تَرامَتْ إلَيْهِ الضَّوْضَاءُ عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهار.
وتَوَجَّسَ بَادئَ الأمْرِ أنَّها مُشَاجَرَةٌ بَعِيدَةٌ نَشَبَتْ في قَيْظِ هذا اليومِ الخانِق، أو أنَّها هَرَجٌ شَدِيدٌ لِصِبْيَانٍ أشرارٍ يَجُوبُونَ الشَّوارِع، أو عُرْسٌ بائِسٌ يَخُبُّ على الأقْدَام وقد إخْتْلَطَ بِهِ أولادٌ لا يَكِفُّونَ عَنْ الصِّيَاحِ، إلاَّ أنَّ شَيئاً مِنْ ذلك لم يتأكَّدْ في أُذُنَيْهِ وَبَاَلِهِ، فأغْلَقَ على مَهَلٍ بابَ مَتْجَرِهِ الصَّغِيرِ – قَبْلَ صَلاةِ الجُّمْعَةِ- مُبَكِّراً على غَيْرِ عَادَتِهِ، ثُمَّ شَرَعَ يَنْتَعِلُ حِذَاءَهُ الأصْفَر، وبعدئذٍ إقتعدَ الِمسْطَبَةَ -المُجاوِرَةَ لِمتْجَرِهِ- المَفْرُوْشَةَ بحصيرٍ قديم وأخَذَ يَعْقِدُ صُدْرَتَهُ الحَرِيْرِيَّةَ الزَّرْقاءَ المُنْسَدِلَةُ على جِلْبَابِهِ الأبيض. وتَلَفَّتَ في جَلْسَتِهِ ثُمَّ نَهَضَ سَائِراً ببطءٍ يَقْتَفِي مَصْدَرَ الضَّجَّةِ، فَتَفَرَّعَ عَابِراً الأَزِقَّةَ باتِّجاهِ الشَّارِعِ الكبير، وما لَبَثَ أنْ غَيَّرَ اتِّجاهَهُ ودَلَفَ إلى زِقاقٍ عَرِيْضٍ حَيْثُ كانت الضَّوْضاءُ تَشْتَدُّ أَكْثَرَ فأكْثَر كُلَّما إقْتَرَبَ مِنْ جَامِعِ “الوَلِيّ” بِمِئْذَنَتِهِ القَصِيْرَةِ كمِدْخَنَةِ المَخبزِ المُجاوِر. ولمَّا ارْتَفَعَ عَوِيلُ النِّساءِ والأَوْلاد إنْعَطَفَ فجأة مُسْرِعَاً إلى ما وراء الجَّامِع فَشَاهَدَ أمَامَهُ البَاحَةَ الوَاسِعَة مُبَقَّعَةً – مِثْلَما كانت دائماً – بِعُشْبٍ قصيرٍ خَشِنٍ ذِي خُضْرَةٍ بها دُكْنَةٌ زَادَتْ بَشاعَتَها أكوامٌ سوداءُ الجَّوانِبِ مِنْ حِجَارَةِ الجِّيرِ حَائِلَةَ اللَّوْنِ بِفِعْلِ القَذَارَةُ والرُّطُوْبَةَ، وخَلْفَهَا بَرَامِيلٌ صَدِئَةٌ طَافِحَة بِماءٍ نَتِنٍ تَتَواثَبُ مِنْ حَوْلِهَا هِرَرَةٌ هَزِيلَةٌ سَوْداءٌ تَبْغى الفِرار بينما أبْخِرَةُ الرَّوائحِ الكَرِيهَةِ تَنْتَشِرُ في أرجاءِ المكان والضَّجَّةُ تَزْدَاد .
وبَدَا لَهُ الحَشْدَ أكْبَرَ مِمِّا تَوَقَّعَ قُرْبَ بَيْتٍ كَالِحٍ مِنْ طابِقٍ واحدٍ وإحْدَى نَوافِذِهِ الكبيرةِ -المُطِلَّةُ على البَاحَةِ– مَفْتُوحَةً بِكامِلِهَا. وظَلَّ مُعْظَمُ الحَشْدِ المُضْطَرِبِ يَصِيحُ صِيَاحاً عالِياً. وحِينَئذٍ إنْدَفَعَتْ منْ نُتُؤاتِ الحائطِ الخَلْفِيّ للجامِعِ غِرْبَانٌ شَدِيدَةُ السَّوادِ تَطِيرُ مُبْتَعِدَةً في مُتَّجَهاتٍ عَشْوائِيَّةٍ تَنْعَقُ نَعِيقاً مُخيْفاً .
قالَ مُتَسَائِلاً لرَجُلٍ يَقِفُ قريباً مِنْهُ :
• ما هذا الذي أراهُ ..وماذا حَدَثَ في هذا المكان ؟!
فأجابَهُ الرَّجُلُ بِحِدَّةٍ :
• لَنْ تَرى أكثرَ مِمّا رَأيْتُ أنا ..
ثُمَّ أمَرَهُ الرَّجُلُ بالابتِعَادِ وهو ينظرُ إلى النَّافِذةِ الكبيرةِ المَفْتُوحَةِ ويَهُزُ ذِرَاعَهُ مُتَوعِّداً.
فعادَ التَّاجِرُ يَتَسَاءَلُ مُتَوَدِّداً كي يَجِدَ إجابةً عَمَّا جَرَى :
• أيُّهَا الرَّجُلُ الفَاضِلُ ..أتَسْمَحُ لي بسؤالِكَ عَنْ سَبَبِ هذه الضَّجَّة !؟ ..لقد ظَنَنْتُ أنَّها مُشاجَرَةٌ فأغْلَقْتُ مَتْجَري البعيد وأتَيْتُ إلى هُنَا مُسْتَرْشِداً بِأصْداءِ الضَّوْضاءِ كَيْ أعْرِفَ السَّبَب ..
فأجابَهُ الرَّجُلُ هذه الَمَرَّة بصوتٍ مُغايرٍ :
• اُنْظُرْ جَيداً إلى هذه النَّافِذَةِ الكبيرةِ المَفْتُوحَةَ بكامِلِهَا، هُنَاكَ ربَطْناهَا بالحبالِ كَيْ لا تَهْرَب ..
فَسَألَه مُقَاطِعاً :
• مَنْ هي ؟!
قالَ الرَّجُلُ مُواصِلاً إجَابَتَه :
• هي زِنْجِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ تَسْكُنُ ذَلِكَ البيت، وحُجْرَةُ نَومِهَا وراء النافذةِ المَفْتُوحَة. وكُنا نَرَى سَرِيرَهَا بِوضُوحٍ سَوَاءٌ مِنْ نَوَافِذِ بيُوتِنا أو مِن مَوْضِعٍ بَعِيْدٍ في البَاحَة. وقد بَلَغَ استهتار هذه الزِّنْجِيَّةُ واسْتِهَانَتُهَا بِحُرْمَةِ الجِّيْرانِ وكَرَامَتِهُمْ إلى حَدِّ مُمَارَسَةُ البَغَاءِ والنَّافِذَةُ مَفْتُوحَة. لقد رأَيْنَاهَا وهي تَرْتَكِبُ الفَاحِشَةَ مَعَ زُنُوْجٍ مِثْلَهَا ..رَأيْنَاهُمْ وهُمْ يَعْطونَهَا نقوداً وطَعَاماً فاخِراً، ولا بُدَّ أنَّ تلك النقودَ مَسْرُوْقَةٌ.
فَهُمْ أَوْبَاشٌ ومَظْهَرُهُمْ لا يَدُلُّ على الثَّرَاء. وعلى أيّ حالٍ لو كانت النَّافِذَةُ مُغْلَقةً لاسْتَمَرَّتْ في خِدَاعِنَا وما كُنَّا بالتَّالي سَنَعرفُ أنَّها عَاهِرَة .
فاسْتَفْهَمَ مِنْهُ التَّاجِرُ سَائِلاً:
• هل هي من أقاربك ؟!
فَصَاحَ الرَّجُلُ قائلاً:
• والعِيَاذُ باللهِ..لا ..لا..فشَبَابُ عائِلَتِنَا وحَتَّى عائلاتَ الجِّيْرانِ لا يَتَزَوَّجُونَ بِزِنْجِيّاتٍ، وإذا فَعَلَ أحَدُهُمْ ذَلِكَ فنحنُ نَطْرُدُهُ مِنَ البِيُوْتِ التي عاشَ فيها آباؤنا وأجدادُنا مِنْ قديمِ الزَّمانِ بَل نَطْرُدُهُ بعيداً عَنْ المَحَلَّة ونُحارِبُهُ في كلِّ مكانٍ يَذْهَبُ إليه باحِثاً عَنْ عَمَلٍ إلى أنْ يعُودَ –بعد طَلاقِ الزِّنْجِيّةِ– تَائِباً، ولَنْ نَقْبَلَ أَيّ نَسْلٍ أسْوَدٍ، فتلكَ هي تَقَالِيْدُنَا. ومُنْذُ شهورٍ قليلةٍ مَاتَ زَوْجُ هذه الزِّنْجِيَّةُ العَاهِرَةُ وفي نَفْسِ الفَتْرَةِ مَاتَتْ أيضاً أُمُّهَا التي كانت تُقِيمُ معها. وقد تَأَكَّدْنَا أنَّها تَتَعاطَى الدَّعارَة عَلانِيَةً بعدما رَأَيْنَا بِعُيُونِنَا فِعْلَهَا الشَّائِن. ومَعْلُوْمٌ أنَّ شَرائِعَ السَّماءِ والأرضِ تُتِيحُ لَنَا مُعَاقَبَتُها بالرَّجْمِ حَتَّى المَوْت.
وسَوْفَ نَقُومُ بإنزالِ العُقُوبَةِ لكنَّنَا نَمْقُتُ التَّعْذِيبَ ولِهَذَا فَسَوفَ نَفْصِلُ رَأسَهَا قَبْلَ الرَّجْمِ بالحِجَارَة .
عِنْدَئذٍ قالَ التَّاجِرُ:
• ليس مِنْ حَقَّكُمْ أنْ تَفْعَلُوا ذلك، وهي – في نِهايَةِ المَطافِ – لا تَمِتُ لِعائلاتِكُمْ بأيّ صِلَةٍ ، وأقْصَى ما يُمْكِنَكُمْ القيامَ بِهِ هو الشَّكْوَى والتَّبْلِيغ للجِهاتِ الرَّسْمِيَّةِ المُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الأمُور. وأسْألك أيْنَ أولَئِكَ الزُّنوجُ الذين كانوا يَرْتَكِبُون الفاحشة معها؟!
فقال الرجل بصوت حانق:
• لا بد أنهم هربوا عندما هاجمنا المكان بخناجر طويلة، وإذا وجدناهم فسنعاقبهم بنفس الطريقة ونقضي عليهم جميعا. إن عددهم ثلاثة أنفار لا أكثر.
قال التاجر :
• هل تصبر وتتوقف عن فعل أي شيء حتى أعود ومعي أحد المحاميين ؟.
فارتفع صوت الرجل بحدة شديدة قائلا:
• لا..لن نصبر، فنحن نعرف ما الذي ينبغي فعله، أيا ساذج..يا غبي! ..فلتذهب ولتعد بأحد المحامين لكنكما لا تجدا العاهرة لأننا سنقتلها .
وانصرف التاجر بسرعة مبتعداً عن الباحة .وبعد وقت غير قصير عاد إلى الباحة بطائرة عمودية فيها ضباط الشرطة الجنائية والطبيب الشرعي وأحد خبراء البصمات .
وأشار التاجر بيده إلى مكان في الباحة قرب النافذة المفتوحة قائلا لضابط الشرطة الجنائية ذي الرتبة العالية الذي يقف بجواره :
• إنه منظر فظيع !.. هناك ثلاث جثث بلا رؤوس. وأرى جثة امرأة زنجية مذبوحة وعارية تماما ومقطوعة الرأس. وجميع الجثث غارقة في مستنقع الدماء . وكذلك الحجارة التي رجموا بها .
فقال ضابط الشرطة الجنائية ممتعضا :
• مشهد فظيع جدا .
ومن جديد أشار التاجر بيده إلى الشخص الذي سبق أن أخبره باعتزامهم قتل الزنجية ومن معها من الزنوج . وكان هذا الشخص واقفا بالقرب من التاجر الذي أخبر ضابط الشرطة الجنائية عنه ، فإلتفت ضابط الشرطة الجنائية ذو الرتبة العالية نحو الشخص الذي أشار إليه التاجر وسأله بصوت حاد وقد صوب مسدسه إلى ذلك الشخص :
• هل قلت للتاجر قبل عودته للباحة أنك ستقتل الزنجية والزنوج الذين كانوا معها ؟!
فأجابه الشخص بقلة إكتراث وبصوت مرتفع تسري فيه المباهاة :
• نعم قلت ذلك بل فعلته أيضا أنا وأعواني بعدما وصل الحال إلى حد لا يطاق ، فتلك الزنجية الفاجرة كانت تمارس الدعارة علانية على الملأ دون أي مراعاة لكرامة الجيران .
فقال ضابط الشرطة الجنائية:
• هذا كلام ركيك لتبرير الجرائم ، فليس شأنك محاسبة الآخرين ومعاقبتهم مادامت أفعالهم غير موجهة إليكم . وكل مايحق لكم – بالنسبة للحالة الحالية – هو الشكوى والتبليغ للجهات الجنائية الرسمية .
ثم سأله بصوت آمر:
• أين أعوانك؟
وقبل أن يجيبه تحرك نحو ضابط الشرطة الجنائية أشخاص كانوا في الباحة وقالوا :
• نحن أعوانه .. وقد شاركناه في قتل الزنجية العاهرة ومن معها من زنوج . وهذا مدعاة لفخرنا لأننا أدينا واجبا تقره الشرائع والقوانين !!.
فصاح بهم ضابط الشرطة الجنائية ذو الرتبة العالية:
• لا تتحركوا .إلزموا أماكنكم ولا تثرثروا ..
ثم أضاف برنة تأكيد في صوت خفيض قائلا:
• إن الإعتراف سيد الأدلة .
• كانت بنادق قوات الأمن ومدافعهم الرشاشة الصغيرة موجهة إلى الحشد المتجمع في الباحة . وكان معظم رجال الجيران في المحلة يطلون بهدوء هم وصبيانهم وزوجاتهم من نوافذ بيوتهم في العمارات المحاذية للباحة في حين ظل بعضهم واقفاً في الباحة رفقة قليل من نسائهم وأولادهم، وكانت النسوة يشاهدن بهدوء مايجري حولهن ويجهشن ببكاء غير مسموع بعد أن كن يصرخن بأصوات تصم الآذان قبل مجيء الشرطة الجنائية.
وفي هذه الأثناء إرتفعت حنجرة ضابط الشرطة الجنائية ذي الرتبة العالية قائلا لقوات الأمن:
• فتشوه وفتشوا أعوانه فقد إعترفوا بأنهم إقترفوا جرائم قتل . إحبسوهم فرادى في زنازين السجن المركزي بدون أسرة إلى وقت المحاكمة بتهم إرتكاب جرائم قتل. ونحن لا نهتم بلون البشرة بل بالجرائم. وإمنعوا إختلاطهم بالمحبوسين. أما الملاءات والملابس الخاصة فممنوعة حيث ملابس الحبس هي المسموح بإرتدائها . وممنوع الزيارات والوجبات الخاصة والملاعق والسكاكين أو أي أدوات حادة.كذلك الأطباق المعدنية والفخارية القابلة للكسر ماعدا الأطباق الخشبية الخفيفة وفيها طعام السجن. وممنوع الورق والأقلام والتليفونات والإتصال بإدارة السجن. وتكون الزنازين بدون تيار كهربائي أو أسلاك أو مصابيح أو حبال . ولكل زنزانة سطلا للتبول وسطلا للتبرز يتم تغييرهما بإستمرار . وفي السجن المركزي حمام عام في شكل صالة لأن الحمامات الخاصة تكون في البيوت والفنادق فقط.
وإستطرد ضابط الشرطة الجنائية قائلا للمتهم الأول بنبرة ساخرة:
• والآن ما إسمك ؟! قل إسمك الثلاثي ولا تثرثر.أجب عن أسئلتي فقط!.
فقال المتهم الأول بإعتداد:
• ” رجب أحمد الغرباوي” .هذا هو إسمي !
وسرعان ما أحاطت به وبأعوانه قوات الأمن ففتشتهم بعد تقييدهم بالحديد حول معاصمهم، وأذرعهم مكبلة خلف ظهورهم .
وخلال ذلك بدأ اللون الرمادي للغروب – يخالطه شفق باهت- يجثم فوق الباحة .
قال ضابط الشرطة الجنائية :
• إن الليل يقترب لكننا لن نغادر المكان قبل وصول القوات الإحتياطية التي ستبقى في الباحة أثناء الليل تحسباً لأي طاريء.
وعندئذ أخرج جندي من قوات الأمن جهازاً لاسلكياً وناوله للضابط الجنائي فقال الضابط بصوت جهير:
• إرسلوا إلينا القوات الإحتياطية التي ستمكث الليلة في ” باحة الزوكار” .ولديكم خريطة المنطقة التي سلمناها لكم قبل آذان عصر اليوم . ويلزم أن تقوموا – على وجه السرعة – بإعداد طائرة مروحية كبيرة للقوات الإحتياطية وطائرتين كبيرتين جداً للمعدات اللازمة. ومن الضروري إختيار الطائرتين –الخاصتين بالمعدات- من النوع الحديث الذي يوفر للطيارين قدرة الإقلاع والهبوط رأسياً فليس في الباحة ممرات للنوع العادي .
ثم أردف باللاسلكي مستطردا تعليماته:
• إتصلوا في التو بالجهة المدنية التابعة لنا التي نكلفها عادة في مثل هذه الأحوال بمهمات هي أقدر الجهات على تنفيذها .وليأتوا غدا في الصباح الباكر .
وأنتم تدركون جيدا أنهم أكفاء يعرفون أعمالهم الشاقة معرفة تامة حيث سيقومون ببراعتهم المعتادة وخبرتهم الفائقة بتجفيف مستنقع الدماء ووضع الجثث في عوازل بلاستيكية حيث لا لزوم لتشريحها نظراً لوجود الإعترافات. ولدى هذه الجهة المذكورة الملابس والأحذية المختصة والكمامات التي تمكنهم من فعل ذلك دون أن تصيبهم الجراثيم أو تضايقهم الروائح الكريهة.
وجاءه الرد من اللاسلكي واضحاً:
• فوراً سنرسل لكم ما طلبتموه.
ولم يمض وقت طويل حتى حلقت فوق الباحة ثلاث طائرات عالية الهدير هبطت على التوالي بالقرب منه .أما العائلات الواقفة في الباحة فقد شرعت في العودة إلى مساكنها وهي تؤدي التحية للقوات المنتشرة في الباحة. وفي الوقت ذاته تم إفراغ المعدات من الطائرتين المخصصتين للحمولة: سيارة إسعاف بطاقمها الطبي، ومصفحات ودبابتين خفيفتين، وصواوين، ومولدات كهرباء، ومصابيح كشافة، ومكبرات صوت يدوية، ومكيفات هواء ، ومدافع ثقيلة، وذخيرة ، وقنابل يدوية ، ومتاريس ،وأبسطة فخمة ، ووسائد،وأطعمة ، ومواقد، وثلاجات، ومياه، وومطهرات ، وسلالم، ومكانس كهربائية متطورة لكشط العشب وتثبيت التراب، وأبخرة، وعطوراً،وفحماً، ومباخر، وإسطوانات للأوكسيجين ،ومناظير للرؤية البعيدة.
ووجه الضابط الجنائي ذو الرتبة الكبيرة كلامه – هذه المرة – إلى التاجر قائلا:
• حرصا على سلامتك فالمرجو أن لا تبارح بيتك. إغلق الباب بالقفل والمزلاج .ونحن نعرف موقع مسكنك فقد أخبرتنا به في محضر التبليغ . والمهم أن لا تفتح متجرك إلا حين نأذن لك بذلك بعد إستكمال تحرياتنا بهدف إبعاد الخطر عنك وعن الجميع، فللزنوج المقتولين أهل وأصحاب من الزنوج قد يقودهم عماء البصيرة إلى إرتكاب جرائم .
وواصل حديثه قائلا بنبرة حانية:
• وكن مطمئنا فسوف نتصل بك في بيتك المواجه لمتجرك.
وإبان ذلك كان شيخ المحلة وبقية المسؤولين فيها قد جاؤوا لمساندة القوات الإحتياطية في حفظ الأمن والمحافظة على أرواح المواطنين .
وإبتسم الضابط الجنائي الكبير للتاجر ورفع يده مودعا القوات الإحتياطية التي أخذت بالإنتشار على أرض الباحة ، ثم إتجه – مع ضباطه وأنفاره يسوقون المتهمين– إلى الطائرة المروحية التي جاؤوا بها فإرتفعت بهم عاليا صوب الأغراض المحددة.
* الكاتب يوسف القويري- من مفكرة رجل لم يولد
وتَوَجَّسَ بَادئَ الأمْرِ أنَّها مُشَاجَرَةٌ بَعِيدَةٌ نَشَبَتْ في قَيْظِ هذا اليومِ الخانِق، أو أنَّها هَرَجٌ شَدِيدٌ لِصِبْيَانٍ أشرارٍ يَجُوبُونَ الشَّوارِع، أو عُرْسٌ بائِسٌ يَخُبُّ على الأقْدَام وقد إخْتْلَطَ بِهِ أولادٌ لا يَكِفُّونَ عَنْ الصِّيَاحِ، إلاَّ أنَّ شَيئاً مِنْ ذلك لم يتأكَّدْ في أُذُنَيْهِ وَبَاَلِهِ، فأغْلَقَ على مَهَلٍ بابَ مَتْجَرِهِ الصَّغِيرِ – قَبْلَ صَلاةِ الجُّمْعَةِ- مُبَكِّراً على غَيْرِ عَادَتِهِ، ثُمَّ شَرَعَ يَنْتَعِلُ حِذَاءَهُ الأصْفَر، وبعدئذٍ إقتعدَ الِمسْطَبَةَ -المُجاوِرَةَ لِمتْجَرِهِ- المَفْرُوْشَةَ بحصيرٍ قديم وأخَذَ يَعْقِدُ صُدْرَتَهُ الحَرِيْرِيَّةَ الزَّرْقاءَ المُنْسَدِلَةُ على جِلْبَابِهِ الأبيض. وتَلَفَّتَ في جَلْسَتِهِ ثُمَّ نَهَضَ سَائِراً ببطءٍ يَقْتَفِي مَصْدَرَ الضَّجَّةِ، فَتَفَرَّعَ عَابِراً الأَزِقَّةَ باتِّجاهِ الشَّارِعِ الكبير، وما لَبَثَ أنْ غَيَّرَ اتِّجاهَهُ ودَلَفَ إلى زِقاقٍ عَرِيْضٍ حَيْثُ كانت الضَّوْضاءُ تَشْتَدُّ أَكْثَرَ فأكْثَر كُلَّما إقْتَرَبَ مِنْ جَامِعِ “الوَلِيّ” بِمِئْذَنَتِهِ القَصِيْرَةِ كمِدْخَنَةِ المَخبزِ المُجاوِر. ولمَّا ارْتَفَعَ عَوِيلُ النِّساءِ والأَوْلاد إنْعَطَفَ فجأة مُسْرِعَاً إلى ما وراء الجَّامِع فَشَاهَدَ أمَامَهُ البَاحَةَ الوَاسِعَة مُبَقَّعَةً – مِثْلَما كانت دائماً – بِعُشْبٍ قصيرٍ خَشِنٍ ذِي خُضْرَةٍ بها دُكْنَةٌ زَادَتْ بَشاعَتَها أكوامٌ سوداءُ الجَّوانِبِ مِنْ حِجَارَةِ الجِّيرِ حَائِلَةَ اللَّوْنِ بِفِعْلِ القَذَارَةُ والرُّطُوْبَةَ، وخَلْفَهَا بَرَامِيلٌ صَدِئَةٌ طَافِحَة بِماءٍ نَتِنٍ تَتَواثَبُ مِنْ حَوْلِهَا هِرَرَةٌ هَزِيلَةٌ سَوْداءٌ تَبْغى الفِرار بينما أبْخِرَةُ الرَّوائحِ الكَرِيهَةِ تَنْتَشِرُ في أرجاءِ المكان والضَّجَّةُ تَزْدَاد .
وبَدَا لَهُ الحَشْدَ أكْبَرَ مِمِّا تَوَقَّعَ قُرْبَ بَيْتٍ كَالِحٍ مِنْ طابِقٍ واحدٍ وإحْدَى نَوافِذِهِ الكبيرةِ -المُطِلَّةُ على البَاحَةِ– مَفْتُوحَةً بِكامِلِهَا. وظَلَّ مُعْظَمُ الحَشْدِ المُضْطَرِبِ يَصِيحُ صِيَاحاً عالِياً. وحِينَئذٍ إنْدَفَعَتْ منْ نُتُؤاتِ الحائطِ الخَلْفِيّ للجامِعِ غِرْبَانٌ شَدِيدَةُ السَّوادِ تَطِيرُ مُبْتَعِدَةً في مُتَّجَهاتٍ عَشْوائِيَّةٍ تَنْعَقُ نَعِيقاً مُخيْفاً .
قالَ مُتَسَائِلاً لرَجُلٍ يَقِفُ قريباً مِنْهُ :
• ما هذا الذي أراهُ ..وماذا حَدَثَ في هذا المكان ؟!
فأجابَهُ الرَّجُلُ بِحِدَّةٍ :
• لَنْ تَرى أكثرَ مِمّا رَأيْتُ أنا ..
ثُمَّ أمَرَهُ الرَّجُلُ بالابتِعَادِ وهو ينظرُ إلى النَّافِذةِ الكبيرةِ المَفْتُوحَةِ ويَهُزُ ذِرَاعَهُ مُتَوعِّداً.
فعادَ التَّاجِرُ يَتَسَاءَلُ مُتَوَدِّداً كي يَجِدَ إجابةً عَمَّا جَرَى :
• أيُّهَا الرَّجُلُ الفَاضِلُ ..أتَسْمَحُ لي بسؤالِكَ عَنْ سَبَبِ هذه الضَّجَّة !؟ ..لقد ظَنَنْتُ أنَّها مُشاجَرَةٌ فأغْلَقْتُ مَتْجَري البعيد وأتَيْتُ إلى هُنَا مُسْتَرْشِداً بِأصْداءِ الضَّوْضاءِ كَيْ أعْرِفَ السَّبَب ..
فأجابَهُ الرَّجُلُ هذه الَمَرَّة بصوتٍ مُغايرٍ :
• اُنْظُرْ جَيداً إلى هذه النَّافِذَةِ الكبيرةِ المَفْتُوحَةَ بكامِلِهَا، هُنَاكَ ربَطْناهَا بالحبالِ كَيْ لا تَهْرَب ..
فَسَألَه مُقَاطِعاً :
• مَنْ هي ؟!
قالَ الرَّجُلُ مُواصِلاً إجَابَتَه :
• هي زِنْجِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ تَسْكُنُ ذَلِكَ البيت، وحُجْرَةُ نَومِهَا وراء النافذةِ المَفْتُوحَة. وكُنا نَرَى سَرِيرَهَا بِوضُوحٍ سَوَاءٌ مِنْ نَوَافِذِ بيُوتِنا أو مِن مَوْضِعٍ بَعِيْدٍ في البَاحَة. وقد بَلَغَ استهتار هذه الزِّنْجِيَّةُ واسْتِهَانَتُهَا بِحُرْمَةِ الجِّيْرانِ وكَرَامَتِهُمْ إلى حَدِّ مُمَارَسَةُ البَغَاءِ والنَّافِذَةُ مَفْتُوحَة. لقد رأَيْنَاهَا وهي تَرْتَكِبُ الفَاحِشَةَ مَعَ زُنُوْجٍ مِثْلَهَا ..رَأيْنَاهُمْ وهُمْ يَعْطونَهَا نقوداً وطَعَاماً فاخِراً، ولا بُدَّ أنَّ تلك النقودَ مَسْرُوْقَةٌ.
فَهُمْ أَوْبَاشٌ ومَظْهَرُهُمْ لا يَدُلُّ على الثَّرَاء. وعلى أيّ حالٍ لو كانت النَّافِذَةُ مُغْلَقةً لاسْتَمَرَّتْ في خِدَاعِنَا وما كُنَّا بالتَّالي سَنَعرفُ أنَّها عَاهِرَة .
فاسْتَفْهَمَ مِنْهُ التَّاجِرُ سَائِلاً:
• هل هي من أقاربك ؟!
فَصَاحَ الرَّجُلُ قائلاً:
• والعِيَاذُ باللهِ..لا ..لا..فشَبَابُ عائِلَتِنَا وحَتَّى عائلاتَ الجِّيْرانِ لا يَتَزَوَّجُونَ بِزِنْجِيّاتٍ، وإذا فَعَلَ أحَدُهُمْ ذَلِكَ فنحنُ نَطْرُدُهُ مِنَ البِيُوْتِ التي عاشَ فيها آباؤنا وأجدادُنا مِنْ قديمِ الزَّمانِ بَل نَطْرُدُهُ بعيداً عَنْ المَحَلَّة ونُحارِبُهُ في كلِّ مكانٍ يَذْهَبُ إليه باحِثاً عَنْ عَمَلٍ إلى أنْ يعُودَ –بعد طَلاقِ الزِّنْجِيّةِ– تَائِباً، ولَنْ نَقْبَلَ أَيّ نَسْلٍ أسْوَدٍ، فتلكَ هي تَقَالِيْدُنَا. ومُنْذُ شهورٍ قليلةٍ مَاتَ زَوْجُ هذه الزِّنْجِيَّةُ العَاهِرَةُ وفي نَفْسِ الفَتْرَةِ مَاتَتْ أيضاً أُمُّهَا التي كانت تُقِيمُ معها. وقد تَأَكَّدْنَا أنَّها تَتَعاطَى الدَّعارَة عَلانِيَةً بعدما رَأَيْنَا بِعُيُونِنَا فِعْلَهَا الشَّائِن. ومَعْلُوْمٌ أنَّ شَرائِعَ السَّماءِ والأرضِ تُتِيحُ لَنَا مُعَاقَبَتُها بالرَّجْمِ حَتَّى المَوْت.
وسَوْفَ نَقُومُ بإنزالِ العُقُوبَةِ لكنَّنَا نَمْقُتُ التَّعْذِيبَ ولِهَذَا فَسَوفَ نَفْصِلُ رَأسَهَا قَبْلَ الرَّجْمِ بالحِجَارَة .
عِنْدَئذٍ قالَ التَّاجِرُ:
• ليس مِنْ حَقَّكُمْ أنْ تَفْعَلُوا ذلك، وهي – في نِهايَةِ المَطافِ – لا تَمِتُ لِعائلاتِكُمْ بأيّ صِلَةٍ ، وأقْصَى ما يُمْكِنَكُمْ القيامَ بِهِ هو الشَّكْوَى والتَّبْلِيغ للجِهاتِ الرَّسْمِيَّةِ المُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الأمُور. وأسْألك أيْنَ أولَئِكَ الزُّنوجُ الذين كانوا يَرْتَكِبُون الفاحشة معها؟!
فقال الرجل بصوت حانق:
• لا بد أنهم هربوا عندما هاجمنا المكان بخناجر طويلة، وإذا وجدناهم فسنعاقبهم بنفس الطريقة ونقضي عليهم جميعا. إن عددهم ثلاثة أنفار لا أكثر.
قال التاجر :
• هل تصبر وتتوقف عن فعل أي شيء حتى أعود ومعي أحد المحاميين ؟.
فارتفع صوت الرجل بحدة شديدة قائلا:
• لا..لن نصبر، فنحن نعرف ما الذي ينبغي فعله، أيا ساذج..يا غبي! ..فلتذهب ولتعد بأحد المحامين لكنكما لا تجدا العاهرة لأننا سنقتلها .
وانصرف التاجر بسرعة مبتعداً عن الباحة .وبعد وقت غير قصير عاد إلى الباحة بطائرة عمودية فيها ضباط الشرطة الجنائية والطبيب الشرعي وأحد خبراء البصمات .
وأشار التاجر بيده إلى مكان في الباحة قرب النافذة المفتوحة قائلا لضابط الشرطة الجنائية ذي الرتبة العالية الذي يقف بجواره :
• إنه منظر فظيع !.. هناك ثلاث جثث بلا رؤوس. وأرى جثة امرأة زنجية مذبوحة وعارية تماما ومقطوعة الرأس. وجميع الجثث غارقة في مستنقع الدماء . وكذلك الحجارة التي رجموا بها .
فقال ضابط الشرطة الجنائية ممتعضا :
• مشهد فظيع جدا .
ومن جديد أشار التاجر بيده إلى الشخص الذي سبق أن أخبره باعتزامهم قتل الزنجية ومن معها من الزنوج . وكان هذا الشخص واقفا بالقرب من التاجر الذي أخبر ضابط الشرطة الجنائية عنه ، فإلتفت ضابط الشرطة الجنائية ذو الرتبة العالية نحو الشخص الذي أشار إليه التاجر وسأله بصوت حاد وقد صوب مسدسه إلى ذلك الشخص :
• هل قلت للتاجر قبل عودته للباحة أنك ستقتل الزنجية والزنوج الذين كانوا معها ؟!
فأجابه الشخص بقلة إكتراث وبصوت مرتفع تسري فيه المباهاة :
• نعم قلت ذلك بل فعلته أيضا أنا وأعواني بعدما وصل الحال إلى حد لا يطاق ، فتلك الزنجية الفاجرة كانت تمارس الدعارة علانية على الملأ دون أي مراعاة لكرامة الجيران .
فقال ضابط الشرطة الجنائية:
• هذا كلام ركيك لتبرير الجرائم ، فليس شأنك محاسبة الآخرين ومعاقبتهم مادامت أفعالهم غير موجهة إليكم . وكل مايحق لكم – بالنسبة للحالة الحالية – هو الشكوى والتبليغ للجهات الجنائية الرسمية .
ثم سأله بصوت آمر:
• أين أعوانك؟
وقبل أن يجيبه تحرك نحو ضابط الشرطة الجنائية أشخاص كانوا في الباحة وقالوا :
• نحن أعوانه .. وقد شاركناه في قتل الزنجية العاهرة ومن معها من زنوج . وهذا مدعاة لفخرنا لأننا أدينا واجبا تقره الشرائع والقوانين !!.
فصاح بهم ضابط الشرطة الجنائية ذو الرتبة العالية:
• لا تتحركوا .إلزموا أماكنكم ولا تثرثروا ..
ثم أضاف برنة تأكيد في صوت خفيض قائلا:
• إن الإعتراف سيد الأدلة .
• كانت بنادق قوات الأمن ومدافعهم الرشاشة الصغيرة موجهة إلى الحشد المتجمع في الباحة . وكان معظم رجال الجيران في المحلة يطلون بهدوء هم وصبيانهم وزوجاتهم من نوافذ بيوتهم في العمارات المحاذية للباحة في حين ظل بعضهم واقفاً في الباحة رفقة قليل من نسائهم وأولادهم، وكانت النسوة يشاهدن بهدوء مايجري حولهن ويجهشن ببكاء غير مسموع بعد أن كن يصرخن بأصوات تصم الآذان قبل مجيء الشرطة الجنائية.
وفي هذه الأثناء إرتفعت حنجرة ضابط الشرطة الجنائية ذي الرتبة العالية قائلا لقوات الأمن:
• فتشوه وفتشوا أعوانه فقد إعترفوا بأنهم إقترفوا جرائم قتل . إحبسوهم فرادى في زنازين السجن المركزي بدون أسرة إلى وقت المحاكمة بتهم إرتكاب جرائم قتل. ونحن لا نهتم بلون البشرة بل بالجرائم. وإمنعوا إختلاطهم بالمحبوسين. أما الملاءات والملابس الخاصة فممنوعة حيث ملابس الحبس هي المسموح بإرتدائها . وممنوع الزيارات والوجبات الخاصة والملاعق والسكاكين أو أي أدوات حادة.كذلك الأطباق المعدنية والفخارية القابلة للكسر ماعدا الأطباق الخشبية الخفيفة وفيها طعام السجن. وممنوع الورق والأقلام والتليفونات والإتصال بإدارة السجن. وتكون الزنازين بدون تيار كهربائي أو أسلاك أو مصابيح أو حبال . ولكل زنزانة سطلا للتبول وسطلا للتبرز يتم تغييرهما بإستمرار . وفي السجن المركزي حمام عام في شكل صالة لأن الحمامات الخاصة تكون في البيوت والفنادق فقط.
وإستطرد ضابط الشرطة الجنائية قائلا للمتهم الأول بنبرة ساخرة:
• والآن ما إسمك ؟! قل إسمك الثلاثي ولا تثرثر.أجب عن أسئلتي فقط!.
فقال المتهم الأول بإعتداد:
• ” رجب أحمد الغرباوي” .هذا هو إسمي !
وسرعان ما أحاطت به وبأعوانه قوات الأمن ففتشتهم بعد تقييدهم بالحديد حول معاصمهم، وأذرعهم مكبلة خلف ظهورهم .
وخلال ذلك بدأ اللون الرمادي للغروب – يخالطه شفق باهت- يجثم فوق الباحة .
قال ضابط الشرطة الجنائية :
• إن الليل يقترب لكننا لن نغادر المكان قبل وصول القوات الإحتياطية التي ستبقى في الباحة أثناء الليل تحسباً لأي طاريء.
وعندئذ أخرج جندي من قوات الأمن جهازاً لاسلكياً وناوله للضابط الجنائي فقال الضابط بصوت جهير:
• إرسلوا إلينا القوات الإحتياطية التي ستمكث الليلة في ” باحة الزوكار” .ولديكم خريطة المنطقة التي سلمناها لكم قبل آذان عصر اليوم . ويلزم أن تقوموا – على وجه السرعة – بإعداد طائرة مروحية كبيرة للقوات الإحتياطية وطائرتين كبيرتين جداً للمعدات اللازمة. ومن الضروري إختيار الطائرتين –الخاصتين بالمعدات- من النوع الحديث الذي يوفر للطيارين قدرة الإقلاع والهبوط رأسياً فليس في الباحة ممرات للنوع العادي .
ثم أردف باللاسلكي مستطردا تعليماته:
• إتصلوا في التو بالجهة المدنية التابعة لنا التي نكلفها عادة في مثل هذه الأحوال بمهمات هي أقدر الجهات على تنفيذها .وليأتوا غدا في الصباح الباكر .
وأنتم تدركون جيدا أنهم أكفاء يعرفون أعمالهم الشاقة معرفة تامة حيث سيقومون ببراعتهم المعتادة وخبرتهم الفائقة بتجفيف مستنقع الدماء ووضع الجثث في عوازل بلاستيكية حيث لا لزوم لتشريحها نظراً لوجود الإعترافات. ولدى هذه الجهة المذكورة الملابس والأحذية المختصة والكمامات التي تمكنهم من فعل ذلك دون أن تصيبهم الجراثيم أو تضايقهم الروائح الكريهة.
وجاءه الرد من اللاسلكي واضحاً:
• فوراً سنرسل لكم ما طلبتموه.
ولم يمض وقت طويل حتى حلقت فوق الباحة ثلاث طائرات عالية الهدير هبطت على التوالي بالقرب منه .أما العائلات الواقفة في الباحة فقد شرعت في العودة إلى مساكنها وهي تؤدي التحية للقوات المنتشرة في الباحة. وفي الوقت ذاته تم إفراغ المعدات من الطائرتين المخصصتين للحمولة: سيارة إسعاف بطاقمها الطبي، ومصفحات ودبابتين خفيفتين، وصواوين، ومولدات كهرباء، ومصابيح كشافة، ومكبرات صوت يدوية، ومكيفات هواء ، ومدافع ثقيلة، وذخيرة ، وقنابل يدوية ، ومتاريس ،وأبسطة فخمة ، ووسائد،وأطعمة ، ومواقد، وثلاجات، ومياه، وومطهرات ، وسلالم، ومكانس كهربائية متطورة لكشط العشب وتثبيت التراب، وأبخرة، وعطوراً،وفحماً، ومباخر، وإسطوانات للأوكسيجين ،ومناظير للرؤية البعيدة.
ووجه الضابط الجنائي ذو الرتبة الكبيرة كلامه – هذه المرة – إلى التاجر قائلا:
• حرصا على سلامتك فالمرجو أن لا تبارح بيتك. إغلق الباب بالقفل والمزلاج .ونحن نعرف موقع مسكنك فقد أخبرتنا به في محضر التبليغ . والمهم أن لا تفتح متجرك إلا حين نأذن لك بذلك بعد إستكمال تحرياتنا بهدف إبعاد الخطر عنك وعن الجميع، فللزنوج المقتولين أهل وأصحاب من الزنوج قد يقودهم عماء البصيرة إلى إرتكاب جرائم .
وواصل حديثه قائلا بنبرة حانية:
• وكن مطمئنا فسوف نتصل بك في بيتك المواجه لمتجرك.
وإبان ذلك كان شيخ المحلة وبقية المسؤولين فيها قد جاؤوا لمساندة القوات الإحتياطية في حفظ الأمن والمحافظة على أرواح المواطنين .
وإبتسم الضابط الجنائي الكبير للتاجر ورفع يده مودعا القوات الإحتياطية التي أخذت بالإنتشار على أرض الباحة ، ثم إتجه – مع ضباطه وأنفاره يسوقون المتهمين– إلى الطائرة المروحية التي جاؤوا بها فإرتفعت بهم عاليا صوب الأغراض المحددة.
* الكاتب يوسف القويري- من مفكرة رجل لم يولد