المقاهي هاشم شفيق - طنجة ومقاهيها… الحياة تغزل ذكرياتها

لكل مقهىً في العالم سحر خاص ورائحة خاصة، وجوٌّ مميَّز، يُميِّز بين واحد وآخر، لكي يبلور المقهى بشكل عام صورته، ووسمه، وشكله التاريخي والاجتماعي والطبقي، داخل معالم الحياة كافَّةً. وبذا المقاهي في طنجة تبدو كثيرة ومتنوعة وغريبة الأشكال، فعددها لا يحصى، وهي بذلك تضفي مسحة من الجمال على المدينة، وتكمل نسق تشكيلتها وهندستها ومعمارها الفني والجمالي، وتحضن وتحدّ أي المقاهي، في الوقت نفسه من تبعثر مركز المدينة.

مقهى باريس

من المقاهي التي لفتتْ حسّي وذائقتي ونظري، مقهى باريس الذي كنت أتردَّد عليه يومياً لأشرب القهوة والاسترسال في الذكريات، وفي طبيعة الحركة الدائبة في الشارع، فهناك القهوة بالحليب والتركية السوداء والشاي المُنكَّه بعطر النعناع، هذا ما كنت أتناوله فيه، للمقهى يأتي أدباء طنجاويون يتحدثون في الشعر والرواية والمسرح والترجمة، وحين يملون الأحاديث الثقافية، يتحدثون عن الطبخات المغربية والنساء، ثم يبدأون التهامس عن هذه وتلك من العابرات، خاصة عن النساء السائحات الجميلات اللواتي يقمن بغزوات صيفية لبحرها الأخّاذ ولتراثها ومواقعها البديعة ومناخها الأنثوي الرقيق والدافئ .مقهى باريس يقع في قلب المدينة، بالقرب منه نجد السوق الكبير والقيسارية، ومدخل الأسواق الصغيرة، وبعض دور السينما والمكتبات العربية والأجنبية والفنادق الراقية والمطاعم المغربية والإيطالية والإسبانية والفرنسية .

مقهى الحافة

يتوجَّب على زائر طنجة ــ خاصة الشخص المغرم بالمقاهي ــ زيارة مقهى »الحافَّة» وهو حقاً يقع على حافّة بحرية، متكئا بثقله الخشبي الخفيف، على كتف تلة تشرف على البحر الذي بدوره، يمنحك إطلالة سخية على حركة السفن التي تتقدم باتجاه الأراضي الإسبانية، فالحالمون بالأسفار ينيخون أحلامهم هناك، عاكفين على النظر والإبصار في كل باخرة تمخر وشراع يتأهب وقلوع تُنشر لغرض الإيغال في الموجة الطنجية، باتجاه مدائن الأحلام للشباب المغربي، المتطلع إلى حياة أخرى، تكمن في تلك الجهات السحرية، الغريبة والقريبة في آن، فهي على مرمى نظرة ليس إلا .
هنا ستبحث عن جيل «البِيت» الأمريكي الذي ألقى مرساته بين أركانها الزرقاء، ستبحث عن كلماتهم وصورهم ونغمات قصائدهم التي تشرَّبتْ بعضاً من الدفء المالح المُحوِّم حول جنبات المقهى، وتاريخه المرتغي بالكلمات، تلك الكلمات التي اختلطت وضاعت بين المحار والصدف والرمال الحريرية لسواحل طنجة .وهنا ايضاً سترى المنار وهو يكشف تاريخ المستعمرين والغزاة والقراصنة والباحثين عن البقاع الأليفة والدافئة، وهم يأتون من أجل السطو على الألفة التي تتمتع بها طنجة، هذه المدينة التي تجلس باسترخاء على جُبَيل صغير، من الحجر الجيريّ، وهي ترسم الملتقى العالمي والكوني والطبيعي للقاء المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط.

مقهى طنجيس

هذا المقهى من المقاهي الفريدة، كونه يتوسط السوق الكبير، ويبدو أنه كان يتمتَّع بمجد غابر وعتيد، إذ ثمة فنادق تخاصره، وثمة شرفات أثيثة تهمس بما مضى من أيام رمّانية حمراء كانت تحيا هنا، تسهر وتعيش وتلهو، وهو رغم بهائه المعتق، أي المقهى، يبدو لزائره للوهلة الأولى أنه لم يزل يحتفظ بمحاسنه ولذائذه وشبابه العابر، وأجمل ما فيه، هي تلك الكراسي المُقصَّبة والطاولات ذات الطابع الإفرنجي، هذا عدا عن طراز الفناجين والأقداح والصواني التي يستخدمها في خدمة الزبائن .
يمرُّ في المقهى خليط عجيب من كل نوع، الموظف في دائرة قريبة، المستطرق وعابر السبيل، المتسوِّق الباحث عن استراحة سريعة، تلبي حاجته بعد عناء التسوق والدوران بين الدكاكين والمخازن، ويمرُّ به السائح والباحث عن سبب قديم، أو المتطلع مثلي إلى حركة السائرين في السوق، والمتسائل عن مكان محمد شكري الدائم وطاولته الغنية بالكلام والشراب والثرثرة الأدبية، يمرُّ نادل ما ليقول: هنا كان مجلس شكري وزاويته، طلته اليومية كانت تبهجنا، فهو منا والأقرب إلينا، لَكَم تباسط معنا وتباسطنا معه، ومزحنا حدَّ الخصام، كنّا نعرف أنه كاتب مهم، وعلى قدر كبير من الأهمية، وأنه بأدبهِ يشكل الرمز الألمع لنا ولطنجة وللمغرب عامَّةً.

حساء المحار

في بوليفار «محمد الخامس» الجميل، المرقش بأشجار النخيل المرصوفة على الجانبين، رونق النخيل المصفوف، يُعطي للشارع الفخامة الملكية والجلال الأشهب الممتد على طول هذا الشارع الطويل، ذي الممشى الوسيع الذي يتوسط الشارع، ويمنحه كل هذا البذخ الموسيقيّ، المتوائم مع أوركسترا الشاطئ .
في المساء، وعلى طول هذا الشارع الأهيف، كنت أرى عربات خشبية ملونة لبيع حساء المحار، عربات كأنها عربات العيد، مزخرفة بالألوان الجذابة التي تذكر بمواكب الأعراس الريفية، عربات تمتدّ وتظهر بين مسافة وأخرى. إن حساء المحار هذا، يباع بطاسات فضية، البخار الحليبيُّ يتصاعد منها، البائع يهمس إنه يقوِّي الباه. كلّ مساء كنت أذرع الشارع الطويل من أجل التمشِّي، أمرّ من هناك، بمحاذاة تلك العربات، لأتنشق الأسرار الساخنة للمحار المغلي .وعلى الرغم من كل الجماليات التي مرَّتْ، ثمة فقر وفاقة وسَغَب في المغرب، فهو ماثل للعيان، وأنت تراه يجوب الأمكنة حيثما ذهبت، ويغطي مساحات كثيرة من أراضيه، وأنا واقف بالقرب من عربة الحساء، أرى شيخاً أخاله أعمى من خلال حركاته، يطلب المعونة، ويؤشر بسبّابته رافعاً إيّاها في اتجاه من يمرّ ويقول «واحد» كل الذين يمرّون به يحسبونه وهو يرفع إصبعه تلك، أنها دلالة على الخالق، ولكن حين تقترب منه لتنفحه قطعة نقدية، يُردِّد: «درهم واحد» مُحدِّقاً بملء عينيه غير العمياوين، بما وهبته من نقد .

لحظة الأصيل في أصيلة

ليست بعيدة عني، محطة الحافلات المعروفة بـ«المحطة الطرقية» وهو مكان لنقل المسافرين إلى الأماكن والقصبات والضواحي القريبة من طنجة .أحد المواقف الموجودة في المحطة، خط مختص بالذهاب إلى مدينة أصيلة الساحلية، ذات التاريخ البهيج والجمال البنفسجي الذي يُميِّز قوامها البحري، عن بقية المدن المغربية .ننطلق في الحافلة عبر طريق ضيق، ولكنه مميز وجميل، لوقوع بلدات على أطراف الشارع تجعلك تديم النظر عبر النافذة، مستطلعاً معالم الريف المغربي، وطبيعته البريَّة المائلة إلى الفسح في المجال، أمام البراري والحقول والمَدَيات القمحيّة، لتكون المُمهِّد للطريق الذي استقطع من وقتنا ساعتين، لكي نصل في النهاية إلى هذا الربض المتعاشق بلونه الأبيض الزبديِّ الفوار، مع الأزرق الكحليِّ الناعس، لكي يمنح كلاهما الأبيض والأزرق، هذا التناغم الذي يُبسط الهيمنة واللدونة، على فضاء أصيلة، ويجعله المكان الفني المنغمس في البساطة الشاعرية والتأليه الرفيع، للنبالة الممنوحة من السيد البحر.
لأصيلة مكانة خاصة في موقع الذاكرة، فهي المدينة الشذرية التي تميل إلى التركواز في هيأتها اللونية، إنها مدينة تشبه الخزف الصينيّ، البحر يمدحها والبواخر العابرة، وتحمل الأشرعة جمالها الأزرق إلى العالم، مدينة لا تُنسى، تطبع بصمتها الخصوصية على فؤادك لكي تراها مرات ومرات .تتمتع أصيلة بالصِّغَر، وبضيق الحواري المرسومة بدقة الصنيع المُعبِّر، عن رهافتها الخارجية وعن سموِّها الداخلي، مدينة لوحة، لا بل تكاد أن تكون جدارية عالمية، مصيرها الظاهري هو اللون والطزاجة البحرية .. الأبواب المزرقة، والجدران الجصِّية، والنوافذ الليلكية، إنها لوحة مطعمة بالرمال والمحار والصدف والأحجار الزاهية التي تميل إلى النطق بالحُسْن، والتعبير عن مكنونها المُدلَّل المائل إلى الغُنج والافتخار بمحتواها الباطني السعيد .تتموضع في أصيلة مقاه رفيعة، تُذكِّر بالطرازين الإيطاليّ والفرنسي حتماً، وما أخفُّه النادل الذي يخفُّ إليك ليرى الطلبات، القهوة لها سحرها هناك فهي تأتيك مصحوبة بوشوشة البحر وهمساته المراقة على حافة القدح البلوري لـ«كافيه أوليه»، الفن يصحب تحضير القهوة في مقاهي أصيلة، وما أجمل المقاهي هناك، عريضة هي الواجهات، واسعة ومهمومة بالخدمة السريعة .على الساحل البيضاوي الراقص بالزبد، تمتد المقاصف التي توفِّر وجبات السمك المصحوبة بصنف طويل من الأنبذة الإفرنجية والإيطالية والإسبانية، أفضل المغربي على كل هذه الأصناف، لأنه الأكثر أصالة في أصيلة .حين ندلف للسوق ثمة نوع آخر من المقاهي والمطاعم التي توفِّر الطعام المغربي والشاي العربيّ، إنه السوق إذن، مترع برائحة الجلود وأنواعها، تلك التي تُميّز أصيلة وبقية المدن المغربية بفرادة نوعها. كل باب في أصيلة هو تحفة فنية، وكل نافذة هي لقيا سحرية، في الساحة المحاذية للأزقة الفنية، نجد فناءً أرضيته إسمنتية، وقد مُلئتْ بالرسوم الطباشيرية والأصابع الزيتية، نحدِّقُ في المعنى والحقول اللونية، حتى يقترب منا شخص يترجَّل من دراجة هوائية، يتحدث معنا قليلاً حول الرسوم، ثم يعزمنا إلى مطعمه، صاحب المطعم يرفض قبول مبلغ ما قدم لنا من نبيذ ومقبلات مصاحبة، كتبتُ بدوري له قصيدة تتحدث عن فتنة أصيلة، وأهديتها له، أسأله في تلك اللحظة الرومانسية، عن منزل صديقي الشاعر والمترجم المغربي مهدي أخريف، فيدلني عليه، فهو أحد ابناء أصيلة الجميلين والمُميّزين، نصل إلى منزله ولكننا لا نجده، وبينما نحن عائدان أدراجنا إلى مركز المدينة، يواجهنا الصديق في الطريق، يتفاجأ الشاعر والمترجم المغربي بوجودنا، فنقترح الجلوس في مقهى قريب من منزله، مقهى» ألبو غاز» نشرع في الحديث ونتشعب حتى نغادر، مودعين الصديق، وزوجته وابنته، واعدين بالمجيء مرة أخرى، إلى أصيلة التي سوف لن تتركك إلا على وعد بأن تزورها مرة ثانية .

كاتب وشاعر عراقي

http://www.alquds.co.uk/?p=786213

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى