" آل ربّاع " صار" آل منّاع ".. لا يهم .. المهم من يجلس ليستمع .. ويتعظ .. ولا يطير , ولا يفر .. ولا يقول : ..
ــ " خلصنا يا عم الشيخ .. ورانا مصالح "
ستة اشهر , وأنا فيهم .. أخطب .. وأتكلم .. وأقول " قال الله .. وقال الرسول ".. فَرَّغتُ نفسي تماماً من أجلهم ,أذهب إليهم كل يوم .. في الشتاءِ والصيف..لا أبالي ببرد .. ولا مطر .. ولا حر , ولا قر.. المهم أصل إليهم .. وهم يستمعون , ليتعظوا .. حتى بح صوتي .....
نصحني أصدقائي كثيراً.. ألا أثقل عليهم .. بإتيانهم كل يوم .. حتى لا أُمَلْ , وأَمَلْ ولكني لم أهتم , فرموني بالجنون, وانفضوا من حولي, فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم , ومنهم .. ثم استعنت بالله , وذهبت إليهم مع زميلي الذي صحبني ليريني الطريق .. وما أن دخلت العربة علي مشارف القرية.. حتى انفلت عقلي من عقاله وسرح في خياله الواسع.. وأحلامه الوردية.. تخيلت المكان.. ووجوه الناس الذين هم في انتظاري .. وجوه ناضرةٌ , مسفرةٌ , مستبشرة .. مشرئبّين , بقلوبٍ يقتلها الظمأ .. وهي متعطشة لحديثي المرتقب .. فوددت أن اسبق العربية إليهم ...
" قطعاً سيحبونني كثيراً جداً , وأنا كذلك , وسأقيم بينهم, وسأتزوج منهم , وسأبدأ معهم حياة جديدة .. وستصبح هذه بلدي الثانية .. وسيكونون أهلي , وعشيرتي , وناسي .. وسأجعل كبيرهم أبي .. وصغيرهم أخي .. وأكن كواحد منهم .. أفرح لفرحهم .. وأحزن لحزنهم .. وسأجعلهم يحلفون بحياتي ...".....
ــ وصلنا المدخل يا عم الشيخ ..؟!
شكرته ونزلت مع زميلي .. الأرض الزراعية تحيطنا من كل جانب , سحبت , قدماي التي تكاد لا تلامس الارض من شدة الفرحة , مشيت مهرولاً .. الإسفلت بمحاذاة الترعة الصغيرة , المليئة بالمياه الضحلة .. أتطلع إلي السحاب , وهو يسبقني .. والطير من فوقي يصدح , وقد ملأ وجه السماء ....
الخَضار يحيطنا من كل جانب .. والمنازل الريفية , وقد وزعت بطريقةٍ ساحرةٍ .. والناس بملابسهم البسيطة يمضون .. كلٌ إلي وجهته , وهم لا يلون على شيء , كقطعة من الطبيعة الخلابة.. حمير تنهق , مواشي تصدر خواراً متقطعاً , والكلاب تنبح عليّ .. والأشجار الصنوبرية مسطورةُ علي الطريق , وكأنها تميمة فرعونية رائعة .. والنخيل المبعثر بيد الطبيعة, وسط الحقول يتراقص بمرأى عجب, يتمايل مع الريح .. وجزلاً كنت أسير .. وخلتُ للحظة وكأن اليوم بالنسبة لي يوم عيد .. وكأن البلد قد أعَدت نفسها لاستقبالي .. في حفلٍ رائع, مهيب , وجميل .." بنزيمة للعربات " أول شيء يصادفك علي الطريق .. وفي الجبهة المقابلة من اليمين .. " مستودع عاز ".. بمحاذاته .. " مدرسة ثانوية مشتركة ".. ثم مدرسة أخرى .. ثم نقطة شرطة.. وبعض المنازل الصغيرة .. كسرت يميناً في حارة ضيقة ليس فيها غير بيت , أو بيتان , أخرهما " وبور المياه " .. ثم قهوة صغيرة بحجم الغرفة الواحدة .. وبعدها بخطوات قليلة .. استقبلنا جامع متواضع .. وكنت أسير مع زميلي في صمت.. ربما قطعه سؤالاً مني .. أو بضع كلمات منه , في موضوع ما .. لا نتعدى كلمات قلائل .. ثم نعود إلي الصمت من جديد .. ويعود عقلي إلي خياله .. وما كنت أفكر فيه ....
وأخيراً وصلنا إلي المكان .. كان المكان مغلق .. لا أحد فيه ..لا يوجد أحد.. اللهُمَّ إلا ثلاثة " دِكَكَ ".. جلسنا علي واحدة منها, تسامرنا بعض الوقت.. أخد يقص عليَّ قصته.. وهو يحكي لي عن أهل هذه القرية.. وعن المكان الذي سأعمل فيه حتى دخل علينا الظهر .. فعرض عليّ ان نصلي في الجامع الكبير .. أومئت له بالموافقة .. وأنا أحاول جاهداً أن أخرج له ابتسامة بسيطة .. ونحن في الطريق . أخذ يبين لي مداخل القرية.. ومعالمها .. ويقول لي ... وهو يشير بيده ...
ـــ " هذه الوحدة الصحية ... وهذا هو السنترال ... والبوسطة ... والوحدة البيطرية .. ونقطة الشرطة .. والنادي .. والمعهد الأزهري الجديد .. الذي قام بالجهود الذاتية .. علي مساحة كبيرة من الأرض ... " ؟؟!!...
وكنت أستمع إليه .. وأنا في دنيا ثانية , وعالم أخر جميل... ألقيت نظرة سريعة علي المكان .. عندما عدنا من نفس الطريق .. ورجعت .. أحدث كل من يقابلني من الاصدقاء , ببهجةٍ , وسعادةٍ ..عن مكاني الجديد عند " آل رباع ".....
غداً سأقف فيهم خطيباً مفوَّها ً..والكل سيجلس ليسمعني , وأنا واقف فيهم أعظهم وأذكرّهم , وأعرفهم كل شيء , وسأدعهم يسألون عن كل شيء , وعن أي شيء يخطر في ببالهم .. وأنا أجيب و لا, ولم , ولن أمل حتى يملوا .. وحتى إن ملوا .. سأروّح عنهم ببعض القصص .. والحكايات الطريفة .. وإن انصرفوا عني .. سأجلس في مكاني .. أحدث من حضر .. وأقول ..
ــ" قال الله .. قال رسوله ..".
المهم أؤدي واجبي علي أكمل وجه .. وكما ينبغي .. فأنا معي رسالة .. وأريد أن أوصلها للناس , أي ناس , فليكونوا .." آل ربّاع ".. أو" آل منّاع "..أو غيرهم , لا يهم .. المهم من يجلس ليستمع .. حتى تصل الرسالة .. وليكون ما يكون وقد كان ما كان .. وتوالت الأيام , والأحداث .. أذهب إليهم كل يوم ..فأجد المكان مغلق .. ولا أحد هناك , كالعادة .. اللهمَّ إلا نفر يسير .. والأطفال من حولهم يحفظون القران في الألواح ..{ نسيت أن أذكر بأن في هذا المكان " كُتّابْ " } وهذا مما زاد من دواعي سروري .. وزاد من مجهودي أيضاً .. فقد خصصت يومين في الأسبوع للأطفال فقط .. ومن أراد أن يستمع من الكبار .. فلن أبخل عليه بالسماع وفرح الأطفال , وفرحت أنا أيضاً .. وهلّلوا , وصفقوا , وهاصوا , وراحوا يتزايدون , ويكثرون يوماً بعد يوم .. وبالتالي زدت أنا من مضاعفة مجهودي , حتى قلت لهم يوماً : .. ــ هل من مزيد ــ فعلقوا , وسخروا , وضحكوا , وضحكت أنا لضحكهم .. وهكذا ... حتى أصبحت حديث القرية .. وخاصة بعدما هداني الله , لفكرة طيبة , ألا وهي ." أعددت لهم مسابقةٍ .. وسألتهم فيما قلت لهم .. وسمعوه مني .. فاستجابوا لذلك .. ونجح الجميع .. بتفوق واقتدار.. وفرحوا بذلك .."...
فأنا معي رسالة .. أريد أن أبلغها للناس .. أيّ ناس .. ليس مهم أن يكونوا ..
" آل ربّاع ".. أو" آل منّاع " .. أو غيرهم , لا يهم ..المهم أن تصل اليهم.. ولن أمل حتى يملوا, وإن ملوا , ولن أسكت عن الكلام .. وإن انفضّوا من حولي .. وانصرفوا .. حتى ولو تكلموا عني ورموني , بالهوس , أو الجنون .. فليقولوا ما يقولوا .. فهذه مهمتي .. وهذا طريقي الذي اخترته .. قدري أن أسير فيه .. ولن أحيد عنه قيد أُنملة , وحتى أخرج من أثم كتمان العلم .. ولا أكتم سراً ..
لو قلت أنهم , أقسموا لي بالله العظيم , يميناً مغلظاً بكسر الهاء .. بأنهم قد فرحوا بي , أيما فرح منذ جئت إليهم .. وكأني مدد من السماء جاء إليهم .. حتى يعرفوا أمور دينهم .. حتى قالوا لي : بالحرف الواحد ...
ــ " والله تعلمنا من الشيخ .. كثيراً من يوم أن جاء إلينا . " !!!
وكنت كلما ضايقني أمر ما .. كعدم النظافة مثلاً .. أو اشتكيت من هروب العمال .. وبأني لم أراهم .. وغضبت .. وأردت أن أجس النبض .. بقولي ــ " سأطلب نقلي من هذا المكان .. " ؟!!...
التفوا حولي .. يهدّئوني .. وهم يمتدحوني .. ويثنوا عليَّ خيراً .. ويطروني .. ويعدوني بأن يلبوا لي كل ما أريد .. فأشكرهم , وأشرع في الدرس ..
وتوالت الأيام .. والأحداث .. وأصدقائي يتغامزون من ورائي .. وينصحوني بعدم الذهاب يومياً .. حتى لا أَمل , أو أُمل , فأخرج لهم لساني .. وأدعهم , وأنصرف , مهرولاً إليهم , حتى ألحق المواصلات .. قائلاً لهم ..
ـــ " الناس في انتظاري هناك .. " ...
ستة أشهر , مائة وثمانون يوماً بالتمام , والكمال .. أذهب إليهم .. فأجد المكان مغلق .. أفتحه .. أجلس .. أنتظر من يأتي منهم .. ليستمع ..
في الأمس القريب قابلني صديقٍ قديم .. أخبرني بأني قد تم نقلي ..إلي مكان أخر.. في البداية .. ظننته يهزأ بي .. ويضحك عليّ ... لكنّ كلامه كان صدقاً .. علمت ذلك من الموجِّه .. فسألته بعصبية , وبجنون : ... ـ
ــ " ماذا فعلت .. ولماذا .." .. ؟! ..
فقال لي ..
ــ " لأن النفوس قد بدأت تشحن منك " ..
فاسترجعت كل ما كان .. ثم تحوقلت.. وقلت بصوتٍ عالٍ , بعدما ضربت كفاً بكف.
ــ إنهم أحبوني كثيراً .!.. وأقسموا لي علي ذلك .!.. وأخذوا عليّ .. وأخذت عليهم ستة أشهر وأنا معهم .. فلماذا .. " ؟؟ !! ..
فضغط علي يدي , ونصحني , بأن أغير المكان , وراح يشكر لي في مكاني الجديد .. ثم همس في أذني ...
ــ " لا تذهب اليهم كل يوم .. يكفي يوماً أو يومان في الأسبوع . " ! ..
ووعدني بأنه إن مر هناك .. فلن يإخذني غياب .. فشكرت له ذلك .. وأنا أمسح دموعي .. حتى لا تقع علي الأرض .. وسألته عن الخطاب الذي سأتوجه به إلي هناك ... فقال مع الشيخ " عشري ".. فلم أنتظر... تأبطت كتابي .. وركبت العربة وذهبت إلي هناك .. ألقيت نظرة وداع أخيرة , طويلة , علي مكاني الأول سلمت علي كل من فيه .. كانوا ثلاثة نفرٍ فقط .. جالسين على "الدكة " وحولهم الأطفال قال أحدهم وهو يبتسم ابتسامة خفيفة ...
ــ روح هات المفتاح يا ولد لعمك الشيخ ..
ــ لا ما في داعي .. أنا خلاص أتنقلت من هنا .
قلت له ذلك . وعيني ترقُبه .. لأري وقع الخبر عليه .. وهو من واظب علي سماع الدروس .. لم يكترث ..أو يتحرك له ساكن .. واستمر في كتابة اللوح الذي في يده لأحد الصبيان الجالسين أمامه .. " الم نشرح لك صدرك .. " فقط قال ..
ــ " ماشي يا عم الشيخ .." ..
قمت لأنصرف , بعدما ودعتهم, وعند الباب وقبل أن أتجاوزه , وجدت أحد العمال الذين لم أراهم إلا مرة , أو مرتين علي ألأكثر , طيلة ستة أشهر , كان مبتسماً , ابتسامة بلهاء مستفزة , فطلبت منه بأن يصحبني , حتى يدلني علي المكان الجديد وعندما وصلت إليه .. وجدته مغلق هو الأخر ..أتوا لي بالمفتاح فتحته , دخلت .. توضأت , صليت ركعتين " تحية المسجد ".. ثم جلست أنتظر أحداً يأتي حتى أتكلم معه .. أسمعه , يسمعني .. لا يهم .. المهم ..أن يجلس معي .. ولا يطير في الدنيا .. ولا يفرّ .. أو يتقلقل .. أو يتأفف .. وهو يقول : ..
ــ " خلصنا يا عم الشيخ " ورانا مصالح "
وسآتي أليهم كل يوم ... في الشتاء , والصيف .. ولن أتأخر عنهم .. ولا أبالي .. بحرٍ , أو قر , ما داموا يسمعوني .. ولن أمل , وإن ملوا ....
نظرت في ساعة يدي, كانت تشير إلي الثالثة عصراً, دخل رجلٌ وقور, ومن خلفه خمسة نفر .. تعرفت عليهم .. ثم فتحت الكتاب لألقي عليهم الدرس .. ربع ساعة.. ما زدت عنها .. قيد أنمله .. إلا ووجدتهم قد أقاموا الصلاة .. وهم يهمهمون .. بكلمات غير مفهومة .. صليت بهم العصر .. ثم جلست .. وقد غلبتني دموعي .. فبكيت .. فجلسوا حولي .. يسألوني .. عن السر .. فلما علموا سر بكائي .. جلسوا .. يواسوني .. وهم يعدوني بأنهم .. سيستمعون ليّ ليل نهار.. وبأن الله قد أكرمهم بيّ.. وبأن.. وبأن .." وعسى أن تكرهوا .. وعسى أن تحبوا ..."..و.. و.
ثم بعد ذلك , تركوني , وانصرفوا .. وجلست وحيداً.. حزيناً .. يداي علي رأسي .. متأوهاً .. ووآآآه ... رأساااه ...
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
من مجموعتي الثانية .. "حفيف السنابل "
ــ " خلصنا يا عم الشيخ .. ورانا مصالح "
ستة اشهر , وأنا فيهم .. أخطب .. وأتكلم .. وأقول " قال الله .. وقال الرسول ".. فَرَّغتُ نفسي تماماً من أجلهم ,أذهب إليهم كل يوم .. في الشتاءِ والصيف..لا أبالي ببرد .. ولا مطر .. ولا حر , ولا قر.. المهم أصل إليهم .. وهم يستمعون , ليتعظوا .. حتى بح صوتي .....
نصحني أصدقائي كثيراً.. ألا أثقل عليهم .. بإتيانهم كل يوم .. حتى لا أُمَلْ , وأَمَلْ ولكني لم أهتم , فرموني بالجنون, وانفضوا من حولي, فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم , ومنهم .. ثم استعنت بالله , وذهبت إليهم مع زميلي الذي صحبني ليريني الطريق .. وما أن دخلت العربة علي مشارف القرية.. حتى انفلت عقلي من عقاله وسرح في خياله الواسع.. وأحلامه الوردية.. تخيلت المكان.. ووجوه الناس الذين هم في انتظاري .. وجوه ناضرةٌ , مسفرةٌ , مستبشرة .. مشرئبّين , بقلوبٍ يقتلها الظمأ .. وهي متعطشة لحديثي المرتقب .. فوددت أن اسبق العربية إليهم ...
" قطعاً سيحبونني كثيراً جداً , وأنا كذلك , وسأقيم بينهم, وسأتزوج منهم , وسأبدأ معهم حياة جديدة .. وستصبح هذه بلدي الثانية .. وسيكونون أهلي , وعشيرتي , وناسي .. وسأجعل كبيرهم أبي .. وصغيرهم أخي .. وأكن كواحد منهم .. أفرح لفرحهم .. وأحزن لحزنهم .. وسأجعلهم يحلفون بحياتي ...".....
ــ وصلنا المدخل يا عم الشيخ ..؟!
شكرته ونزلت مع زميلي .. الأرض الزراعية تحيطنا من كل جانب , سحبت , قدماي التي تكاد لا تلامس الارض من شدة الفرحة , مشيت مهرولاً .. الإسفلت بمحاذاة الترعة الصغيرة , المليئة بالمياه الضحلة .. أتطلع إلي السحاب , وهو يسبقني .. والطير من فوقي يصدح , وقد ملأ وجه السماء ....
الخَضار يحيطنا من كل جانب .. والمنازل الريفية , وقد وزعت بطريقةٍ ساحرةٍ .. والناس بملابسهم البسيطة يمضون .. كلٌ إلي وجهته , وهم لا يلون على شيء , كقطعة من الطبيعة الخلابة.. حمير تنهق , مواشي تصدر خواراً متقطعاً , والكلاب تنبح عليّ .. والأشجار الصنوبرية مسطورةُ علي الطريق , وكأنها تميمة فرعونية رائعة .. والنخيل المبعثر بيد الطبيعة, وسط الحقول يتراقص بمرأى عجب, يتمايل مع الريح .. وجزلاً كنت أسير .. وخلتُ للحظة وكأن اليوم بالنسبة لي يوم عيد .. وكأن البلد قد أعَدت نفسها لاستقبالي .. في حفلٍ رائع, مهيب , وجميل .." بنزيمة للعربات " أول شيء يصادفك علي الطريق .. وفي الجبهة المقابلة من اليمين .. " مستودع عاز ".. بمحاذاته .. " مدرسة ثانوية مشتركة ".. ثم مدرسة أخرى .. ثم نقطة شرطة.. وبعض المنازل الصغيرة .. كسرت يميناً في حارة ضيقة ليس فيها غير بيت , أو بيتان , أخرهما " وبور المياه " .. ثم قهوة صغيرة بحجم الغرفة الواحدة .. وبعدها بخطوات قليلة .. استقبلنا جامع متواضع .. وكنت أسير مع زميلي في صمت.. ربما قطعه سؤالاً مني .. أو بضع كلمات منه , في موضوع ما .. لا نتعدى كلمات قلائل .. ثم نعود إلي الصمت من جديد .. ويعود عقلي إلي خياله .. وما كنت أفكر فيه ....
وأخيراً وصلنا إلي المكان .. كان المكان مغلق .. لا أحد فيه ..لا يوجد أحد.. اللهُمَّ إلا ثلاثة " دِكَكَ ".. جلسنا علي واحدة منها, تسامرنا بعض الوقت.. أخد يقص عليَّ قصته.. وهو يحكي لي عن أهل هذه القرية.. وعن المكان الذي سأعمل فيه حتى دخل علينا الظهر .. فعرض عليّ ان نصلي في الجامع الكبير .. أومئت له بالموافقة .. وأنا أحاول جاهداً أن أخرج له ابتسامة بسيطة .. ونحن في الطريق . أخذ يبين لي مداخل القرية.. ومعالمها .. ويقول لي ... وهو يشير بيده ...
ـــ " هذه الوحدة الصحية ... وهذا هو السنترال ... والبوسطة ... والوحدة البيطرية .. ونقطة الشرطة .. والنادي .. والمعهد الأزهري الجديد .. الذي قام بالجهود الذاتية .. علي مساحة كبيرة من الأرض ... " ؟؟!!...
وكنت أستمع إليه .. وأنا في دنيا ثانية , وعالم أخر جميل... ألقيت نظرة سريعة علي المكان .. عندما عدنا من نفس الطريق .. ورجعت .. أحدث كل من يقابلني من الاصدقاء , ببهجةٍ , وسعادةٍ ..عن مكاني الجديد عند " آل رباع ".....
غداً سأقف فيهم خطيباً مفوَّها ً..والكل سيجلس ليسمعني , وأنا واقف فيهم أعظهم وأذكرّهم , وأعرفهم كل شيء , وسأدعهم يسألون عن كل شيء , وعن أي شيء يخطر في ببالهم .. وأنا أجيب و لا, ولم , ولن أمل حتى يملوا .. وحتى إن ملوا .. سأروّح عنهم ببعض القصص .. والحكايات الطريفة .. وإن انصرفوا عني .. سأجلس في مكاني .. أحدث من حضر .. وأقول ..
ــ" قال الله .. قال رسوله ..".
المهم أؤدي واجبي علي أكمل وجه .. وكما ينبغي .. فأنا معي رسالة .. وأريد أن أوصلها للناس , أي ناس , فليكونوا .." آل ربّاع ".. أو" آل منّاع "..أو غيرهم , لا يهم .. المهم من يجلس ليستمع .. حتى تصل الرسالة .. وليكون ما يكون وقد كان ما كان .. وتوالت الأيام , والأحداث .. أذهب إليهم كل يوم ..فأجد المكان مغلق .. ولا أحد هناك , كالعادة .. اللهمَّ إلا نفر يسير .. والأطفال من حولهم يحفظون القران في الألواح ..{ نسيت أن أذكر بأن في هذا المكان " كُتّابْ " } وهذا مما زاد من دواعي سروري .. وزاد من مجهودي أيضاً .. فقد خصصت يومين في الأسبوع للأطفال فقط .. ومن أراد أن يستمع من الكبار .. فلن أبخل عليه بالسماع وفرح الأطفال , وفرحت أنا أيضاً .. وهلّلوا , وصفقوا , وهاصوا , وراحوا يتزايدون , ويكثرون يوماً بعد يوم .. وبالتالي زدت أنا من مضاعفة مجهودي , حتى قلت لهم يوماً : .. ــ هل من مزيد ــ فعلقوا , وسخروا , وضحكوا , وضحكت أنا لضحكهم .. وهكذا ... حتى أصبحت حديث القرية .. وخاصة بعدما هداني الله , لفكرة طيبة , ألا وهي ." أعددت لهم مسابقةٍ .. وسألتهم فيما قلت لهم .. وسمعوه مني .. فاستجابوا لذلك .. ونجح الجميع .. بتفوق واقتدار.. وفرحوا بذلك .."...
فأنا معي رسالة .. أريد أن أبلغها للناس .. أيّ ناس .. ليس مهم أن يكونوا ..
" آل ربّاع ".. أو" آل منّاع " .. أو غيرهم , لا يهم ..المهم أن تصل اليهم.. ولن أمل حتى يملوا, وإن ملوا , ولن أسكت عن الكلام .. وإن انفضّوا من حولي .. وانصرفوا .. حتى ولو تكلموا عني ورموني , بالهوس , أو الجنون .. فليقولوا ما يقولوا .. فهذه مهمتي .. وهذا طريقي الذي اخترته .. قدري أن أسير فيه .. ولن أحيد عنه قيد أُنملة , وحتى أخرج من أثم كتمان العلم .. ولا أكتم سراً ..
لو قلت أنهم , أقسموا لي بالله العظيم , يميناً مغلظاً بكسر الهاء .. بأنهم قد فرحوا بي , أيما فرح منذ جئت إليهم .. وكأني مدد من السماء جاء إليهم .. حتى يعرفوا أمور دينهم .. حتى قالوا لي : بالحرف الواحد ...
ــ " والله تعلمنا من الشيخ .. كثيراً من يوم أن جاء إلينا . " !!!
وكنت كلما ضايقني أمر ما .. كعدم النظافة مثلاً .. أو اشتكيت من هروب العمال .. وبأني لم أراهم .. وغضبت .. وأردت أن أجس النبض .. بقولي ــ " سأطلب نقلي من هذا المكان .. " ؟!!...
التفوا حولي .. يهدّئوني .. وهم يمتدحوني .. ويثنوا عليَّ خيراً .. ويطروني .. ويعدوني بأن يلبوا لي كل ما أريد .. فأشكرهم , وأشرع في الدرس ..
وتوالت الأيام .. والأحداث .. وأصدقائي يتغامزون من ورائي .. وينصحوني بعدم الذهاب يومياً .. حتى لا أَمل , أو أُمل , فأخرج لهم لساني .. وأدعهم , وأنصرف , مهرولاً إليهم , حتى ألحق المواصلات .. قائلاً لهم ..
ـــ " الناس في انتظاري هناك .. " ...
ستة أشهر , مائة وثمانون يوماً بالتمام , والكمال .. أذهب إليهم .. فأجد المكان مغلق .. أفتحه .. أجلس .. أنتظر من يأتي منهم .. ليستمع ..
في الأمس القريب قابلني صديقٍ قديم .. أخبرني بأني قد تم نقلي ..إلي مكان أخر.. في البداية .. ظننته يهزأ بي .. ويضحك عليّ ... لكنّ كلامه كان صدقاً .. علمت ذلك من الموجِّه .. فسألته بعصبية , وبجنون : ... ـ
ــ " ماذا فعلت .. ولماذا .." .. ؟! ..
فقال لي ..
ــ " لأن النفوس قد بدأت تشحن منك " ..
فاسترجعت كل ما كان .. ثم تحوقلت.. وقلت بصوتٍ عالٍ , بعدما ضربت كفاً بكف.
ــ إنهم أحبوني كثيراً .!.. وأقسموا لي علي ذلك .!.. وأخذوا عليّ .. وأخذت عليهم ستة أشهر وأنا معهم .. فلماذا .. " ؟؟ !! ..
فضغط علي يدي , ونصحني , بأن أغير المكان , وراح يشكر لي في مكاني الجديد .. ثم همس في أذني ...
ــ " لا تذهب اليهم كل يوم .. يكفي يوماً أو يومان في الأسبوع . " ! ..
ووعدني بأنه إن مر هناك .. فلن يإخذني غياب .. فشكرت له ذلك .. وأنا أمسح دموعي .. حتى لا تقع علي الأرض .. وسألته عن الخطاب الذي سأتوجه به إلي هناك ... فقال مع الشيخ " عشري ".. فلم أنتظر... تأبطت كتابي .. وركبت العربة وذهبت إلي هناك .. ألقيت نظرة وداع أخيرة , طويلة , علي مكاني الأول سلمت علي كل من فيه .. كانوا ثلاثة نفرٍ فقط .. جالسين على "الدكة " وحولهم الأطفال قال أحدهم وهو يبتسم ابتسامة خفيفة ...
ــ روح هات المفتاح يا ولد لعمك الشيخ ..
ــ لا ما في داعي .. أنا خلاص أتنقلت من هنا .
قلت له ذلك . وعيني ترقُبه .. لأري وقع الخبر عليه .. وهو من واظب علي سماع الدروس .. لم يكترث ..أو يتحرك له ساكن .. واستمر في كتابة اللوح الذي في يده لأحد الصبيان الجالسين أمامه .. " الم نشرح لك صدرك .. " فقط قال ..
ــ " ماشي يا عم الشيخ .." ..
قمت لأنصرف , بعدما ودعتهم, وعند الباب وقبل أن أتجاوزه , وجدت أحد العمال الذين لم أراهم إلا مرة , أو مرتين علي ألأكثر , طيلة ستة أشهر , كان مبتسماً , ابتسامة بلهاء مستفزة , فطلبت منه بأن يصحبني , حتى يدلني علي المكان الجديد وعندما وصلت إليه .. وجدته مغلق هو الأخر ..أتوا لي بالمفتاح فتحته , دخلت .. توضأت , صليت ركعتين " تحية المسجد ".. ثم جلست أنتظر أحداً يأتي حتى أتكلم معه .. أسمعه , يسمعني .. لا يهم .. المهم ..أن يجلس معي .. ولا يطير في الدنيا .. ولا يفرّ .. أو يتقلقل .. أو يتأفف .. وهو يقول : ..
ــ " خلصنا يا عم الشيخ " ورانا مصالح "
وسآتي أليهم كل يوم ... في الشتاء , والصيف .. ولن أتأخر عنهم .. ولا أبالي .. بحرٍ , أو قر , ما داموا يسمعوني .. ولن أمل , وإن ملوا ....
نظرت في ساعة يدي, كانت تشير إلي الثالثة عصراً, دخل رجلٌ وقور, ومن خلفه خمسة نفر .. تعرفت عليهم .. ثم فتحت الكتاب لألقي عليهم الدرس .. ربع ساعة.. ما زدت عنها .. قيد أنمله .. إلا ووجدتهم قد أقاموا الصلاة .. وهم يهمهمون .. بكلمات غير مفهومة .. صليت بهم العصر .. ثم جلست .. وقد غلبتني دموعي .. فبكيت .. فجلسوا حولي .. يسألوني .. عن السر .. فلما علموا سر بكائي .. جلسوا .. يواسوني .. وهم يعدوني بأنهم .. سيستمعون ليّ ليل نهار.. وبأن الله قد أكرمهم بيّ.. وبأن.. وبأن .." وعسى أن تكرهوا .. وعسى أن تحبوا ..."..و.. و.
ثم بعد ذلك , تركوني , وانصرفوا .. وجلست وحيداً.. حزيناً .. يداي علي رأسي .. متأوهاً .. ووآآآه ... رأساااه ...
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
من مجموعتي الثانية .. "حفيف السنابل "