جعفر الديري - وراء الحاجز الخشبي.. قصة قصيرة

من على مقعده وراء الحاجز الخشبي، يطالع عبدالله الناس بانتباه، مؤملا أن يلحظ الأفاق الذي سرق ماله. لقد أعطاه جل ما يملك، ولولا مساعدة زوجه، لما تمكن من فتح هذا الاستوديو صغير الحجم، يعتاش منه وأسرته.
ورغم أن كثيرين استسلموا لليأس، بعد انتظار طويل، مازال عبدالله يعيش على أمل استرجاع ماله، ويحلم باستثماره في مشروع يدر عليه ربحا وفيرا، يرفع من شأنه وشأن أبنائه من بعده.
إنه حلم كبير طالما أدخله في منزلقات خطيرة، كان آخرها أشدها خسارة. لقد ذهب ماله أدراج الرياح، على يد مستثمر موهوم، وزميل دراسة ظل يوسوس له حتى استجاب له وذهب معه.
وهناك شاهد ما أثلج قلبه. مبنى من طابقين، واجهته غاية في الجمال، وأثاثه ومكاتبه بالداخل تشرح النفس بحسن تنسيقها، ورائحة زكية تنشر عبقا مخدرا، يصعد بك للطابق الأول على درجات سلم رشيق، حتى تصل إلى الرجل المنشود، فتجده واقفا بانتظارك بابتسامته الوضاءة، ليبدء حديثه بلسان معسول عن السوق وفرص الاستثمار، فلا تخرج حتى تكون قد دفعت له كل ما في جيبك.
ومرت أشهر ستة في انتظار ما تجود به الأوراق النقدية. ومرت مثلها، فسأل وألح في السؤال، لكن الإجابة واحدة لا تتغير .. إن الأمور متعسرة بعض الشيء وهناك مصاعب جديدة لم تخطر على البال. وغضب وكشر عن أنيابه في وجه المستثمر، وهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنه أخطأ حين استكان لوعده الجديد، فما أن أشرق الصباح حتى علم أن المستثمر فر منه ومن أمثاله المخدوعين.
وبحث عنه في كل مكان فلم يجده، وسأل حتى اهتدى لأشقائه، ولم يكن الحديث معهم ولا التهديد ليفيده بشيء. كذلك فشل في العثور على زميل الدراسة، كأنما انشقت الأرض وابتلعتهما.
إذن فقد تحطم كل شيء وأنهارت أحلام الثراء، وتوارى اللص بكل دينار جمعه من عرقه وذهب زوجته. ولم يتبق له بعد ثلاثة أعوام من الانتظار، سوى استوديو التصوير يقضي فيه يومه، مؤملا أن يهتدي لشيء يعوض به جزءا من ماله المسروق، أو يبتسم له الحظ فيلتقي بالمخادعين الكبيرين.
وفجأة دخل المحل رجل قصير القامة، يرتدي نظارة طبية، طالبا صورة فوتوغرافية. وعرفه على الفور، إنه من اتصل به ذات يوم وأخبره عن الكنز الموعود. هو نفسه الذي ملأ قلبه أملا بالثراء، واضطره الى بيع ذهب زوجه. كان يبدو مريضا منهكا، حتى انه لم يتعرف إليه.
وقام بهدوء وأغلق باب المحل، ونادى على الموظف الآسيوي، فنزل هذا ووقف منتظرا أوامر كفيله. ثم خاطب الرجل بلسان يفح نارا:
- أتعرف من أكون؟
وكان عبدالله ضخم الجثة قوي الساعدين، يشبه البرميل طولا ومتانة، فأسقط في يد الرجل، الذي تطلع بعينين فزعتين...
- من أنت؟ وماذا تريد؟
- أريد مالي.
- أي مال؟
وأخرج عبدالله ورقة كان يحتفظ بها في محفظته...
- أما زلت تنكرني؟
وشحب وجه الرجل، وأخذ بالتطلع في الورقة وفي وجه عبدالله...
- أرجوك .. كنت واسطة خير لا أكثر.
ولشدة غضب عبدالله، أمسك بالرجل بكلتا يديه، ودفعه بقوة فسقط على الكرسي يخور كالثور...
- أريد مالي.
- صدقني لا حيلة لي .. أنا نفسي ضحية أكاذيبه.
- أنت من زين لي أن أعطيه المال.
- لكني لم أسرقك.
صاح في صوت جفل له حتى الآسيوي...
- عليك أن تعيد لي مالي.
قال وهو يلهث:
- اسمع .. لقد علمت أن الرجل مطلوب من البوليس الدولي.
- وبماذا يفيدني ذلك أيها الحقير؟
- عندما يصل البلد يمكنك أن تقيم دعوى تطالبه فيها بحقك.
وهم عبدالله أن يمسك به مجددا، لولا أن صاح باكيا:
- أرجوك .. أنا شديد المرض .. للتو خرجت من جراحة في القلب.
رفع يديه حنقا ورغبة في تحطيم الرجل، لكنه أنزلهما باستسلام...
- أغرب عن وجهي عليك اللعنة.
وأسرع الرجل بالهرب لا يلوي على شيء. وسمع عبدالله صوت محرك السيارة تمضي بسرعة، فألقى بنفسه فوق المقعد، محطم النفس، إلا من أمل ضئيل باسترداد ماله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى