حسام عزوز - تأسيس

حسام عزوز.jpg

1
ـ "احفر" !....... أيضاً !!! إلى متى سنبقى نحفر ؟؟! إلى الأبد؟ وأيّ قلعة لها مثل هذا الأساس ؟!.
قلت لنفسي بغضب ، ونظرت نظرة حقدٍ إلى ذلك الشيخ المتعب الذي لا يمل ,ونظرة أخرى إلى يدي المتقرحتين . أشفقت على نفسي , هذا الشيخ الخَرِف سيجعلنا أضحوكة . الجميع بنوا ولم يؤسسوا ربع أساسنا . عبّ من لفافته بنهم وقال مرةً أخرى :" احفر " .. تملكتني الرعدة ,ولكن لم أملك أن أعبّر عن رفضي فأنا بحاجة إلى مساعدته قبل أن يموت ونرتاح .لا املك إلا أن أحفر , وإلا سأبقى بلا بيت , لقد صارت أرضنا كلها أساساً . لن يكون لنا بيت , سيكون لنا أساس " هاهاها" مجرد أساس . مُت أيها الشيخ ودعني أعمل ما أشاء , فلولاك لصار بيتي أعلى بيت وأجمل بيت , مللت هذيانك يا رجل (العواصف قادمة, وستكثر زلازلكم , سيأكلكم القحط ) ...... أفففففففف.. مللت ..لا وليس هذا فقط . إني أتحمل منّته عندما يقول :"ليس فقط لك أبني ... إني أبني للكل ". ما معنى الكل؟! .
شهق وهو يضرب بالمعول من التعب وظلّ يكابر. كاد يموت ولم يتوقف. ظلّ يحفر ويحفر . يؤسس . ليس لي إلا أن أنتظر موته لأفعل ما أريد , ما لي وحكمة الشيوخ, هذه الدنيا بحاجة إلى عزيمة الشباب ,
وفي النهاية رميت المعول من يدي ورحلت , لن أبقى رهن تخريفه سأبني بيتي وحدي .
وهكذا تركت جدي لأوهامه ورحت أبني بيتي كما أشاء , ووضعت الأساس ورفعت جدراني كما أحلم
وسقفت بيتي و زينته وفرشته ولم يعكّر سعادتي سوى تعليقاته و تساؤلاته الساخرة .
أما هو فقد أجهد نفسه بالغ الجهد . وتعذب كثيراً وأراد أن يكمل البيت قبل أن يموت , لكنه لم يستطع أن يعلو ببنائه أكثر من متر ونصف المتر فوق الأرض ,ومات بعد أن سقط وشُجّ رأسه , ولم يكن حوله سوى الشامتين , ولا يعرف أحد الآن أين قبره . إذ لم يشارك في تشييعه سوى العجّز الذين ماتوا أيضاً.
أما أنا فظلت في نفسي حكاياته وتصرفاته!...

2
أنا الآن فوق كومةٍ من الخراب , وسط العتمة, زوجتي وأولادي لا صوت لهم ولا حركة , ربما ماتوا تحت الأنقاض . إني أسمع الهمهمات , إذ لا صرخة . لا نداء استغاثة من هول المفاجأة , فقط تساؤلات بلهاء عما حدث . لكن على ما يبدو أن جميع البيوت سقطت على رؤوس أصحابها , وسقطت معها كل الخطابات الحماسية التي تجعل بيت صاحبها أقوى من كل العواصف والزلازل والرياح ,وسقطت كل الشعارات البراقة الجوفاء ,وأظهرت أول هزة المزيف والحقيقي.
لقد سقط بيتي الجميل فوق رؤوس أهلي . الآن فقط مات جدي ,ومات معه مشروعه الضخم , ولم يبق منه سوى نظرته القاسية المؤنبة , وكلماته الساخرة من كل المشاريع الأخرى .
فيا أيها الصباح لا تبزغ فوق هذه الأرض وخلِّ خرابنا مستوراً بعتمك الجليل.

3

لم يبقَ للناس سوى الندب والبكاء , واكتفوا بشتم العاصفة بدل أن يغيروا طريقتهم في البناء , وقالوا : إن العاصفة كانت قوية ولن يأتي مثلها بعد الآن , وعادوا للبناء والخطابات الجوفاء والشعارات الرنانة . أما بناء جدي فقد ظل صامداً في وجه العواصف والزلازل , وبدل أن يزوروه ليتعلموا , رأوا فيه ملاذاً مستوراً لقضاء الحاجات المخجلة , ومكاناً مناسباً لقذف فضلاتهم فيه!!!.
4

بكيت كثيراً عندما رأيت بيت جدي منتصباً شامخاً , وأصابعي التي جرّحتها ندامتي ذكرتني بالجراح التي فتحتها المعاول , سأعود لأكمل بناء جدي , علّ روحي وروحه تستريحان , ولكن أنّى لي خبرة مثل خبرة جدي .وجدت الأمر صعباً للغاية , ولكن بذلت جهدي وأكملت البناء وصار عندي حصن يقيني الجوائح التي تمر بها البلاد, وظني أن روح جدي قد ارتاحت !!!!.

5

لقد انهار البيت مرات كثيرة وذاك الأساس القديم صامد كما تركه جدي! والناس كذلك صامدون , فلم يغيروا طريقتهم ولا خطاباتهم ولا شعاراتهم فهم باقون على خطاهم ,ولكن العواصف والزلازل ما زالت قوية وما زالت الأبنية و البيوت تنهار!!!.

6

لم يبقَ لدي سوى الأساس الذي سخرت منه ! إذ ينهار كل ما عمرته فوقه , ومع ذلك فإنه مثار فخري الشديد , فهو من ناحية يستر عورتي بعد المصائب , ومن ناحية أخرى تراثي التليد , فأنا ابن المؤسس العظيم
لقد علمني جدي ـ وبعد كل العقوق ـ أن التأسيس هو الأهم.. ولكن البيوت بحاجة إلى أن ترتفع بنفس قوة الأساس , وسترتفع ..!!!!


2002


* من مجموعة "حبة قمح وحبة شوك" . طبعت عام 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى