ربما كان من الضروري أن يحدث ذلك.
ربما يحتاج الأمر لمؤامرة من نوع خاص ومتقن لأجل تلك المرأة التي وقفت تستحم ، لتغسل عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم ، وقبل ذلك كانت تسأل نفسها فى ليال ذات ريح بارد وهزيم ، إن كان بإمكانها أن تطلق عفريتها لمرة أخيرة ، ذلك العفريت الذي سجنته فى زجاجة يشف اخضرارها كلما تمايلت مراكب العاشقين فى مساءات النهر .
من أجل ذلك أخذت معها مسجلاً صغيراً لتنصت هذه المرة لموسيقي الراى ،تلك التي ظلت تؤرقها وتوقظها من أحلامها البريئة طوال ما يقرب من ربع قرن ، وصوت المغنى الأسمر عميقاً يجيئها.
كانت تندهش من دكنة السماء ، وهى تعلم أن الوقت ضحاها،ثم تراه فى قاع الوادى يلوح لها ، ويتردد صوته النحاسي مع إيقاعات الراى .
حط يا طير المسا على صدر اللى ناسينى
دا لما يسمع غنايا يمكن يناديني.
لذلك كان من الضروري أن ينقطع التيار الكهربائي فجأة ، ويصمت الكون تماماً، لحظة بمقدار ما تتحسس يداها موضع المسجل ، ليعود من جديد مغنى الراى هذه المرة بطاقة الشحن القديم.
هذه اللحظة أسميها لحظة الموت الفجائي ، حيث تتعطل قوانين القبض والبسط ، بما يتيح لعفريتها أن يزيح سدادته قليلاً، ليتسرب عطرها شيئاً فشيئاً فى فضاء الحمام ،حتى أنها حين خرجت عارية لتحضر شمعة وثقاباً ثم عادت فاجأها عطرها، كان عطراً معتقاً لربع قرن من الزمان ، فداهمتها سكرة الحواس ، حتى أمكنها سماع فقاعات الصابون وهى تتنفس فوق جلدها لوقت هين ، ثم تموت فى صمت .
بعد كل هذا العمر أضاءت شمعتها ، ربما لمرة أخيرة قبل أن تذوب، كما يذوب دخانها فى بخار الماء الساخن ، والعطر المعتق، وموسيقى الراى ،ثم شافت ظلها على بلاطات السيراميك الوردية ، شافته والله، هذا الولد الذي اقترب من بحيرتها فلامسها فاهتزت ، اهتزت ولم تصطخب بعد ، وما كان يدرى أنها تحتاج لأكثر من لمسة لتصطخب ، غير أنه رأى نجومها تغمز وتلتمع ، فى كل فقاعة نجم ، وفى كل نجم ضوء ، ومن كل ضوء عطر يستباح ، قطرة .. قطرة .. حتى الرمق الأخير .
الآن وموسيقى الراى تلمسها بصخب ليس لها ، سوف تميل مراكبها بعنف مباغت ، يسمح بانسكاب عطرها فوق بلاطات السيراميك الزلق ، وسوف تحس عفريتها يموج فى أسفل بطنها فتقول ..آه ..وتضطرب ، فيضحك عفريتها الذي لم يصدق ، .. بعد كل هذه السنين ..؟
يمكنه الآن أن يتحرر من قبضتها الشفافة ،وسوف تمتلئ بلذة الخروج ، وكأن كل مسامها تسيل فى لحظة ما قبل الأورجازم، فتحس رطوبة الظلال والوهج ،والجسد المبلول والماء على زهرته يشف ، ربما الآن فقط ، تترك الدموع تنساب ، وتنشج ، وترتعش ، وهى تبحث فى ظلالها عن مراكب ، ونيل ، وفتيات يبعن الورود الذابلة للعاشقين ، عن بنت بضفيرة واحدة ، وعينين بنفسجيتين يفاجئها الحيض وهى على دكة المدرسة تجلس، والبنات ينطلقن فى أعقاب رواحها دون أن يلمسن رخاوتها.
فى ذلك اليوم ، وفى طريق عودتها قابلت عفريتها للمرة الأولى، فظل يطاردها خمسين شهراً قمرياً وتروغ منه فى حدائق روحها ، حتى إذا فاجأها يوماً على سلم البيت ، كان القمر فى اكتماله ، ويسقط ضوءاً رائقا ً من فتحة صغيرة فى جدار ، مساحة من الضوء تكفى ليزدهي بنفسج العينين ،لما رأت ظله يلامس ظلها ،ثم يحجب كل منهما الآخر ، لحظة ..كتلك التي أسميتها لحظة الموت المفاجئ ،فى لحظة كهذه تراخت وقالت ..أدخلني .. فدخلها غير هياب ولا مقتحم ، دخولاً هيناً يليق بابنة العشرين ، ولما يزيد عن عشرين أخرى ، ظلت تترقب اكتمال القمر ليدخلها فى أول الليل ويغادرها فى الصباح بعد أن يشعل شمسها ، حتى خافت يوماً ألا يعود فأحكمت سدادتها عليه ،واحتفظت له بمرة أخيرة تأتيها مفاجئة كالموت فلا يمكنها أن تقاوم.
هل كانت تحتاج لمؤامرة من نوع كوني يبدأ بانقطاع الكهرباء لتخرج عفريتها لمرة أخيرة ؟
ثم ترقب من فتحة جدارها اكتمال القمر، وفى ركن سلم البيت تقبع لعله يعود .
يا للمرأة التي تنسج أسطورتها عبر دخان ونار ..
كان عليها أن تغسل عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم بضوء شمعة ودخان ، وظلال جسد وماء ،وموسيقى ذات طبول وحشية ، وفتى أسمر فى قاع الوادي يلوح لها من بعيد ، وصدى…
سيد الوكيل
* هذا النص نشر عام 2004، ضمن مجموعة قصص في طبعة خاصة ومحدودة اسمها (مثل واحد آخر) هذه المجموعة تسببت في حجب جائزة الدولة التشجيعية وقتها.
* منقول عن:
صاحبـة الضـوء الغافـي. قصة:سيد الوكيل
ربما يحتاج الأمر لمؤامرة من نوع خاص ومتقن لأجل تلك المرأة التي وقفت تستحم ، لتغسل عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم ، وقبل ذلك كانت تسأل نفسها فى ليال ذات ريح بارد وهزيم ، إن كان بإمكانها أن تطلق عفريتها لمرة أخيرة ، ذلك العفريت الذي سجنته فى زجاجة يشف اخضرارها كلما تمايلت مراكب العاشقين فى مساءات النهر .
من أجل ذلك أخذت معها مسجلاً صغيراً لتنصت هذه المرة لموسيقي الراى ،تلك التي ظلت تؤرقها وتوقظها من أحلامها البريئة طوال ما يقرب من ربع قرن ، وصوت المغنى الأسمر عميقاً يجيئها.
كانت تندهش من دكنة السماء ، وهى تعلم أن الوقت ضحاها،ثم تراه فى قاع الوادى يلوح لها ، ويتردد صوته النحاسي مع إيقاعات الراى .
حط يا طير المسا على صدر اللى ناسينى
دا لما يسمع غنايا يمكن يناديني.
لذلك كان من الضروري أن ينقطع التيار الكهربائي فجأة ، ويصمت الكون تماماً، لحظة بمقدار ما تتحسس يداها موضع المسجل ، ليعود من جديد مغنى الراى هذه المرة بطاقة الشحن القديم.
هذه اللحظة أسميها لحظة الموت الفجائي ، حيث تتعطل قوانين القبض والبسط ، بما يتيح لعفريتها أن يزيح سدادته قليلاً، ليتسرب عطرها شيئاً فشيئاً فى فضاء الحمام ،حتى أنها حين خرجت عارية لتحضر شمعة وثقاباً ثم عادت فاجأها عطرها، كان عطراً معتقاً لربع قرن من الزمان ، فداهمتها سكرة الحواس ، حتى أمكنها سماع فقاعات الصابون وهى تتنفس فوق جلدها لوقت هين ، ثم تموت فى صمت .
بعد كل هذا العمر أضاءت شمعتها ، ربما لمرة أخيرة قبل أن تذوب، كما يذوب دخانها فى بخار الماء الساخن ، والعطر المعتق، وموسيقى الراى ،ثم شافت ظلها على بلاطات السيراميك الوردية ، شافته والله، هذا الولد الذي اقترب من بحيرتها فلامسها فاهتزت ، اهتزت ولم تصطخب بعد ، وما كان يدرى أنها تحتاج لأكثر من لمسة لتصطخب ، غير أنه رأى نجومها تغمز وتلتمع ، فى كل فقاعة نجم ، وفى كل نجم ضوء ، ومن كل ضوء عطر يستباح ، قطرة .. قطرة .. حتى الرمق الأخير .
الآن وموسيقى الراى تلمسها بصخب ليس لها ، سوف تميل مراكبها بعنف مباغت ، يسمح بانسكاب عطرها فوق بلاطات السيراميك الزلق ، وسوف تحس عفريتها يموج فى أسفل بطنها فتقول ..آه ..وتضطرب ، فيضحك عفريتها الذي لم يصدق ، .. بعد كل هذه السنين ..؟
يمكنه الآن أن يتحرر من قبضتها الشفافة ،وسوف تمتلئ بلذة الخروج ، وكأن كل مسامها تسيل فى لحظة ما قبل الأورجازم، فتحس رطوبة الظلال والوهج ،والجسد المبلول والماء على زهرته يشف ، ربما الآن فقط ، تترك الدموع تنساب ، وتنشج ، وترتعش ، وهى تبحث فى ظلالها عن مراكب ، ونيل ، وفتيات يبعن الورود الذابلة للعاشقين ، عن بنت بضفيرة واحدة ، وعينين بنفسجيتين يفاجئها الحيض وهى على دكة المدرسة تجلس، والبنات ينطلقن فى أعقاب رواحها دون أن يلمسن رخاوتها.
فى ذلك اليوم ، وفى طريق عودتها قابلت عفريتها للمرة الأولى، فظل يطاردها خمسين شهراً قمرياً وتروغ منه فى حدائق روحها ، حتى إذا فاجأها يوماً على سلم البيت ، كان القمر فى اكتماله ، ويسقط ضوءاً رائقا ً من فتحة صغيرة فى جدار ، مساحة من الضوء تكفى ليزدهي بنفسج العينين ،لما رأت ظله يلامس ظلها ،ثم يحجب كل منهما الآخر ، لحظة ..كتلك التي أسميتها لحظة الموت المفاجئ ،فى لحظة كهذه تراخت وقالت ..أدخلني .. فدخلها غير هياب ولا مقتحم ، دخولاً هيناً يليق بابنة العشرين ، ولما يزيد عن عشرين أخرى ، ظلت تترقب اكتمال القمر ليدخلها فى أول الليل ويغادرها فى الصباح بعد أن يشعل شمسها ، حتى خافت يوماً ألا يعود فأحكمت سدادتها عليه ،واحتفظت له بمرة أخيرة تأتيها مفاجئة كالموت فلا يمكنها أن تقاوم.
هل كانت تحتاج لمؤامرة من نوع كوني يبدأ بانقطاع الكهرباء لتخرج عفريتها لمرة أخيرة ؟
ثم ترقب من فتحة جدارها اكتمال القمر، وفى ركن سلم البيت تقبع لعله يعود .
يا للمرأة التي تنسج أسطورتها عبر دخان ونار ..
كان عليها أن تغسل عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم بضوء شمعة ودخان ، وظلال جسد وماء ،وموسيقى ذات طبول وحشية ، وفتى أسمر فى قاع الوادي يلوح لها من بعيد ، وصدى…
سيد الوكيل
* هذا النص نشر عام 2004، ضمن مجموعة قصص في طبعة خاصة ومحدودة اسمها (مثل واحد آخر) هذه المجموعة تسببت في حجب جائزة الدولة التشجيعية وقتها.
* منقول عن:
صاحبـة الضـوء الغافـي. قصة:سيد الوكيل
