المقاهي آمال الديب - كنوز مصرية.. مقهى الفيشاوي عبق التاريخ وروعة المكان

«مصر التي في خاطري.. أحبها..»

تاريخ عملاق لا تخطئه عين.. زماني ومكاني.. القاهرة (مقبرة الغزاة) التي اشتهرت قديماً وحديثاً بأنها تحمل من اسمها نصيباً غير منكور بأماكنها وأبطالها، وكتَّابها وفنانيها ومريديها كذلك.. من فكَّر أن يزور مصر ولم يتشوَّق لحي الحسين والغورية وشارع المعز وخان الخليلي، من ذا لم يطمع في جلسة على أحد مقاهي القاهرة القديمة، المقاهي التي تحمل تاريخ ونبض البشر، وبعضها يكاد يكون تلخيصاً جذرياً لحياتهم.
ومن هذه المقاهي العتيقة «مقهى الفيشاوي» الشهير بحي الأزهر العريق بالقاهرة، فبالإضافة إلى أنه يعد من أقدم مقاهي القاهرة، حيث يرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1797 م، أي قبل أكثر من قرنين من الزمان، فقد أصبح أكثر شهرة وبريقاً، بفضل الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ الذي كان «الفيشاوي» مقهاه المفضل، ففي رحابه يتكثف عبق الأجواء التاريخية والشعبية التي دارت حولها معظم أعماله الروائية، وشهد المقهى الكثير من المسودات الأولى لرواياته، وكان بمثابة فضاء حي، يلتقي فيه أصدقاءه ومحبيه من الكتاب والفنانين وبسطاء الناس.
ولأن دوام الحال من المحال.. لا تتعجب عندما تذهب حالياً إلى المقهى فتجده، على الرغم من شهرته الواسعة، قابعاً في أحد الأزقة الضيقة المتاخمة لمسجد الإمام الحسين بمنطقة الأزهر، في قلب القاهرة الفاطمية، بمنطقة خان الخليلي، وبمجرد دخولك إليه ستشعر أنك تكاد تشم عبق التاريخ في ربوعه، فلون خشبه البني المحروق وحوائطه الصفراء الداكنة بفعل دخان النارجيلة (الشيشة) وآثار الزمان، جعلت منه مزاراً لعشاق الأصالة والتراث، ووجوده في قلب القاهرة الفاطمية المليئة بالمزارات السياحية الأثرية جعل رواده مزيجاً غريباً بين المصريين والسياح العرب والأجانب من كل الجنسيات الذين يبهرهم جو المقهى الشرقي الخالص، بموائده الخشبية المشغولة، ومقاعده الأشبه بالأرائك العربية الوثيرة، والمرايا المعلقة على جوانبه ذات الأطر الخشبية المشغولة بالصدف.
يقع المقهى على شارع ضيق من سوق خان الخليلي في القاهرة، يبدو المقهى مبدعاً ولافتاً للنظر مع حلول الظلام، إذ تشاهد تلبيسة المشربية الخشبية والجدران المغرة الصفراء، ويتم تقديم مشروبات لذيذة ساخنة في أقداح زرقاء داكنة تأتي في صواني ذهبية كبيرة وتصب في أكواب مزخرفة، في حين تظهر الثريات الضخمة والمرايا مؤطرة في الخشب، ما يمثل روعة بصرية للمصورين والسياح العرب والأجانب.
ورغم أن «خان الخليلي» أصبح مليئاً بعدد لا حصر له من المقاهي، ذات المستويات المختلفة، وبعضها يطل على مسجد الإمام الحسين، والبعض الآخر يطل على شوارع رئيسية، فلم يستطع أيها أن ينافس «الفيشاوي» في شهرته، حتى أنك تجد بعض المقاهي الأخرى خاوية على عروشها، وعمالها يدعون الزبائن للجلوس بشتى الطرق، فيما قد لا تجد كرسياً خالياً في «الفيشاوي»، وقد تضطر إلى الانتظار لبعض الوقت حتى تخلو أي مائدة.
بداخل المقهى تجد الفيشاوي الكبير ينظر إليك ويرحب بك من خلال صورة ضخمة وضعت في إطار يحكي أصالة وعمارة المقهى، وهو يمتطي جوادا يختال به فخرا، حيث يومئ الفيشاوي إلى ناظره بالنظر في مرآة عتيقة تأخذ جانبا كبيرا من المقهى أبدع صانعها في تزيينها بالأرابيسك النادر، تشد الناظر إليها فيتأملها من جوانبها الأربعة، ولكل جانب منها له عبق كلاسيكي مميز يعكس شكلا آخر لمرآة أخرى وضعت في آخر الممر توهم الجميع أن هناك ممراً آخر، حتى تصطدم به فتتوقف لتتأملها، فهي عبارة عن أثر تاريخي يندر وجوده، جميل في تأمله رائع في تصميمه.
أول ما يشد انتباه الشخص داخل المقهى، غرفة صغيرة أشبه بمتحف وأثر معماري، اعتاد الجلوس بها الأديب نجيب محفوظ والعندليب عبد الحليم حافظ، تحوي بداخلها مرآة ثلاثية فريدة وساعة حائط كبيرة، يرجع تاريخها إلى العصر التركي، إلى جانب راديو أثري قديم جداً، بالإضافة إلى نجفة ضخمة يرجع تاريخها إلى عام 1800م، تزين هذه الغرفة، ولا يستطيع أحد دخول الغرفة أو الجلوس بها، إلا لمن اعتاد التردد عليها، وتميز عن غيره.. أمثال عمرو موسى والعندليب ومحفوظ.
ويشتهر مقهى الفيشاوي بالشاي الذي يقدمه، سواء الأسود منه أو الأخضر، حيث يقدم في إبريق معدني صغير، تفوح منه رائحة النعناع، على مائدة معدنية صغيرة، كما تقدم فيه النارجيلة (الشيشة) بنكهات مختلفة، وهو أكثر شيء يقبل عليه مرتادو «الفيشاوي» خاصة من الأجانب.
بدأ مقهى «الفيشاوي»، ببوفيه صغير أنشأه الحاج فهمي علي الفيشاوي عام 1797 في قلب خان الخليلي ليجلس فيه رواد خان «الخليلي» من المصريين والسياح، واستطاع أن يشتري المتاجر المجاورة له، ويحولها إلى مقهى كبير ذي ثلاث حجرات.
أولى غرف المقهى غرفة «الباسفور»، وهي مبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، وهي مليئة بالتحف والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، وأدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق، آخر ملوك أسرة محمد علي، في رمضان، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب.
وثاني الغرف أطلق عليها «التحفة»، وهي اسم على مسمى، وهي مزينة بالصدف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك والكنب المكسو بالجلد الأخضر، وهي خاصة بالفنانين.
وفي أعلى سقف الغرفة تشهد الإثارة الكلاسيكية والثقافية، حيث تجد قناديل تفنن الصانع في إبداعها وأضفت على الغرفة مزيداً من الرهبة والإحساس الرفيع بالأصالة في الصنع والجمال في الرؤية.
أما أغرب الحجرات فهي حجرة «القافية»، وكانت الأحياء الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين تتبارى كل خميس من شهر رمضان في القافية، عن طريق شخص يمثلها من سماته خفة الظل وسرعة البديهة وطلاقة اللسان والسخرية، فكان يبدأ ثم يرد عليه زعيم آخر يمثل حياً آخر، ويستمران في المنازلة الكلامية حتى يسكت أحدهما الآخر.
ويقول ضياء الفيشاوي، حفيد الحاج فهمي والمسؤول عن إدارة المقهى حالياً، «حرص جدي على إكساب مقهاه شكلاً مميزاً عن طريق حفاظه على النمط الشرقي في الأثاث والديكورات، وحافظ كل أولاده من بعده على هذا النهج، الأمر الذي أكسب المقهى طابعاً ميزه عن بقية المقاهي التي انتشرت في كل أرجاء خان الخليلي».
ويضيف ضياء «جدي كان يرى في تزيين المقهى بالمرايا ناحية وظيفية غير الناحية الجمالية، وهي أنها تسهل له رؤية كل أركان المقهى، وهو جالس في مكانه المفضل، بجوار باب المقهى من الداخل».
ويؤكد ضياء الفيشاوي أن المقهى وصلت مساحته أيام جده الأكبر حتى بلغت 400 متر، إلا أنه قال: «في ستينيات القرن الماضي قرر محافظ القاهرة تقليص مساحته حتى وصلت الآن إلى نحو 150 متراً فقط.. وأستطيع القول أن تقليص مساحة المقهى كان سبباً في وفاة جدي حسرة وألماً».
ويرى أكرم الفيشاوي، وهو واحد من الجيل السابع للعائلة، أن المقهى يمثل حقا الماضي في مصر، والآن يعد الأكثر شهرة في العالم العربي، ويمثل أسلوبا اجتماعيا تقليديا من الاسترخاء مع الأصدقاء والزملاء، داخل محور مكتظ كثيرا بالزائرين في منطقة القاهرة الإسلامية والمؤسسات التاريخية، مثل سوق خان الخليلي والمسجد الأكثر شعبية سيدنا الحسين بن علي والأزهر.
وأضاف أن هذا المكان شاهد على أصالة وعراقة التراث المصري الفريد، فضلاً عن أهميته التاريخية، بالنسبة لرواد المقهى أو لأسرة الفيشاوي، وقال: «أنا حريص كل الحرص في المحافظة على هذا المقهى الأثري، ولا أرغب في تطويره، أو إضافة أي لمسات جمالية إليه، حتى لا يفقد قيمته الأثرية وتميزه التاريخي».
ويرفض الفيشاوي إدخال تليفزيون أو حتى صالة للبلياردو، حيث يرى أن لها أماكنها الخاصة بها، وأن وجودها سوف يجلب الكثير من العامة الذين يفتقدون إلى الإحساس بالرؤية الجمالية لهذا المقهى.
وعن علاقة الأديب الراحل نجيب محفوظ بالمقهى يقول: «محفوظ كان دائم الجلوس بالمقهى، وكان صديقاً لوالدي، وألف معظم رواياته في المقهى، وكان يحب في ليالي شهر رمضان الاستماع إلى غناء المطربين الشعبيين محمد عبد المطلب ومحمد الكحلاوي وهما يشدوان بأغانيهما على المقهى، بل كثيراً ما شاركهما محفوظ الغناء ومعه بقية رواد المقهى».
أما عن أشهر رواد المقهى، فيوضح «كبار وعلية القوم في مصر والعالم في كل المجالات جلسوا بالمقهى، ومنهم جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والرئيس الجزائري بوتفليقة والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، والرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وعمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية الذي اصطحب معه عددا من وزراء الخارجية العرب».
ويضيف: «كما قامت إحدى المحطات التلفزيونية الفرنسية بالتسجيل مع الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في المقهى، كما يحرص العالم المصري الحائز على جائزة نوبل الدكتور أحمد زويل على زيارة المقهى كلما كان في القاهرة لتناول الشاي الأخضر».
أما عن زبائن المقهى من الفنانين، فيقول ضياء الفيشاوي: «كل فناني مصر بلا استثناء جلسوا بالمقهى، وأذكر منهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وسميحة أيوب وكمال الشناوي وعزت العلايلي وفاروق الفيشاوي وليلى علوي ومحمود عبد العزيز ونور الشريف وعادل ادهم واحمد زكي ومحمد هنيدي ومنى زكي وحنان ترك وأحمد السقا وأحمد حلمي وغيرهم


آمال الديب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى