سيد الوكيل - مرج البحرين.. قصة قصيرة

عندما دخل المتعلمون حقول الفن والغناء، أعرضوا عن كثير من الأشكال الغنائية القديمة واعتبروها مبتذلة وإباحية. ولأن عبد اللطيف البنا كان واحدا من أبرز مطربي هذا اللون من الغناء، اعتبروه مخنثا وشاذا. عبد الطيف البنا كان صوتا نادرا من طبقة التينور، يتسم بالحدة ويقترب من السبرانو أعلى طبقات الصوت في النساء.

وهذه طبقة نادرة بين الرجال، يقترب منها حكيم وعبد الباسط حمودة وغيرهما. لكن صوت البنا كان عجيبا فعلا وفاتحا لشهية الرجال والنساء معا. ربما هذا مزاج شاذ فعلا كشغف بعض الرجال بالمرأة غلامية الملامح.

ربما شهرة البنا وانتشار أغانيه بين الطبقات الشعبية ، تعني أن المزاج الخنثوي كامن في الطبقات العميقة للمشاعر الإنسانية.

وفي هذا السياق يعتقد بعض علماء الدماغ، أن الإبداع أصلا ملكة نسوية، ترتبط بالجهاز الحوفي المسئول عن العاطفة، وهو أكثر نشاطا عند المرأة من الرجل الذي نشط عنده الفص الجبهي المسئول الخيارات والتحليل والاستدلال.

العاطفة عند المرأة ارتبطت بأمرين:

أولا: الجنس. فالجنس غريزي عند كل الكائنات هدفه حفظ النوع، وكذلك الإنسان البدائي (الهوموسابيان والنياندرتال) لكن المرأة استطاعت تطوير الوظيفة الجنسية عبر جهازها العاطفي فهى لا تمارسه إلا مع الرجل الذي تكن له عاطفة ما. فالرغبة منبعها الحب لدى المرأة. أما عند إناث الحيوان، فهي تختار الحيوان الأكثر قوة وحيوية، لتضمن لنوعها قانون الانتخاب الطبيعي.

.ثانيا: نشاط الجهاز العاطفي منذ المرأة البدائية دفعها لاقتسام الطعام مع أطفالها ورعايتهم وحمايتهم. وتطور هذا الأمر مع تطور البشرية، إلى معان للتشارك، والبحث عن نظم تضمن التوافق المجتمعي، من أهمها فكرة البيت، والطهي، والتشارك في العمل والطعام. حدث هذا التطور عبر الجينات المتوارثة بين الأجيال، وانتقل من النساء إلى الرجال وبالعكس، فبأي آلاء ربكما تكذبان. وأبرز تمثيلات العاطفة في الرجال هو الإبداع والفن، وبالأخص الغناء.

غير ( ارخي الستارة اللي في ريحنا.. احسن جيرانك تجرحنا) غنى البنا ( أيه رأيك في لطافتي، أيه رأيك في خفافتي، مش حلوة وشربات؟ مش رقة وديلكات؟ ايه تسوى الجنيهات جنب البرلنتي؟)

لم يلتفت أعداء الإيحاءات الجنسية في الغناء إلى أن هذا هو اللون المفضل للمزاج الشعبي. فأشهر أغاني الأفراخ ذات معان جنسية واضحة تغنيها النساء ويسمح بها الرجال بكل اريحية. إنهم أقرب إلى الطبيعة الإنسانية من الانتلجانسيا الثقافية والدينية.

تقول اغنية ( حود ع المالح) بصوت جماعي: يللي ع الترعة حود ع المالح، ترد واحدة بصوت فردي ( ضهري بيوجعني) ترد الجماعة (من أيه؟)، يتكرر الأمر حتى يقول الصوت الفردي ( ضهري بيوجعني من ليلة امبارح)

تتدرج الأغنية إلى مناطق أخرى للجسد حتى تصل إلى بيت القصيد، عندئذ تنتهي الأغنية بضحكات نسوية بين الخجل والتهتك، وهن يردد هامسات، الاسم العامي لبيت القصيد.

لو تأملنا كثيرا من أغاني الإنتلجنسيا سنرى أنها تحمل رموزا جنسية، فالقلة والأبريق رمزين جنسيين في طقوس السبوع، ويتسربان إلى بعض الأغاني عند صباح ( ياما القمر ع الباب) وأما براوة لنجاة، والعطش والري هو المعنى المشترك بينهما.

لكن الأغنية الشعبية تظل هي الأكثر جرأة، مثلا أغنية (حمحم تعالى ساعة) التي تفصح عن شكوى المرأة المهجورة من زوجها.

تبدأ بصوت فردي ( حمحم تعالي ساعة)

صوت جماعي ( مهرك وقع في البلاعة) تعبيرا عن الإعراض عنها.

صوت فردي ( قدمت له صدري، يا سلام على صدري، فيه الرمان يضوي، حمحم تعالى ساعة)

(مهرك وقع في البلاعة)

قدمت له بطني يا سلام على بطني .. إلخ)

تمضي الأغنية على هذا النحو بين أعضاء جسد الأنثي، حتى تصل إلى قدس الأقداس، فتنتهي الأغنية بنفس الضحكات الخجلى المتهتكة.

عندما سمعت هذه الأغنية لأول مرة كنت طفلا، ومسموح لي بالتواجد في مجالس النساء، ولن أنسى عند نهاية الأغنية، ملامح أم مجدي السمرة وهى تخلع طرحتها وتلقي بها وتصرخ:

آه يا قلبي يا كتاكت، ياما انت مليان وساكت.

ولكني نسيت اسم جارتها التي قامت تطيب خاطرها، تحتضنها في عناق طويل وهزهزة ربما كانت بكاءأ.

وهكذا.. مرج البحرين يلتقيان.


سيد الوكيل

* مرج البحرين، بقلم: سيد الوكيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى