اليوم رحل جيو. أكيد أنه لم يوص بشئ. بل لم تكن له الرغبة في الحديث لأي كان. لم ينظر لا يمنة و لا يسرة. لم يحاول ان يعرف من حضر لوداعه و من تخلف. نبس بكلام مبهم يقوله أي مقبل على الموت، وراح طافقا الباب خلفه بكل قوة.. و الأكيد انه لو كان ما يزال محتفظا ببعض قوته, فانه كان سيبصق في وجع الجميع، و يتلفظ بكلام جارح، و يعدو بكل قواه الى حيث قبره, ويرد عليه التراب دونما حاجة الى مراسيم أو أناشيد الوداع.
كان تائها يوم انفتح أمامه باب ولجه من غير أن يسأل. وجد نفسه في رحاب القادمين من الشمال. انبهر وهو يسمع الكلمة البسيطة الآسرة التي لا يحتاج الالتزام بها الى تأكيد أو غليظ الايمان. و القوانين المقدسة التي لا يعلا عليها. و الزمن محاصر بخطوط أفقية و أخرى عمودية لا تسمح بانفلات اي جزء منه. رأى الحياة حاملة كل ما راى، ماضية بهم الى مراتب محسوبة, نابذة كل مظاهر العبث و العشوائية و أحكام المزاج. لحظتها أيقن أن القوة الحقيقية لا تقاس بحجم الاسلحة و كمية الذخائر.
حين خرج, جثا على ركبتيه وبكى مرتين. الأولى حين التقاه الأهالي وبشروه بالنصر. لكنه لم يرفع رأسه. جذبوه بكل قوة. فتح عينيه. سألهم عن المراد. قالوا: سيرحل المستعمر.
أجاب : ماذا ستفعلون بعدهم ؟
- سنحيا حياة حرة .
- كيف ستحيونها ؟
- كما عشناها قبل مجيئه.
دمعت عيناه و قال: كم يلزمكم من الوقت كي تهتدوا الى المعركة الحقيقية الحاسمة ؟
اندهشوا و قالوا: أ ما زال أمامنا معارك أخرى ؟
- معارككم ضد أنفسكم أولا.
تبادلوا النظرات و قالوا: كفانا الله شر القتال.
تفرقوا ولم ييأس. أقسم ألا يبكي ثالثة. نهض. مرر أصابعه على حنجرته و اطلق لصوته العنان. من محطة الى محطة, ومن جولة الى أخرى كان صوته ناقوسا يعكر صفو سكون الضمائر الخاملة. في الساحات و الشوارع و المسارح. مستنكرا مرة, مدينا أخرى كل أشكال التفسخ و الانكسار التي ما لبثتت تعمق جذورها في تلك التربة المتعفنة الفاسدة.
كم كسب من جولة ؟ كم خسر من رهان ؟ لم تكن الاجابة مهمة. كان الاهم ان له دورا يؤديه و يعيش من أجله. كان متيقنا انه يزرع، مثلما كان متيقنا من ان ليس هو من سيحصد .
في لحظة فاصلة ما بين الضياع و تلمس الحقيقة, ارتخت حبال صوته فجأة. استجمع قواه. ضغط. لم يبارح صوته حنجرته. عاود الضغط. نظر حوله. راى جذور التفسخ تمد رؤوسا حادة محاولة اختراق جسده. وجد نفسه محاصرا من كل الجهات. منفذ واحد تبقى امامه سلكه من غير أن يسأل. بعدها وجد نفسه يدخل بيته الذي تحول الى اقامة جبرية امتدت الى يوم رحيله.
وأزهرت جذور التفسخ. مدت للفضاء سيقانا و أوراقا هادفة الى حجب اشعة الشمس، ممتصة بقايا حرارة لأجساد من جراء ركض طويل بلا جدوى. أطبق الصمت و الظلمة على الأمكنة. العيون وحدها ظلت تملك القدرة على الحركة. تتركز على الأبواب حين تغادر السقوف حيث وقع خطوات قادمة لم تصل أبدا. الآذان كانت تصغي السمع جيدا, يتناهى اليها صدى انهيار الأزمنة في مصب التلاشي. هدير قوي يحدث اهتزاز القناعات المتصدعة و يرسم أخاديد غائرة على الوجوه المتصلبة ..
وفي لحظة صفو عابر، ردد البعض سرا أن صوت جيو ما يزال يتردد، لكنه خافت مشوش. اجتمع سامعو الصدى و قرروا جمع اشلاء الصوت و بثه عبر مكبر لعله يصل الآذان الموقورة. ساعتها جاء الصوت بكل وضوح، يأمرهم ألا يفعلوا ما اعتزموه, لأنهم في حاجة الى اصوات كثيرة يتجاوز صداها محيط القرية, و يتردد في فضاء على مقاس خارطة الوطن.
كان تائها يوم انفتح أمامه باب ولجه من غير أن يسأل. وجد نفسه في رحاب القادمين من الشمال. انبهر وهو يسمع الكلمة البسيطة الآسرة التي لا يحتاج الالتزام بها الى تأكيد أو غليظ الايمان. و القوانين المقدسة التي لا يعلا عليها. و الزمن محاصر بخطوط أفقية و أخرى عمودية لا تسمح بانفلات اي جزء منه. رأى الحياة حاملة كل ما راى، ماضية بهم الى مراتب محسوبة, نابذة كل مظاهر العبث و العشوائية و أحكام المزاج. لحظتها أيقن أن القوة الحقيقية لا تقاس بحجم الاسلحة و كمية الذخائر.
حين خرج, جثا على ركبتيه وبكى مرتين. الأولى حين التقاه الأهالي وبشروه بالنصر. لكنه لم يرفع رأسه. جذبوه بكل قوة. فتح عينيه. سألهم عن المراد. قالوا: سيرحل المستعمر.
أجاب : ماذا ستفعلون بعدهم ؟
- سنحيا حياة حرة .
- كيف ستحيونها ؟
- كما عشناها قبل مجيئه.
دمعت عيناه و قال: كم يلزمكم من الوقت كي تهتدوا الى المعركة الحقيقية الحاسمة ؟
اندهشوا و قالوا: أ ما زال أمامنا معارك أخرى ؟
- معارككم ضد أنفسكم أولا.
تبادلوا النظرات و قالوا: كفانا الله شر القتال.
تفرقوا ولم ييأس. أقسم ألا يبكي ثالثة. نهض. مرر أصابعه على حنجرته و اطلق لصوته العنان. من محطة الى محطة, ومن جولة الى أخرى كان صوته ناقوسا يعكر صفو سكون الضمائر الخاملة. في الساحات و الشوارع و المسارح. مستنكرا مرة, مدينا أخرى كل أشكال التفسخ و الانكسار التي ما لبثتت تعمق جذورها في تلك التربة المتعفنة الفاسدة.
كم كسب من جولة ؟ كم خسر من رهان ؟ لم تكن الاجابة مهمة. كان الاهم ان له دورا يؤديه و يعيش من أجله. كان متيقنا انه يزرع، مثلما كان متيقنا من ان ليس هو من سيحصد .
في لحظة فاصلة ما بين الضياع و تلمس الحقيقة, ارتخت حبال صوته فجأة. استجمع قواه. ضغط. لم يبارح صوته حنجرته. عاود الضغط. نظر حوله. راى جذور التفسخ تمد رؤوسا حادة محاولة اختراق جسده. وجد نفسه محاصرا من كل الجهات. منفذ واحد تبقى امامه سلكه من غير أن يسأل. بعدها وجد نفسه يدخل بيته الذي تحول الى اقامة جبرية امتدت الى يوم رحيله.
وأزهرت جذور التفسخ. مدت للفضاء سيقانا و أوراقا هادفة الى حجب اشعة الشمس، ممتصة بقايا حرارة لأجساد من جراء ركض طويل بلا جدوى. أطبق الصمت و الظلمة على الأمكنة. العيون وحدها ظلت تملك القدرة على الحركة. تتركز على الأبواب حين تغادر السقوف حيث وقع خطوات قادمة لم تصل أبدا. الآذان كانت تصغي السمع جيدا, يتناهى اليها صدى انهيار الأزمنة في مصب التلاشي. هدير قوي يحدث اهتزاز القناعات المتصدعة و يرسم أخاديد غائرة على الوجوه المتصلبة ..
وفي لحظة صفو عابر، ردد البعض سرا أن صوت جيو ما يزال يتردد، لكنه خافت مشوش. اجتمع سامعو الصدى و قرروا جمع اشلاء الصوت و بثه عبر مكبر لعله يصل الآذان الموقورة. ساعتها جاء الصوت بكل وضوح، يأمرهم ألا يفعلوا ما اعتزموه, لأنهم في حاجة الى اصوات كثيرة يتجاوز صداها محيط القرية, و يتردد في فضاء على مقاس خارطة الوطن.