للتسكع متعةُ خاصة في العاصمة بشوارعها النظيفة، وعماراتها الأنيقة، و أسواقها المزدحمة ، فكثيرة هي الأشياء التي تلفت الانتباه، لأمثالي القادمين من مجاهل الريف، غرابة ممزوجة باستهجان، فكل ما أراه يعتبر غريباً جديداً على معارفي، و غير معلوم في قريتنا.
فما إن يبلغ التعب مني كل مبلغ، والجوع يعتصر أمعائي، أجدني على أبواب السوق العتيق، لتناول صحن فول معتبر، في المطعم القديم الصغير، ذي الطاولات الأربع الصغير، الزبائن على مدار الساعة، ما إن يشبع أحدهم، وفور وقوفه لترك مكانه، حتى يجلس من كان واقفاً فوق رأسه ينتظره حتى يفرغ ، وهناك من يأكلون على الواقف، أمام رفٍّ على واجهة المحل. وأهم عامل جاذب للزبائن، هو أن صاحب أعلن من خلال لوحة معلقة على باب المطعم ( تأكل حتى تشبع )، بسعر صحن واحد، الفول وجبة رئيسية لكثر من أفراد الشعب، لقلة ومحدودية الدخل، ما إن يمتلئ بطني شبعاً، أقوم لأمشي بتثاقل واضح في خطواتي البطيئة، فأتدرج بالمسير لأخرج إلى شارع الثورة، ولا بد لي من ساعة أخرى، أشبع بها نهمي للاطلاع على الخردوات و الأدوات العتيقة، تنفرد على كامل مساحة تحت جسر الثورة، أصوات السيارات مزعج، والدخان المنبعث منها يزكم الأنوف، يجعل التنفس صعباُ، أنسحب غربا،ً لأتنسّمّ عبير النسمات المسائية، تتجدد أنفاسي بعمق بدفعة هواء جديد، تأخذني نوبة عُطاس لنفض السُّخام المترسب في مجاري تنفسي، نشاط ينبعث في داخلي، لأتابع خطواتي باتجاه، جسر الجامعة، وما حوله، لإرواء غليلي المتشوق لذلك المكان المسكونُ فيَّ، فأجد روحي كذلك تسكنه هناك، ولا يمكن أكون في دمشق دون التعريج إلى رحابه ، لمطالعة بسطات الكتب المفترشة على مساحات واسعة تحت الجسر، وإلى جنوبه الشارع المنحدر من الجامعة باتجاه خلف التكيّة السليمانية، وصولاً إلى جادة الحلبوني، الكتب على اختلاف عناوينها وأحجامها، واختلاف مذاهبها من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار، ذات الورق الأصفر و الأحمر و الأبيض، لا بد لي من الاطلاع على معظمها.
توقفت أمام كشك لبيع الخردوات، على يسار جسر فكتوريا، قريباً من فندق سميراميس، قبل انعطافي يساراً باتجاه مقصدي، لفت انتباهي مجموعة من كتب الجيب الشهيرة، والمعروضة،منها على سبيل المثال، كيف تتعلم الإنكليزية في ثلاثة أيام، كيف تكسب الأصدقاء ؟، كيف تصبح مليونيراً ؟، كيف تتعلم قيادة الطائرة في أربعة أيام، لكتابة أجمل رسائل الغرام، كيف تكسب ود البنات، كل هذه العناوين بدت عادية لي اعتدتها من زمان، وحفظتها عن ظهر قلب.
الجديد و الغريب على هذه الجوقة، هو كيف تسقط دكتاتوراً في عشرة أيام ؟, تتسع حدقتاي، خِلتُ جفنيّ يتشققان. عيناي كادتا تخرجان من محجريهما، تشتت ذهني مع جلبة الناس العابرة، وضجيج السيارات العابرة، تخيلت أن كل العيون تعاينني، فرادة الموضوع ليس بالشيء الهيّن أبداً، مددتُ يدي إلى محفظتي لأتأكد من سماح موازنتي بشراء ذلك الكنز، وقد وقعت عليه مصادفة،بعد أن اطلعت على فهرسه، فأعجبتني عناوينه المعلنة، قررت شراءه، لينضم إلى مكتبتي، ويكون في عداد، أمثاله من نفس السياق إيجاباً وتضادًّ، (الدكتاتورية للمبتدئين للكاتب بهجت – طبائع الاستبداد للكواكبي – الأمير لميكافيللي )، خمس وعشرون ليرة مكتوب على الملصق، ناولت البائع مئة ليرة، فأرجع لي ليرة خمسين.
- لكن أرى السعر المعلن خمس وعشرون.
- البائع : نعم، هذا ما زال على السعر القديم، نسيت تعديله، عدم المؤاخذة لا أستطيع التنزيل من قيمته، فإذا لم يعجبك السعر، فأنت غير مضطر لشرائه.
- أشكرك، رغم غلاء سعره، وبما لا يتناسب مع حجمه، فلن أتراجع.
طار صوابي وأنا أتطلع حولي، أشعر بأيدٍ تمسك بي من الخلف، تقتادني بتهمة قلب نظام الحكم، والتآمر مع الجهات الأجنبية، والعمالة للموساد والرجعية، تعرّق جسمي، تبللت ملابسي الداخلية، خطواتي تتسارع على غير إرادة مني، الهروب ثلثي المراجل.. يا ولد، على بعد أمتار مني، توقفت سيارة أجرة، أنزلت راكباً أمامي، من فوري دخلت فيها، طالباً من السائق الذي قام بتعديل العداد الرقمي إلى الصفر.
تنفست الصعداء، خفقان قلبي خفّت حدته، رأرأة عيناي تباطأت، هدأت أنفاسي، مع أول دوران دولاب التاكسي، لمغادرة المكان، الموبوء بعناصر الأمن، ومنهم من يملك هذه الأكشاش، خاصة تحت جسر فكتوريا.
- السائق : إلى أين يا أستاذ ؟.
- فاجأني بسؤالي، تنحنحتُ عندما خانني صوتي، تلعثمتُ قليلاً، استجمعتُ قِواي: من فضلك إلى البرامكة، الكراج الموحد.
- السائق، حاضر، مالي أراك مرتبكاً، ووجهك أصفر اللون، هل من شيء قد أزعجك؟.
- اللعنة، هاهو السائق يقرأ ملامحي، هل هو من الجماعة؟
- : لا أبداً لا شيء، فقد أضعت مبلغاً صغيراً، ظننت أن أحدهم سرقه من جيب القميص أثناء انتظاري.
- الحمد لله، لا عليك.. الأمر بسيط، ما هو عمل حضرتك ؟.
- موظف في دائرة الآثار.
- والله أنا موظف مثلك، وأعمل على التاكسي بعد الدوام حتى منتصف الليل، المعيشة غالية، والراتب قليل جداً، لا يتناسب مع الغلاء المستمر، وهبوط الليرة أمام الدولار، ولو قدّر للمسؤولين في الدولة زيادة الرواتب، لكان عليهم مضاعفة رواتبنا خمسة أضعاف على الأقل، ليتناسب مع الوضع المعيشي، وساعتها ممكن أن نعيش مثل البشر.
- شكوكي و أوهامي، تصطرع في داخلي، أخاف أن يكون من رجال الأمن، لن أشاركه متابعة الحديث في هذا الاتجاه
- : يا سيدي، الله يفرجها، ويهديهم للنظر بعين العطف و الرعاية إلى الشعب المسكين، و لا تنس أننا دولة مواجهة، وصراعنا لم ولن يتوقف مع العدو الصهيوني.
- السائق - هز رأسه والغصة تحتبس في صدره - : معاك حق.
نزلت من التاكسي، عندما بلغت المكان المقصود، ناولت السائق الأجرة، من فوري دخلت مكتب الحجر، حالفني الحظ عندما وجدت كرسياً فارغاً وحيداً، انطلق ( باص البولمان )، البرودة المنبعثة من جهاز التكييف، أعادت لي حيوتي شاعراً بالأمان، الباص يطوي الطريق، و أنا أطوي صفحة تلو أخرى من الكتاب، وكانت خاتمته على الطريق، قبل وصولي للقرية, تصارعت الآمال في قلبي، الأفكار تغلي في ذهني، أحلام توردّت، وهي ترسم تحرراً من قيود الذل و الدكتاتورية، استفقت من ذهولي عندما توقف الباص في آخر محطة له، توقف بي الحلم عند هذه اللحظات، طال انتظاري لأصل على تخوم الأحلام تلك، فابيّضت عوارضي، وغزا الشيب مفرقي، وندُر السواد في شاربيّ، وشارف العمر على خريفه، وما زال حلم الانتظار يراودني.
فما إن يبلغ التعب مني كل مبلغ، والجوع يعتصر أمعائي، أجدني على أبواب السوق العتيق، لتناول صحن فول معتبر، في المطعم القديم الصغير، ذي الطاولات الأربع الصغير، الزبائن على مدار الساعة، ما إن يشبع أحدهم، وفور وقوفه لترك مكانه، حتى يجلس من كان واقفاً فوق رأسه ينتظره حتى يفرغ ، وهناك من يأكلون على الواقف، أمام رفٍّ على واجهة المحل. وأهم عامل جاذب للزبائن، هو أن صاحب أعلن من خلال لوحة معلقة على باب المطعم ( تأكل حتى تشبع )، بسعر صحن واحد، الفول وجبة رئيسية لكثر من أفراد الشعب، لقلة ومحدودية الدخل، ما إن يمتلئ بطني شبعاً، أقوم لأمشي بتثاقل واضح في خطواتي البطيئة، فأتدرج بالمسير لأخرج إلى شارع الثورة، ولا بد لي من ساعة أخرى، أشبع بها نهمي للاطلاع على الخردوات و الأدوات العتيقة، تنفرد على كامل مساحة تحت جسر الثورة، أصوات السيارات مزعج، والدخان المنبعث منها يزكم الأنوف، يجعل التنفس صعباُ، أنسحب غربا،ً لأتنسّمّ عبير النسمات المسائية، تتجدد أنفاسي بعمق بدفعة هواء جديد، تأخذني نوبة عُطاس لنفض السُّخام المترسب في مجاري تنفسي، نشاط ينبعث في داخلي، لأتابع خطواتي باتجاه، جسر الجامعة، وما حوله، لإرواء غليلي المتشوق لذلك المكان المسكونُ فيَّ، فأجد روحي كذلك تسكنه هناك، ولا يمكن أكون في دمشق دون التعريج إلى رحابه ، لمطالعة بسطات الكتب المفترشة على مساحات واسعة تحت الجسر، وإلى جنوبه الشارع المنحدر من الجامعة باتجاه خلف التكيّة السليمانية، وصولاً إلى جادة الحلبوني، الكتب على اختلاف عناوينها وأحجامها، واختلاف مذاهبها من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار، ذات الورق الأصفر و الأحمر و الأبيض، لا بد لي من الاطلاع على معظمها.
توقفت أمام كشك لبيع الخردوات، على يسار جسر فكتوريا، قريباً من فندق سميراميس، قبل انعطافي يساراً باتجاه مقصدي، لفت انتباهي مجموعة من كتب الجيب الشهيرة، والمعروضة،منها على سبيل المثال، كيف تتعلم الإنكليزية في ثلاثة أيام، كيف تكسب الأصدقاء ؟، كيف تصبح مليونيراً ؟، كيف تتعلم قيادة الطائرة في أربعة أيام، لكتابة أجمل رسائل الغرام، كيف تكسب ود البنات، كل هذه العناوين بدت عادية لي اعتدتها من زمان، وحفظتها عن ظهر قلب.
الجديد و الغريب على هذه الجوقة، هو كيف تسقط دكتاتوراً في عشرة أيام ؟, تتسع حدقتاي، خِلتُ جفنيّ يتشققان. عيناي كادتا تخرجان من محجريهما، تشتت ذهني مع جلبة الناس العابرة، وضجيج السيارات العابرة، تخيلت أن كل العيون تعاينني، فرادة الموضوع ليس بالشيء الهيّن أبداً، مددتُ يدي إلى محفظتي لأتأكد من سماح موازنتي بشراء ذلك الكنز، وقد وقعت عليه مصادفة،بعد أن اطلعت على فهرسه، فأعجبتني عناوينه المعلنة، قررت شراءه، لينضم إلى مكتبتي، ويكون في عداد، أمثاله من نفس السياق إيجاباً وتضادًّ، (الدكتاتورية للمبتدئين للكاتب بهجت – طبائع الاستبداد للكواكبي – الأمير لميكافيللي )، خمس وعشرون ليرة مكتوب على الملصق، ناولت البائع مئة ليرة، فأرجع لي ليرة خمسين.
- لكن أرى السعر المعلن خمس وعشرون.
- البائع : نعم، هذا ما زال على السعر القديم، نسيت تعديله، عدم المؤاخذة لا أستطيع التنزيل من قيمته، فإذا لم يعجبك السعر، فأنت غير مضطر لشرائه.
- أشكرك، رغم غلاء سعره، وبما لا يتناسب مع حجمه، فلن أتراجع.
طار صوابي وأنا أتطلع حولي، أشعر بأيدٍ تمسك بي من الخلف، تقتادني بتهمة قلب نظام الحكم، والتآمر مع الجهات الأجنبية، والعمالة للموساد والرجعية، تعرّق جسمي، تبللت ملابسي الداخلية، خطواتي تتسارع على غير إرادة مني، الهروب ثلثي المراجل.. يا ولد، على بعد أمتار مني، توقفت سيارة أجرة، أنزلت راكباً أمامي، من فوري دخلت فيها، طالباً من السائق الذي قام بتعديل العداد الرقمي إلى الصفر.
تنفست الصعداء، خفقان قلبي خفّت حدته، رأرأة عيناي تباطأت، هدأت أنفاسي، مع أول دوران دولاب التاكسي، لمغادرة المكان، الموبوء بعناصر الأمن، ومنهم من يملك هذه الأكشاش، خاصة تحت جسر فكتوريا.
- السائق : إلى أين يا أستاذ ؟.
- فاجأني بسؤالي، تنحنحتُ عندما خانني صوتي، تلعثمتُ قليلاً، استجمعتُ قِواي: من فضلك إلى البرامكة، الكراج الموحد.
- السائق، حاضر، مالي أراك مرتبكاً، ووجهك أصفر اللون، هل من شيء قد أزعجك؟.
- اللعنة، هاهو السائق يقرأ ملامحي، هل هو من الجماعة؟
- : لا أبداً لا شيء، فقد أضعت مبلغاً صغيراً، ظننت أن أحدهم سرقه من جيب القميص أثناء انتظاري.
- الحمد لله، لا عليك.. الأمر بسيط، ما هو عمل حضرتك ؟.
- موظف في دائرة الآثار.
- والله أنا موظف مثلك، وأعمل على التاكسي بعد الدوام حتى منتصف الليل، المعيشة غالية، والراتب قليل جداً، لا يتناسب مع الغلاء المستمر، وهبوط الليرة أمام الدولار، ولو قدّر للمسؤولين في الدولة زيادة الرواتب، لكان عليهم مضاعفة رواتبنا خمسة أضعاف على الأقل، ليتناسب مع الوضع المعيشي، وساعتها ممكن أن نعيش مثل البشر.
- شكوكي و أوهامي، تصطرع في داخلي، أخاف أن يكون من رجال الأمن، لن أشاركه متابعة الحديث في هذا الاتجاه
- : يا سيدي، الله يفرجها، ويهديهم للنظر بعين العطف و الرعاية إلى الشعب المسكين، و لا تنس أننا دولة مواجهة، وصراعنا لم ولن يتوقف مع العدو الصهيوني.
- السائق - هز رأسه والغصة تحتبس في صدره - : معاك حق.
نزلت من التاكسي، عندما بلغت المكان المقصود، ناولت السائق الأجرة، من فوري دخلت مكتب الحجر، حالفني الحظ عندما وجدت كرسياً فارغاً وحيداً، انطلق ( باص البولمان )، البرودة المنبعثة من جهاز التكييف، أعادت لي حيوتي شاعراً بالأمان، الباص يطوي الطريق، و أنا أطوي صفحة تلو أخرى من الكتاب، وكانت خاتمته على الطريق، قبل وصولي للقرية, تصارعت الآمال في قلبي، الأفكار تغلي في ذهني، أحلام توردّت، وهي ترسم تحرراً من قيود الذل و الدكتاتورية، استفقت من ذهولي عندما توقف الباص في آخر محطة له، توقف بي الحلم عند هذه اللحظات، طال انتظاري لأصل على تخوم الأحلام تلك، فابيّضت عوارضي، وغزا الشيب مفرقي، وندُر السواد في شاربيّ، وشارف العمر على خريفه، وما زال حلم الانتظار يراودني.