على جذع نخلة قديم تحط يمامتان .. والنافذة مشرعة على الحقول الشاسعة .. وأكوام البوص ملقاة على قارعة الطريق.. والوقت وقت حصاد .. والأفق المتسع تعبث فيه موجة هواء طرية جميلة ... وكان الوقت ضحى ...
اليمامتان تلعبان لعبة الحب الأزلي .. تتلامسان , تتنافران , تتقافزان , تتناقران .. راقني المشهد جداً .. فقلما أحظى بمثله .. وظلت أتابعهما عن كثب .. وأتأملهما من النافذة .. فأنا أحب الطيور جداً بكل أشكالها , وأنواعها .. ودائما أشعر بألفة من نوع ما بيني وبينها.. ربما لأن عالم الطيور أمة أمثالنا .. مثل عالم الإنس , والجن , والدواب تماماً بتمام .. أو ربما لان أمي الحبيبة ــ الله يرحمها ــ كانت مولعة بحب الطيور .. وكانت لديها هواية مفضلة .. تربية الطيور في بيتنا الكبير وأنا أخذت هذه الهواية عن أمي الحبيبة .......
(( أنا أحب الطيور.. وأعشق البحر , والسماء صافية .. وأحب البط , والحمام , والفراخ , والإوز .. وأحب أن أربيها , وأن أقتنيها .. فتربية الطيور من أجمل الأشياء لدي .. كما أن عندي خبرة واسعة في هذا المجال , وأستطيع أن أعرف , وأميز بين الذكر والأنثى , بكل سهولة ويسر .. شيء جميل ورائع أن تحب هذه الكائنات اللطيفة , الرقيقة الجميلة , المعلِمة , الملهمة .. )) ....
لا أدري لماذا جاء في ذهني ألان .. سيدنا " سليمان عليه السلام ".. وكيف علمه الله لغة الطير.. وأيضا سيدنا " نوح عليه السلام ".. حينما أرسل الغراب .. ليأتيه بالخبر اليقين , فوجد جيفة فوقع عليها , فدعا عليه سيدنا " نوح " بالخوف فلذلك لا يألف البيوت .. ثم بعث الحمامة , فجاءت بورقة زيتون بمنقارها, وطين برجلها , فعلم أن البلاد قد جفت , فطوقها الخضرة التي في عنقها .. ودعا لها أن تكون في أنس , وأمان .. ومن ثم تألف البيوت ــ وأن كان هذا أثر غريب جدا ــ
وهذا سيد الخلق سيدنا محمد " صل الله عليه وسلم , وهو في الغار .. جنّد الله له الحمامة , مع العنكبوت .. ليخفيه عن أعين الكفار .. وقصص أخري كثيرة جدا .. تذكرتها .. وجاءت تتزاحم في رأسي ...
اليمامتان , يقترب أحدهما من الأخر .. يتناقران .. يتلامسان .. وأنا أنظر إليهما باهتمام بالغ .. وهما يقفان على جزع النخلة القديم ..
أذكر لكم , طرفة حدثت لي , مع طيور أمي التي كانت تربها ....
وأنا في مرحلة المراهقة الذهنية .. أذكر في العشرينيات تقريباً .. كان لدي نهم شديد للمعرفة , والاطلاع , وكنت مولع بالقراءة , والبحث في كل مجالات المعرفة وقد وقع في يدي بعض الكتب الصفراء التي تتحدث عن السحر الأسود , والإيحاء وقراءة الأفكار , والتخاطب عن بعد , والتنويم المغناطيسي , فكنت أجلس بجوار الطيور التي تربيها أمي فوق المنزل , لفترات طويلة .. أفكر , وأتأمل فيما أقرأه.. ثم أحاول أن أطبق , وأجرب , ما قرأته علي الطيور .. وذلك بأن أحاول أقرأ ما يدور في رأسهم الصغيرة , والسيطرة عليهم ذهنياً .. بتوجيههم ليأكلوا مثلاً , أو يشربوا , وأوحي لهم بأشياء أخرى , أمرهم بها كي يقوموا بفعلها عن طريق التأثير الذهني .. والتخاطب عن بعد .. وفي النهاية كانت تجربة فاشلة بامتياز بالنسبة لي , ربما .. أو ناجحة بكل المقاييس , ربما .. أو هكذا خيل لي ...
اليمامتان يلعبان , يتشاغبان , يتغازلان , يرتفعان , يهبطان , يعتركان فوق كومة البوص , تحت جزع النحلة , المرابطة علي أول الطريق , والتي قطعها عم "أحمد" صاحب الحقل مع صويحباتها اللاتي كنَّ على رأس الحقل .. لأن الأطفال يرجّونها بالحجارة , ليتساقط البلح منها , فيملئون زرعته بالحجارة , وذلك عندما يكون غير موجود .. فكان ذلك يغضبه .. لذلك قطع كل النخلات التي على رأس الحقل , والتي تطل على أول الطريق ليستريح من وَش الدماغ , ووجع القلب , وجمع الطوب , والحصى , والحجارة من بين زرعته التي تعب فيها ....
وأنا طفل صغير .. كثيراً ما فعلت هذا أنا ورفاقي .. ولكم ذهبت أنا ورفاقي أيضاً صوب الحقول المزروعة في الربيع , وفي الخريف.. وفي الشتاء , وفي الصيف ومع كل واحد منا " فخ حديدي " مصنوع خصيصاً لصيد العصافير , والقمري , والسمان .. ادخرت ثمنه من مصروفي .. واشتريته من رجل يصنع الفخاخ .. وكنت أُعبأ جيبي بالغلال التي اشترتها أمي , لتضعها للحمام , والدجاج تحت سلم بيتنا الكبير .. وذلك طبعاً كان يغضب أمي , والتي كانت كثيراً ما تتشاجر معي بسبب هذا .. وحتى لا أفعل ذلك .. ومع ذلك كنت أغافلها .. وأفعل ما أريده , من ورائها , حتى لا تعاقبني على هذا ... يا لكم كانت أيام جميلة حقاً ...
اليمامتان , يطيران في الفضاء بعيداً .. وأنا أمد بصري ورائهما , وأطير خلفهما , واتبعهما عن كثب أنَّى حلا , ويطير عقلي في ذات اللحظة إلي عالم الماضي الجميل , واسترجع عالم الطفولة .. وأشتَرُّ ذكرياتي الساحرة الجميلة ..
هكذا كنا نفعل أنا ورفاقي , ونحن صغار , نصل حيث المكان الذي ننصبُ فيه أفخاخنا , نضع حبة غلة قيضي في رأس عروسة الفخ , ونحرف القصبة على طرف العروسة , بحيث لو لمستَ الحبة التي هي في رأس العروسة , لضرَبَ الفخُ في وجهك , وربما أمسك بيدكَ فعوركَ , أو آلمك .. ثم نضع الفخ الحديدي بالراحة وببطء شديد على الأرض , ثم نغطي الفخ بالتراب الناعم , ونظهر حبة الغلة البيضاء , وهذا شرط مهم لابد منه , حبة غلة بيضاء , حتى تستطيع العصافير , أو السمان رؤيتها عن بعد .. لتأتي مسرعة لها لتأكلها , فيصطادها الفخ , وما أن نرى كومة التراب طارت في الهواء .. حتى نعرف بأن هناك صيد ثمين وقع في الفخ , فنجري كلنا نتسابق , من أجل أن نعرف صاحب الفخ الذي صاد العصفور , فيمسكه بسرعة , يحاول إخراجه برفق , حتى لا يموت .. والباقي , كُلٍ يطمأن على فخه ....
هاهما اليمامتان يأتيان مرة أخرى .. ولكنهما في هذه المرة يقفا على الأسلاك الكهربائية العارية .. وكل منهما يبعد عن الأخر بمسافة .. يرفرفان بجناحيهما تارة , وأخرى يهتزان , وكأنهما يتمرجحان في الهواء .....
زمان كنت أستعجب , وأستغرب , وأستفسر عن السبب .. ورحت أبحث عن السر واسأل ..؟!! .. لماذا الطيور التي تقف على أسلاك الكهرباء العارية لا تتكهرب ..؟.. أو تصعق ..؟.. أو تموت ..؟!! .. وهي تضع يديها ورجليها تمسك بالسلك العاري .. ؟!!.. وظل هذا السؤال يطاردني .. ويحيرني , وأنا أبحث له عن إجابة ..؟.. حتى كبرت .. وعرفت بأن الطيور التي تقف على السلك لا تتكهرب .. أو تصعق , أو تموت , وذلك بسبب أنه كما هو معروف .. " جريان التيار الكهربائي لا يمكن أن يتم , أو يسير عبر الجسم , أو السلك إلا بوجود نقطتان مختلفتان في الجهد تتصلان بطرفي الجسم , أو السلك , كما هو حادث عندما تقوم بتوصيل السلك على طرفي البطارية .. والطير عندما يجلس على سلك الكهرباء سواء برجل أو رجلين فإن التيار لا يمكن أن يسير من خلاله ــ الصعق الكهربائي ــ لعدم اتصال الجسم بطرفٍ ثاني .. لكن .. وهنا مكمن الخطر .. بمجرد اتصال أي جزء من الطير بالأرض , أو بشجرة , فهنا تتكون دائرة كهربائية , ويصبح جسم الطير موصل للكهرباء , فيصاب الطير بالصعق الكهربائي ويموت .....
اليمامتان تطيران في الهواء , من جديد .. والحقول تحيطهما من كل جانب .. تمرحان في الأفق .. شدني المشهد أكثر , ولا أدري لماذا .. ربما لأني أحسدها لقدرتها علي الطيران , والتحليق في الفضاء لمسفات بعيدة , دون رادع , أو قيد من أحد , أو ربما لأني كنت وأنا صغير , أحب صيد العصافير , والقمري , واليمام الجبلي , والسمان , أو ربما تكون بداية قصة جديدة , تبلورت في رأسي .. أو ربما كان لشيء أخر لا أدريه ...........
أذكر ذهبت ذات مرة إلي حديقة الحيوانات , فوجدتني مشدودا نحو قفص العصافير الملونة .. أقف بالساعات , ومن غير أن أشعر بالوقت .. أتأمل أصواتها ومنظرها الجميل , وأسرح في الخيال , والتخيل أني مثلهم , وأشعر بشعورهم ... " هل تخيلت يوماً أنك تشعر بمشاعر العصافير ".. وكان يحزنني أني أراهم محبوسين في الأقفاص ذات الأسلاك الشائكة .. وكان هذا يحزنني كثيراً جداً , ويؤلمني .. ولكم كنت أتمنى .. ولو الأمر كان أمري , ولو كان بيدي لكنت أطلقت سراحهم جميعاً .. وكنت أتخيلهم وهم يقفون أمامي .. فوق الشبكة السلكية .. وعبر الحبال الممتدة داخل القفص وهم يبكون , ويشكون لي , عن السجن الذي هم فيه .. وسلبهم لحرياتهم .. ويتمنون لو أنهم يعودون إلي الفضاء الرحب , الجميل , ليعيشوا , كغيرهم أحراراً .....
صوت عربة قادمة من بعيد , تفزع الحمامتان , فوق الجسر الترابي , يطيران في الهواء , ليستقرا في هذه المرة .. وسط حقول القمح التي تم حصادها مُذ أيام يظهر فجأة في المشهد , غراب أسود ناعق بصوت عال .. فيغير المشهد تماما .. يقف فوق جزع النخلة القديم.. يحتل المكان وهو يهز رأسه.. لا أدري لماذا..؟!.... أنا كلما رأيت غراب .. تذكرت تلك القصة الضاربة في عمق الماضي , والتي لا يزال التاريخ يذكرها قصة " قابيل وهابيل " وكيف بعث الله الغراب دون عن سائر الكائنات ليريه كيف يواري سوءة أخيه ..؟!.. بعدما حمله على ظهره , وطاف به في الأرض .. وهو لا يدري ماذا يفعل معه .....
عالم الغربان عالم عجيب , وغريب حقاً .. لقد قرأت عنه الكثير .. فهالني ما قرأت وأذهلني ما عرفت .. عالم الغربان , كما تقول الدراسات العلمية , عالم خاص , وفيه ما يشبه العادات والتقاليد , والأعراف المتَبعَة لديهم .. فأي فرد منها يخرج عن النظام العام , المتبع لديهم حسب قوانينهم " قوانيين العدالة الفطرية التي وضعها الله سبحانه وتعالي لها " .. تعقد له محكمة عاجلة .. ولكل جريمة لديهم عقوبة خاصة بها .. فجريمة اغتصاب طعام أفراخ صغيرة مثلاً ــ عقوبته ــ تقوم مجموعة من الغربان , بنتف ريش الغراب المعتدي , حتى يصبح عاجزاً على الطيران , كالفراخ الصغيرة .. وجريمة اغتصاب العش , أو هدمه .. تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي ببناء عش جديد للمعتدى عليه .. كما أن جريمة الاعتداء على أنثي غراب آخر, تنعقد محكمة عاجلة , في حقل من الحقول الزراعية ,أو في أرض واسعة , وتتجمع هيئة المحكمة في الوقت المحدد , ويأتي بالغراب المتهم تحت حراسة مشددة , ثم تبدأ المحاكمة , وهو منكس الرأس , وقد خفض جناحيه وأمسك عن النعيق ,اعترافاً بذنبه .. فإذا صدر الحكم بالإعدام, وثبتت عليه الجناية بالأدلة والبراهين .. وثَبَتْ عليه مجموعة من الغربان .. توسعه ضرباً , ونقرأ , فتمزقه تمزيقاً , بمناقيرها الحادة حتى الموت .. ثم يحمله أحدهم بمنقاره , ويحفروا له , قبراً على قدر جسده , يضع فيه الغراب القتيل , ثم يهيل عليه التراب .. احتراماً لحرمة الموت ... وهكذا تقيم مملكة الغربان العدل الإلهي في الأرض .. أفضل مما يقيمه كثير من بني البشر " .......
اليمامتان تطيران في الهواء .. حتى تغيبا عن بصري تماماً .. وأنا واقف مكاني , أنظر للفضاء البعيد , وشريط الذكريات يكرّ , وتمّر من أمامي سنين طوال , جميلة ويطير عقلي إلي عالم الماضي الجميل .. أسترجع عالم الطفولة .. وأشتر ذكرياتي حين كنت فيها طفلاً شقي , وعفريت .. هكذا كان ينعتني الجميع .. أحب الحياة .. والحرية .. وأحب اللهو , واللعب مع رفاقي .. وأحب صيد العصافير , واليمام الجبلي , والسمان .. وأحب أمي , وأبي , وأخوتي , والناس جميعاً ... و .......
****************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر ــ
تمت 23 / 7 / 2019 ــ يوم الثلاثاء
اليمامتان تلعبان لعبة الحب الأزلي .. تتلامسان , تتنافران , تتقافزان , تتناقران .. راقني المشهد جداً .. فقلما أحظى بمثله .. وظلت أتابعهما عن كثب .. وأتأملهما من النافذة .. فأنا أحب الطيور جداً بكل أشكالها , وأنواعها .. ودائما أشعر بألفة من نوع ما بيني وبينها.. ربما لأن عالم الطيور أمة أمثالنا .. مثل عالم الإنس , والجن , والدواب تماماً بتمام .. أو ربما لان أمي الحبيبة ــ الله يرحمها ــ كانت مولعة بحب الطيور .. وكانت لديها هواية مفضلة .. تربية الطيور في بيتنا الكبير وأنا أخذت هذه الهواية عن أمي الحبيبة .......
(( أنا أحب الطيور.. وأعشق البحر , والسماء صافية .. وأحب البط , والحمام , والفراخ , والإوز .. وأحب أن أربيها , وأن أقتنيها .. فتربية الطيور من أجمل الأشياء لدي .. كما أن عندي خبرة واسعة في هذا المجال , وأستطيع أن أعرف , وأميز بين الذكر والأنثى , بكل سهولة ويسر .. شيء جميل ورائع أن تحب هذه الكائنات اللطيفة , الرقيقة الجميلة , المعلِمة , الملهمة .. )) ....
لا أدري لماذا جاء في ذهني ألان .. سيدنا " سليمان عليه السلام ".. وكيف علمه الله لغة الطير.. وأيضا سيدنا " نوح عليه السلام ".. حينما أرسل الغراب .. ليأتيه بالخبر اليقين , فوجد جيفة فوقع عليها , فدعا عليه سيدنا " نوح " بالخوف فلذلك لا يألف البيوت .. ثم بعث الحمامة , فجاءت بورقة زيتون بمنقارها, وطين برجلها , فعلم أن البلاد قد جفت , فطوقها الخضرة التي في عنقها .. ودعا لها أن تكون في أنس , وأمان .. ومن ثم تألف البيوت ــ وأن كان هذا أثر غريب جدا ــ
وهذا سيد الخلق سيدنا محمد " صل الله عليه وسلم , وهو في الغار .. جنّد الله له الحمامة , مع العنكبوت .. ليخفيه عن أعين الكفار .. وقصص أخري كثيرة جدا .. تذكرتها .. وجاءت تتزاحم في رأسي ...
اليمامتان , يقترب أحدهما من الأخر .. يتناقران .. يتلامسان .. وأنا أنظر إليهما باهتمام بالغ .. وهما يقفان على جزع النخلة القديم ..
أذكر لكم , طرفة حدثت لي , مع طيور أمي التي كانت تربها ....
وأنا في مرحلة المراهقة الذهنية .. أذكر في العشرينيات تقريباً .. كان لدي نهم شديد للمعرفة , والاطلاع , وكنت مولع بالقراءة , والبحث في كل مجالات المعرفة وقد وقع في يدي بعض الكتب الصفراء التي تتحدث عن السحر الأسود , والإيحاء وقراءة الأفكار , والتخاطب عن بعد , والتنويم المغناطيسي , فكنت أجلس بجوار الطيور التي تربيها أمي فوق المنزل , لفترات طويلة .. أفكر , وأتأمل فيما أقرأه.. ثم أحاول أن أطبق , وأجرب , ما قرأته علي الطيور .. وذلك بأن أحاول أقرأ ما يدور في رأسهم الصغيرة , والسيطرة عليهم ذهنياً .. بتوجيههم ليأكلوا مثلاً , أو يشربوا , وأوحي لهم بأشياء أخرى , أمرهم بها كي يقوموا بفعلها عن طريق التأثير الذهني .. والتخاطب عن بعد .. وفي النهاية كانت تجربة فاشلة بامتياز بالنسبة لي , ربما .. أو ناجحة بكل المقاييس , ربما .. أو هكذا خيل لي ...
اليمامتان يلعبان , يتشاغبان , يتغازلان , يرتفعان , يهبطان , يعتركان فوق كومة البوص , تحت جزع النحلة , المرابطة علي أول الطريق , والتي قطعها عم "أحمد" صاحب الحقل مع صويحباتها اللاتي كنَّ على رأس الحقل .. لأن الأطفال يرجّونها بالحجارة , ليتساقط البلح منها , فيملئون زرعته بالحجارة , وذلك عندما يكون غير موجود .. فكان ذلك يغضبه .. لذلك قطع كل النخلات التي على رأس الحقل , والتي تطل على أول الطريق ليستريح من وَش الدماغ , ووجع القلب , وجمع الطوب , والحصى , والحجارة من بين زرعته التي تعب فيها ....
وأنا طفل صغير .. كثيراً ما فعلت هذا أنا ورفاقي .. ولكم ذهبت أنا ورفاقي أيضاً صوب الحقول المزروعة في الربيع , وفي الخريف.. وفي الشتاء , وفي الصيف ومع كل واحد منا " فخ حديدي " مصنوع خصيصاً لصيد العصافير , والقمري , والسمان .. ادخرت ثمنه من مصروفي .. واشتريته من رجل يصنع الفخاخ .. وكنت أُعبأ جيبي بالغلال التي اشترتها أمي , لتضعها للحمام , والدجاج تحت سلم بيتنا الكبير .. وذلك طبعاً كان يغضب أمي , والتي كانت كثيراً ما تتشاجر معي بسبب هذا .. وحتى لا أفعل ذلك .. ومع ذلك كنت أغافلها .. وأفعل ما أريده , من ورائها , حتى لا تعاقبني على هذا ... يا لكم كانت أيام جميلة حقاً ...
اليمامتان , يطيران في الفضاء بعيداً .. وأنا أمد بصري ورائهما , وأطير خلفهما , واتبعهما عن كثب أنَّى حلا , ويطير عقلي في ذات اللحظة إلي عالم الماضي الجميل , واسترجع عالم الطفولة .. وأشتَرُّ ذكرياتي الساحرة الجميلة ..
هكذا كنا نفعل أنا ورفاقي , ونحن صغار , نصل حيث المكان الذي ننصبُ فيه أفخاخنا , نضع حبة غلة قيضي في رأس عروسة الفخ , ونحرف القصبة على طرف العروسة , بحيث لو لمستَ الحبة التي هي في رأس العروسة , لضرَبَ الفخُ في وجهك , وربما أمسك بيدكَ فعوركَ , أو آلمك .. ثم نضع الفخ الحديدي بالراحة وببطء شديد على الأرض , ثم نغطي الفخ بالتراب الناعم , ونظهر حبة الغلة البيضاء , وهذا شرط مهم لابد منه , حبة غلة بيضاء , حتى تستطيع العصافير , أو السمان رؤيتها عن بعد .. لتأتي مسرعة لها لتأكلها , فيصطادها الفخ , وما أن نرى كومة التراب طارت في الهواء .. حتى نعرف بأن هناك صيد ثمين وقع في الفخ , فنجري كلنا نتسابق , من أجل أن نعرف صاحب الفخ الذي صاد العصفور , فيمسكه بسرعة , يحاول إخراجه برفق , حتى لا يموت .. والباقي , كُلٍ يطمأن على فخه ....
هاهما اليمامتان يأتيان مرة أخرى .. ولكنهما في هذه المرة يقفا على الأسلاك الكهربائية العارية .. وكل منهما يبعد عن الأخر بمسافة .. يرفرفان بجناحيهما تارة , وأخرى يهتزان , وكأنهما يتمرجحان في الهواء .....
زمان كنت أستعجب , وأستغرب , وأستفسر عن السبب .. ورحت أبحث عن السر واسأل ..؟!! .. لماذا الطيور التي تقف على أسلاك الكهرباء العارية لا تتكهرب ..؟.. أو تصعق ..؟.. أو تموت ..؟!! .. وهي تضع يديها ورجليها تمسك بالسلك العاري .. ؟!!.. وظل هذا السؤال يطاردني .. ويحيرني , وأنا أبحث له عن إجابة ..؟.. حتى كبرت .. وعرفت بأن الطيور التي تقف على السلك لا تتكهرب .. أو تصعق , أو تموت , وذلك بسبب أنه كما هو معروف .. " جريان التيار الكهربائي لا يمكن أن يتم , أو يسير عبر الجسم , أو السلك إلا بوجود نقطتان مختلفتان في الجهد تتصلان بطرفي الجسم , أو السلك , كما هو حادث عندما تقوم بتوصيل السلك على طرفي البطارية .. والطير عندما يجلس على سلك الكهرباء سواء برجل أو رجلين فإن التيار لا يمكن أن يسير من خلاله ــ الصعق الكهربائي ــ لعدم اتصال الجسم بطرفٍ ثاني .. لكن .. وهنا مكمن الخطر .. بمجرد اتصال أي جزء من الطير بالأرض , أو بشجرة , فهنا تتكون دائرة كهربائية , ويصبح جسم الطير موصل للكهرباء , فيصاب الطير بالصعق الكهربائي ويموت .....
اليمامتان تطيران في الهواء , من جديد .. والحقول تحيطهما من كل جانب .. تمرحان في الأفق .. شدني المشهد أكثر , ولا أدري لماذا .. ربما لأني أحسدها لقدرتها علي الطيران , والتحليق في الفضاء لمسفات بعيدة , دون رادع , أو قيد من أحد , أو ربما لأني كنت وأنا صغير , أحب صيد العصافير , والقمري , واليمام الجبلي , والسمان , أو ربما تكون بداية قصة جديدة , تبلورت في رأسي .. أو ربما كان لشيء أخر لا أدريه ...........
أذكر ذهبت ذات مرة إلي حديقة الحيوانات , فوجدتني مشدودا نحو قفص العصافير الملونة .. أقف بالساعات , ومن غير أن أشعر بالوقت .. أتأمل أصواتها ومنظرها الجميل , وأسرح في الخيال , والتخيل أني مثلهم , وأشعر بشعورهم ... " هل تخيلت يوماً أنك تشعر بمشاعر العصافير ".. وكان يحزنني أني أراهم محبوسين في الأقفاص ذات الأسلاك الشائكة .. وكان هذا يحزنني كثيراً جداً , ويؤلمني .. ولكم كنت أتمنى .. ولو الأمر كان أمري , ولو كان بيدي لكنت أطلقت سراحهم جميعاً .. وكنت أتخيلهم وهم يقفون أمامي .. فوق الشبكة السلكية .. وعبر الحبال الممتدة داخل القفص وهم يبكون , ويشكون لي , عن السجن الذي هم فيه .. وسلبهم لحرياتهم .. ويتمنون لو أنهم يعودون إلي الفضاء الرحب , الجميل , ليعيشوا , كغيرهم أحراراً .....
صوت عربة قادمة من بعيد , تفزع الحمامتان , فوق الجسر الترابي , يطيران في الهواء , ليستقرا في هذه المرة .. وسط حقول القمح التي تم حصادها مُذ أيام يظهر فجأة في المشهد , غراب أسود ناعق بصوت عال .. فيغير المشهد تماما .. يقف فوق جزع النخلة القديم.. يحتل المكان وهو يهز رأسه.. لا أدري لماذا..؟!.... أنا كلما رأيت غراب .. تذكرت تلك القصة الضاربة في عمق الماضي , والتي لا يزال التاريخ يذكرها قصة " قابيل وهابيل " وكيف بعث الله الغراب دون عن سائر الكائنات ليريه كيف يواري سوءة أخيه ..؟!.. بعدما حمله على ظهره , وطاف به في الأرض .. وهو لا يدري ماذا يفعل معه .....
عالم الغربان عالم عجيب , وغريب حقاً .. لقد قرأت عنه الكثير .. فهالني ما قرأت وأذهلني ما عرفت .. عالم الغربان , كما تقول الدراسات العلمية , عالم خاص , وفيه ما يشبه العادات والتقاليد , والأعراف المتَبعَة لديهم .. فأي فرد منها يخرج عن النظام العام , المتبع لديهم حسب قوانينهم " قوانيين العدالة الفطرية التي وضعها الله سبحانه وتعالي لها " .. تعقد له محكمة عاجلة .. ولكل جريمة لديهم عقوبة خاصة بها .. فجريمة اغتصاب طعام أفراخ صغيرة مثلاً ــ عقوبته ــ تقوم مجموعة من الغربان , بنتف ريش الغراب المعتدي , حتى يصبح عاجزاً على الطيران , كالفراخ الصغيرة .. وجريمة اغتصاب العش , أو هدمه .. تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي ببناء عش جديد للمعتدى عليه .. كما أن جريمة الاعتداء على أنثي غراب آخر, تنعقد محكمة عاجلة , في حقل من الحقول الزراعية ,أو في أرض واسعة , وتتجمع هيئة المحكمة في الوقت المحدد , ويأتي بالغراب المتهم تحت حراسة مشددة , ثم تبدأ المحاكمة , وهو منكس الرأس , وقد خفض جناحيه وأمسك عن النعيق ,اعترافاً بذنبه .. فإذا صدر الحكم بالإعدام, وثبتت عليه الجناية بالأدلة والبراهين .. وثَبَتْ عليه مجموعة من الغربان .. توسعه ضرباً , ونقرأ , فتمزقه تمزيقاً , بمناقيرها الحادة حتى الموت .. ثم يحمله أحدهم بمنقاره , ويحفروا له , قبراً على قدر جسده , يضع فيه الغراب القتيل , ثم يهيل عليه التراب .. احتراماً لحرمة الموت ... وهكذا تقيم مملكة الغربان العدل الإلهي في الأرض .. أفضل مما يقيمه كثير من بني البشر " .......
اليمامتان تطيران في الهواء .. حتى تغيبا عن بصري تماماً .. وأنا واقف مكاني , أنظر للفضاء البعيد , وشريط الذكريات يكرّ , وتمّر من أمامي سنين طوال , جميلة ويطير عقلي إلي عالم الماضي الجميل .. أسترجع عالم الطفولة .. وأشتر ذكرياتي حين كنت فيها طفلاً شقي , وعفريت .. هكذا كان ينعتني الجميع .. أحب الحياة .. والحرية .. وأحب اللهو , واللعب مع رفاقي .. وأحب صيد العصافير , واليمام الجبلي , والسمان .. وأحب أمي , وأبي , وأخوتي , والناس جميعاً ... و .......
****************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر ــ
تمت 23 / 7 / 2019 ــ يوم الثلاثاء