مقتطف حدريوي مصطفى ( العبدي) - سيزيف يعتلي الصخرة استرواحا

أحس بتعب شديد يسحقه ـ ما شعر بمثله يوما ـ يكسر عزمه ، يثنيه عن مواصلة المسير، وزاده عطش شديد همّاً ثانيا بات يستحلب له جُدُر حلقومه لمجابهته ، وهو يجر رجليه المنهوكتين سيرا على الرصيف؛ عرقه المتكرر وقميصه البليل كانا يلطفا شيئا من الحرارة المغمور في حضنها خصوصا حين يركب الأثير نسيمٌ باردٌ منفلت من صدر القيظ ؛ بينما شمس غشت الشاوية بأجوائها الجافة ظلت سادية معه ، تنحر استمتاعه بالانتعاش لحظات قصيرة بعد ملامسة إحساسه به.

ودّ أن يأخذ قسطا من الراحة يسترد خلالها قواه ويبدد وهنه غير، أنه ما أن رنا صوب المغرب حتى عدل ، فالشمس المنحدرة نحو الأفق لم يبق لها إلا خطوات وتغيب ، وبيته... على بعد ساعتين ونصف أو أكثر بقليل هناك ... هناك على أطراف المدينة ، قد فكر وقدر، ثم فكر وقدر أنه إن طاوع رغبته واستكان ـ حتما ـ سيحل المغرب وهو على طريق العودة ؛ هم ثانية بشرب جرعة صغيرة من ماء تمناها باردة زلالا، لكن الزمان الرمضاني حال ومناه ؛ فاكتفى بالتوقف ريثما يستبدل ورقا مقوى متآكلا مدسوسا فِراشا داخل حذائه الرقيع بآخر متّقِيـاً به مسمارا نافرا ، قد أدمى باطن قدمه ، ولما فرغ اعتدل منتصبا وطفق يدوِّر الرّجلَ الثانيّة ذات الشمال وذات اليمين ، و وجهه أخذ أسارير منكسرة تنم عن ألم ومعاناة وكثير من عدم الرضى والسخط .

كان يجاهد ـ فقط ـ في أن يدفع خارجا بحصيّة دخلتْ رغما عنه عبر ثقب في حذائه واستقرت تحت أخمص قدمه فصار إحساسُه بها جمرا حارقا عند الخطو .

تنفس الصعداء لدى إحساسه باستعادة السلاسة في المشي ؛ بعد تخلصه من الحصى ورأس المسمار النافرة...بل أحسّ بنوع من السعادة الشاملة تسكن وجدانه رسمت حيلولتها بسمة عريضة على وجهه الكسير، لكن ... سرعان ما انهار ذا الإحساس الجميل وتلاشى في لمح البصر وكأنه ما تولد في قراره آن استعاد سيناريو مقابلة هذا اليوم:

" آسف ... سيدي لم يقبل طلبك"

" ولكن ..."

" نعم ... قد كانت المقابلة رائعة ، وردودك مقنعة ومميزة تنم عن وسع معرفتك ومدى تعدد كفاءاتك... ولكن..."

" ولكن ماذا...؟ "

" رفضتك اللجينة لسببين : أولهما ابتسامتك...الشوهاء ! وقد تجاوزتها بان تعطيك تسبيقا تصلح به أسنانك التالفة لكن...

" لكن... ماذا سيدتي... ؟ !"

" لكنها لم تجد تسويغا لتخطي مشكلة عمرك .ربما ... لا تعرف يا سيدي أنه زاد بيوم عن الأربعين..وذا من شأنه أن يجعل قبولك مستحيلا في منظوماتنا المعلوماتية... آسفة ، آسفة سيدي ، كان بودّي أن تعمل بجانبنا ... حتما ستكون لك فرص أخرى، إنك لا تعدم وسيلة..."

" مستحيل سيدتي .. كيف بعد عقدين من الانتظار و التسويف والتأسف يبور الحصاد؛ فما بالك بعد ان ازداد العمر وساءت النضرة والنظرة وعز العرض ؟ !"

" أ تبكي...؟ "

" نعم...نعم ... كم هو فظيع ومؤلم أن يلفظك القطار بعد طول انتظار على رصيفه عند محطة الركوب... متروكا للضياع ... !"

وكأن الدمع ما جف ، وما انقطع؛ تسح قطرات على الخدين ويفرج الصدر الكظيم عن تنهد طويل كاد ان يتحول عويلا، لكن وجوده المكشوف بين حشود المارة جعله يحد من غلو انفعاله دون ان يمنعه من رفس الأرض برجله ولكم صدره الملآن لكمات متتالية؛

لعن السماء والأرض... لعن نفسه، ويوم ... مولده ، وحتى تلك الحتمية التي لم تكن رحيمة معه..

" كيف يستقيم أن استثنى دون الرفقاء؟ رغم تفوقي عليهم ! كيف يعاكسني الحظ ولا هم؟

نعم فقير، معدم لا وساطة لي ! لكن... دبلوم بحجم دكتوراه كفيل بفتح البوابات على مصراعيها ويكون لي قصب السبق... ! "

بعد حين.. يحضر وجه الله ، تهدأ العاصفة، وينحني الرأس في خشوع وخضوع، وتسود السكينة الكيان المهيض ويلوح قبس من نور... هناك في نهاية الأفق الحالك، فيبدأ يشعر برجليه المتعبة ولسانه الخشن الجاف بين حلقومه.

يميل عندئذ عن الجادة ويسلك زقاقا ضيقا ظليلا، تحْتويه رطوبته بحنو أم ، وعلى جانب مسطبة بوابة عمارة يتهالك وبين يديه يدس رأسه المتعب، غير أنه ما يلبت حتى يعتدل ويشرع يستطلع ما حوله .

أمامه... كان مخزن كبير لبيع الآلات الاليكترونية زينت واجهاته بتلفزات مسطحة كبيرة تعرض برامج قنوات مختلفة.

قناة الجزيرة تتنطع ـ بينها ـ بعلامتها التجارية الذائعة الصيت وشريطها الأحمر، يمور ـ لا محالة ـ دخانا ورصاصا وفرا وكرا وأشلاء ... فضلا عن هموم أخرى... جنبها قناة أخرى تذيع برنامجا للطبخ بطلته دجاجة كبيرة بالكاد أخرجت من الفرن ذهبية اللون تكللها أصابع من البطاطس المقلية وتحيطها فواكه استوائية متنوعة لا يعرف حتى اسماءها...تخلّب للمشهد فمه الجاف فتحرر لسانه المصمّغ ، وتأتأ :

ـ " اللهم إني صائم... "

أعادها مرة ثانية وهو يغادر إذ رأى على شاشة ثالثة مغنية شبه عارية تتلوى كأفعى متخمة أوستروجينات.

طال الظل ، واستطال هو الطريق فحث الخطى ، أسعفته الطريق الشبه الفارغة ، والراحة التي اقتطعها من زمن العودة فزاد في سرعته ؛ فارغ الفؤاد لا يشوشه إلا روائح الطبيخ المنتشرة في الأجواء ،وطعم الحلويات الرمضانية المعروضة على جنبات الطريق ؛اشتهاها فادخل يده في جيبه ليجرد ثروته ، بسطها على راحته وشرع يخصص لكل حاجة له فيها قدرا وقال: " ذا ثمن السجائر، وذي ست دراهم للقهوة بعد الفطور وهذا ثمن الجريدة وما تبقى يكن للتحلية ".

جمع قبضته في نرفزة وسُخْط فتساقطت بعض الدراهم ، التقف قطعتين والثالثة سقطت على الأرض وتدحرجت؛ المستوى المائل أعطاها زخما فتسارعت ، تبعها يجري محدودبا حتى تجاوزت الرصيف ودخلت في نطاق الجادة الرئيسية مركزا عليها دون ان يعير انتباها إلى سيارة قادمة بسرعة مفرطة قذفته عاليا ليسقط على الإسفلت وراءها في حين ظلت هي تلتهم الطريق في جنون تاركة وراءها غير صدى لأغنية ماجنة...

تجمع حوله ثلة من الناس سرعان ما انقضوا وتركوه نازفا بلا حراك بلا غطاء، والشمس تخضب الأفق بلونها الدامي، ماهرة مراسيم الغروب...



* نص من : وداعا سانتا ماريا ( رواية وقصص أخرى)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى