جمال الدين علي الحاج - امرأة من نار.. قصة قصيرة

شبت في القرية صدفة; عائلتها المكونة من الأب الكهل وحمار عجوز ومعزة وحيدة وكلب أسود; نزلت ذات صباح تحت شجرة الحراز المنتصبة في حافة الوادي. شجرة معمّرة تكره العيش في فصل الخريف; وهي ترى الحياة من حولها تكتسي بخضرة داكنة; فيشتعل عودها بنار غامضة. نار لها حفيف مخيف; تستعر من بعد المغيب حتى بزوغ الفجر; وعندما ينقشع غبش الفجر عن الشمس الناعسة وتتنفس الحقول ضباب من خلف التلال البعيدة ويبدأ كل طائر يتفقد جاره النائم بجواره في الغصن; تبدو الشجرة من بعيد ككائن عملاق يقف عاريا يتضرع الاله.
لم يطلب الرجل الكهل إذنا أو عونا من أحد; ولدهشة شيخ القرية ومرافقيه الذين ذهبوا إليه في نفس اليوم كان الرجل قد بنى كوخا من القش ودق وتدا للحمار بينما المعزة والكلب يتنزهان في السهل المعشب أسفل الوادي. لم يشاهدوا ابنته التي قال عنها حمد أنها نار موقدة; لأن الرجل استقبلهم في الخارج حيث كان منهمكا في تقليم حوافر الحمار; لكنهم سمعوا قرقعة الأواني وصراخ رضيع من داخل الكوخ.
حمد يصر أن ابنة الصمدي; حينما قدمت لم تكن تحمل طفلا. يقول أنه عندما كان منهمكا في حقله; شاهدها بعدما أنزلت الأغراض من ظهر الحمار حملت إنا الماء واتجهت صوب البئر القديم. لم يقل حمد أنه سمع حوارهما لكنه فهم أنها جاءت تطلب الماء من صديقه نورين; لم يشاهدها تغضب وتضرب صديقه بإناء الصفيح على وجهه; كما قال له نورين لاحقا. لكنه سمع صوت الانفجار وشاهد الفتاة الغجرية تهرول عائدة بينما صديقه يضع كلتا يديه في وجهه ويتلوى.
أطلق حمد ضحكة مجلجلة عندما زار صديقه في مساء نفس اليوم:
- الله يجازي محنك يا نورين.
- اي والله مثل ما أقول لك..
- و زبيبة؟ يسأل حمد.
- زبيبة مما فصّلت سروال طويل وعلقته جوار سروالي قلبي أباها..
حمد صديق نورين ونديمه يعرف السبب الذي جعل الفتاة تغضب لكنه يأبى أن يبوح بالسر; يقول أن تلك حادثة قديمة عفى عليها الدهر ولا يجوز التحدث عن الأموات إلا بالخير.
لكن القرية اتفقت أن زبيبة شوهدت ذلك الصباح الذي ظلت فيه النار مشتعلة في شجرة الحراز على غير العادة تنزل من الكثب الرملي شرق شجرة التبلدي; وفي حضنها طفل رضيع حنطي اللون أطلقت عليه لقب نورين.
كانت زبيبة زوجة نورين تتظاهر بكنس صفق شجرة النيم أمام دارها; وعينها على الفتيات الواردات البئر; تركز حواسها كلها على الفتيات الشابات; تتشمم الرائحة التي يضعنها وتقيس ببصرها تضاريس الملابس على أجسادهن; وتنتظر عودته في المساء لتنهال عليه بالأسئلة: (ماذا لديك للنساء بعد هذا العمر. ماذا قلت ل حسنة حتى ضحكت و كادت تدلق الماء على الأرض؟ لماذا لا تحمل زليخة العانس الماء بنفسها وهي تنزل من التلة; أنت لا ترضي أن تناولني الكأس الفارغة). فيحمل نورين بعض مودة يتوكأ بها على جرحه و يهش الغضب; و ينسحب خارجا من البيت.
في البدء ظنت زبيبة أن غمزات النساء في الحي من فرط الغيرة من روح نورين الشابة وإقباله على الحياة; حتى رأته ذلك الصباح يتسلل صاعدا الكثب الرملي; رمت المكنسة; عضت شفتيها وأصدرت صوتا مثل حيوان متوحش مطعون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى