جديدة.
صور البعث نفسها بدت للكثيرين أنها في جل تفاصيلها قد فصلت على قد جغرافية القبو. فحيث أعلى الربوة التيتقع القرية على سفوحها سيمتد فجأة سور يوصل الأرض بالسماء، و لينفخ عبره نفخا تتهاوى على إثره الجبال، و ليخرج الموتى في أكفانهم الناصعة البياض، ليركضوا في نظام و امتثال صارمين مأخوذين في ذلك بالوميض البراق الذي يسطع من سماء القرية.
الأيام كانت تمر. ما من أحد تساءل عن زهرتها و لا عرف أن للأيام أزهار و ألوان. لكن بلا مقدمات تصدع الجدار و بطلت الطلاسم. و برز وجه أسمر عرف فيه صوت فتى حمله إعصار قديم اجتاز القبو ذات يوم. تحدث فيهم العائد : " هاكم .. اقرأوا عيونه ".
ما احتاج الأمر لفؤوس و معاول. اندس الجدار في الأرض و خلفه مضت الآفاق في صعودو انخفاض. لاحت بحار. بوارج. و أوطان تلتهب..
انتزع الناس عيونهم من عينيه. نظر الكل للكل. و حين تأكدوا أن العبور يبدأ من حيث هم، عاودوا النظر مدفوعين برغبة وإغراء.
امتد النظر إلى ما وراء حدود البصر. مضت السبل مفتوحة على صور ووقائع. جبهات و خنادق. رايات و بنادق. جثث و حرائق. صيحات ندبة و نشوة. تخوم. ورطات. وذرية من لقاءات حب ما احتاج لشواهد.
ما عاد للزمن تقاويم و لا للأمكنة حدود و موانع. الهند الصينية صارت في مدى لمح البصر. و الماضي يلوح من حيث تستطيع الغوص في المستقبل. و الحاضر ما عاد غير أجساد سلبت روحها حكايات " لاجودان" . لكنها حبلى باستجابات ترتفع من مكان ما . غير أن هذا المكان يقع حتما خلف الأسوار الغربية حيث ليس في وسع سلطة الأولياء و لا مولاي أحمد السيد أن تحنط الأعمار وتحولها إلى لبنات تدعم صرحا متهالكا.
لكن ها هو مولاي أحمد السيد بهياج أسد يتقدم نحو " لاجودان". توارى الصغار. دس الكبار رؤوسهم في صدورهم إقرارا منهم أنهم ارتكبوا إثما ما. و من منهم لا يخشى غضب و بأس مولاي أحمد و هو الذي ضجت الفلاة و البراري بالزغاريد يوممولده. و أن الأرض اهتزت حين لامسها جسده. و أنه كان يتغذى من لهيب الشمس، و يشرب من مجار تمتد إليه من الغيب. وحين كبر أتى المعجزات و امتد مفعول سلطانه للجماد أيضا. إذ في غضبة منه توقف محرك الناقلة الوحيدة التي تفد على القرية. ولم يشتغل ثانية إلا حين جثا السائق على ركبتيه و طلب الصفح. آنذاك اشتغل المحرك دون أن يلمسه أحد.
خاف الجميع على مصير لاجودان . لأنه لن يواجه هذه المرة جنودا آدمية. بل أرواحا شريرة ستفعل فيه الغرائب.
تدافعت موجات الهواء كهبات عاصفة حين تحدث مولاي أحمد السيد موجها كلامه للناس قائلا : أي شئ تجدونه في مجالسة هذا المارق ؟
تداخلت الأجساد حتى صارت هيكلا واحدا بعشرات الرؤوس . فقال لاجودان مخلصا إياهم من حرجهم
ـ ماذا أرى ؟.. إنسان الكهوف و في عصر كهذا و ما زال يملك كل هذه السطوة ؟
انذهل مولاي أحمد وهو يجد نفسه في موقف لم يصادف مثيلا له في حياته. فرد في عنف و انفعال :اسمع أيها الماجن . جئت أبلغك أن قهقهتك الماجنة تعكر صفو سكون الأرواح. لذلك لا مكان لك هنا، و ألا اسأل أي شئ سيكون مصيرك ؟ قهقه لاجودان بملء شدقيه وقال موغرا في سخريته: أجزم لو أنك خدمت في الجيش الفرنسي، وسخرت هذه الموهبة الخارقة في خدمة الأهداف العسكرية، فان رتبة عقيد هي أقل الرتب كنت ستنهي بها خدمتك.
امتقع و جه مولاي أحمد. أحس بإهانة و إذلال لم يذق لهما طعما من قبل. استجمع قواه و قال محكما الطوق حول رقبة لاجودان:
- ماذا أيها المرتزق ؟ سليل الأولياء يعمل في صفوف جيش النصارى؟ ثم ما هذا المجد الذي ملأت به مسامع الناس؟ لتتساءلي أيتها العامة. بل لنسأل هذا الماجن: لأي شرف قاتلت يا لاجودان ؟ أحس لاجودان بحرج موقفه. تلعثم و ارتبك . لكنه سرعان ما تماسك و قال محاولا التخلص من الطوق.
ـ صحيح أنني خضت حروبا ما همتني نتيجتها بقدر ما همني أن أخرج منها سالما . لكن تأكدوا أن داخل هذه الحروب كانت لي حربي الخاصة.
ـ أفصح عنها إذن . قال ذلك مولاي أحمد
بمكر أجاب لاجودان عاكسا الآية كليا:
- مشاركتي في تلك الحروب و بالأحرى مع تلك الجيوش مكنني من اختراق الأسوار الغربية للقرية حيث يمارس داخلها أبشع مما رأيت في كل الحروب.
لم يجد مولاي أحمد كلمة ليقولها. ظل مطرقا. رفع رأسه للسماء و كأنه يتلقى توجيهات منها. حرك رأسه في امتثال و صرامة. استدار جهة لاجودان و قال : لقد أبلغتك أمر الأرواح، و أنت المسؤول عن نوع المصير الذي ستلقاه.
رد لاجودان موجها ضربته الأخيرة : أبلغ أرواحك إذن أن الحياة للأحياء، ولذلك فنحن من يجب أن يشتكي من النكد الذي يمارسه من يتحدثون بأسمائها.
أكد الكبار أن مولاي أحمد السيد قد ارتكب إثما ما.
ربما افتض بكارة عذراء. و ربما ضاجع امرأة متزوجة، وهناك من ذهب إلى أنه تزوج روحا شريرة. لذلك فقد سحبت الأرواح سلطانها منه، و لهذا لم يصب لاجودان بأذى. أما الصغار فكانوا مأخوذين بأشياء أخرى. حتى حكايات لاجودان ما عادت تثيرهم بعد أن تأكدوا من أن الإنسان الحي هو من يخوض فيدروب الحياة. و لهذا كانوا منشغلين باكتشاف ممر مماثل لذلك الذي سلكه لاجودان في شبابه. ممر ينتهي ببوابة تقف الحياة خلفها مجسدة بامرأة فاتنة متعطشة لدفء و فحولة المتسللين من القبو. ولذلك ما عاد في القبو ما يغريهم بالمكوث به. و سماؤه ما عادت زرقاء كما كانوا يرونها. ومولاي أحمد السيد انتهى بدوره باحثا عن ممر. لكن بوابته كانت تنفتح على العصور الغابرة.
عبدالله البقالي
قبو كان يبدو أن فيه ابتدأ و فيه سينتهي كل شئ. ربوعه بدت لساكنيه أنها شهدت إشراقة و تسللات خيوط الشمس في أول طلعة لها على الوجود. و حيث الجبال الغربية كان يبدو أن زحفها ينتهي هناك لتغوص في شئ لايفقه له كنه، مخلفة الدنيا وراءها تنتظر شمسا جديدة.
صور البعث نفسها بدت للكثيرين أنها في جل تفاصيلها قد فصلت على قد جغرافية القبو. فحيث أعلى الربوة التيتقع القرية على سفوحها سيمتد فجأة سور يوصل الأرض بالسماء، و لينفخ عبره نفخا تتهاوى على إثره الجبال، و ليخرج الموتى في أكفانهم الناصعة البياض، ليركضوا في نظام و امتثال صارمين مأخوذين في ذلك بالوميض البراق الذي يسطع من سماء القرية.
الأيام كانت تمر. ما من أحد تساءل عن زهرتها و لا عرف أن للأيام أزهار و ألوان. لكن بلا مقدمات تصدع الجدار و بطلت الطلاسم. و برز وجه أسمر عرف فيه صوت فتى حمله إعصار قديم اجتاز القبو ذات يوم. تحدث فيهم العائد : " هاكم .. اقرأوا عيونه ".
ما احتاج الأمر لفؤوس و معاول. اندس الجدار في الأرض و خلفه مضت الآفاق في صعودو انخفاض. لاحت بحار. بوارج. و أوطان تلتهب..
انتزع الناس عيونهم من عينيه. نظر الكل للكل. و حين تأكدوا أن العبور يبدأ من حيث هم، عاودوا النظر مدفوعين برغبة وإغراء.
امتد النظر إلى ما وراء حدود البصر. مضت السبل مفتوحة على صور ووقائع. جبهات و خنادق. رايات و بنادق. جثث و حرائق. صيحات ندبة و نشوة. تخوم. ورطات. وذرية من لقاءات حب ما احتاج لشواهد.
ما عاد للزمن تقاويم و لا للأمكنة حدود و موانع. الهند الصينية صارت في مدى لمح البصر. و الماضي يلوح من حيث تستطيع الغوص في المستقبل. و الحاضر ما عاد غير أجساد سلبت روحها حكايات " لاجودان" . لكنها حبلى باستجابات ترتفع من مكان ما . غير أن هذا المكان يقع حتما خلف الأسوار الغربية حيث ليس في وسع سلطة الأولياء و لا مولاي أحمد السيد أن تحنط الأعمار وتحولها إلى لبنات تدعم صرحا متهالكا.
لكن ها هو مولاي أحمد السيد بهياج أسد يتقدم نحو " لاجودان". توارى الصغار. دس الكبار رؤوسهم في صدورهم إقرارا منهم أنهم ارتكبوا إثما ما. و من منهم لا يخشى غضب و بأس مولاي أحمد و هو الذي ضجت الفلاة و البراري بالزغاريد يوممولده. و أن الأرض اهتزت حين لامسها جسده. و أنه كان يتغذى من لهيب الشمس، و يشرب من مجار تمتد إليه من الغيب. وحين كبر أتى المعجزات و امتد مفعول سلطانه للجماد أيضا. إذ في غضبة منه توقف محرك الناقلة الوحيدة التي تفد على القرية. ولم يشتغل ثانية إلا حين جثا السائق على ركبتيه و طلب الصفح. آنذاك اشتغل المحرك دون أن يلمسه أحد.
خاف الجميع على مصير لاجودان . لأنه لن يواجه هذه المرة جنودا آدمية. بل أرواحا شريرة ستفعل فيه الغرائب.
تدافعت موجات الهواء كهبات عاصفة حين تحدث مولاي أحمد السيد موجها كلامه للناس قائلا : أي شئ تجدونه في مجالسة هذا المارق ؟
تداخلت الأجساد حتى صارت هيكلا واحدا بعشرات الرؤوس . فقال لاجودان مخلصا إياهم من حرجهم
ـ ماذا أرى ؟.. إنسان الكهوف و في عصر كهذا و ما زال يملك كل هذه السطوة ؟
انذهل مولاي أحمد وهو يجد نفسه في موقف لم يصادف مثيلا له في حياته. فرد في عنف و انفعال :اسمع أيها الماجن . جئت أبلغك أن قهقهتك الماجنة تعكر صفو سكون الأرواح. لذلك لا مكان لك هنا، و ألا اسأل أي شئ سيكون مصيرك ؟ قهقه لاجودان بملء شدقيه وقال موغرا في سخريته: أجزم لو أنك خدمت في الجيش الفرنسي، وسخرت هذه الموهبة الخارقة في خدمة الأهداف العسكرية، فان رتبة عقيد هي أقل الرتب كنت ستنهي بها خدمتك.
امتقع و جه مولاي أحمد. أحس بإهانة و إذلال لم يذق لهما طعما من قبل. استجمع قواه و قال محكما الطوق حول رقبة لاجودان:
- ماذا أيها المرتزق ؟ سليل الأولياء يعمل في صفوف جيش النصارى؟ ثم ما هذا المجد الذي ملأت به مسامع الناس؟ لتتساءلي أيتها العامة. بل لنسأل هذا الماجن: لأي شرف قاتلت يا لاجودان ؟ أحس لاجودان بحرج موقفه. تلعثم و ارتبك . لكنه سرعان ما تماسك و قال محاولا التخلص من الطوق.
ـ صحيح أنني خضت حروبا ما همتني نتيجتها بقدر ما همني أن أخرج منها سالما . لكن تأكدوا أن داخل هذه الحروب كانت لي حربي الخاصة.
ـ أفصح عنها إذن . قال ذلك مولاي أحمد
بمكر أجاب لاجودان عاكسا الآية كليا:
- مشاركتي في تلك الحروب و بالأحرى مع تلك الجيوش مكنني من اختراق الأسوار الغربية للقرية حيث يمارس داخلها أبشع مما رأيت في كل الحروب.
لم يجد مولاي أحمد كلمة ليقولها. ظل مطرقا. رفع رأسه للسماء و كأنه يتلقى توجيهات منها. حرك رأسه في امتثال و صرامة. استدار جهة لاجودان و قال : لقد أبلغتك أمر الأرواح، و أنت المسؤول عن نوع المصير الذي ستلقاه.
رد لاجودان موجها ضربته الأخيرة : أبلغ أرواحك إذن أن الحياة للأحياء، ولذلك فنحن من يجب أن يشتكي من النكد الذي يمارسه من يتحدثون بأسمائها.
أكد الكبار أن مولاي أحمد السيد قد ارتكب إثما ما.
ربما افتض بكارة عذراء. و ربما ضاجع امرأة متزوجة، وهناك من ذهب إلى أنه تزوج روحا شريرة. لذلك فقد سحبت الأرواح سلطانها منه، و لهذا لم يصب لاجودان بأذى. أما الصغار فكانوا مأخوذين بأشياء أخرى. حتى حكايات لاجودان ما عادت تثيرهم بعد أن تأكدوا من أن الإنسان الحي هو من يخوض فيدروب الحياة. و لهذا كانوا منشغلين باكتشاف ممر مماثل لذلك الذي سلكه لاجودان في شبابه. ممر ينتهي ببوابة تقف الحياة خلفها مجسدة بامرأة فاتنة متعطشة لدفء و فحولة المتسللين من القبو. ولذلك ما عاد في القبو ما يغريهم بالمكوث به. و سماؤه ما عادت زرقاء كما كانوا يرونها. ومولاي أحمد السيد انتهى بدوره باحثا عن ممر. لكن بوابته كانت تنفتح على العصور الغابرة.
عبدالله البقالي