الحارس، ذاك الضخم، الذي كان يقوم في البداية على خدمتي دون أن أراه- فقد كان له حضورٌ شبحيّ- وأصبح بعد ما أحضر ثلاجة صغيرة ومقعدًا، يختفي أيامًا ويأتي بعدها بمُعلباتٍ وعصائر وسجائر، يضعهم في الثلاجة، السجائر فوقها، ويجلس على مقعده بجوار الباب من الداخل- أتخيله ينظر إليّ، رغم الجدار الذي يفصل بيننا، بعين واسعة- ثم يقوم لينصرف وقد أغلق عليّ الباب.
دائمًا ما كان يأتي وأنا نائم فلا يوقظني.
أيقظني منذ.. منذ.... لا أعلم، بلمسة من يده، كنتُ نائمًا في المقعد الكبير بجوار النافذة، ففتحت عيني على وجهه المفزوع وهو يقول:
- أستاذ.. أستاذ أنت بخير؟!
هززت رأسي، تنهد وراح ينظر حوله إلى أن استقرت عيناه على مقعده خلف الباب، مشى إليه بخطوات ثقيلة وحمله بين يديه وعاد، وضعه بجواري وجلس عليه ومازال في وجهه انزعاج وحيرة. قال كمن يُحدث نفسه:
- شيء يجنن، الآن رأيت حضرتك في التليفزيون ميت، والرئيس.. الرئيس بنفسه كان في الجنازة.
قلت:
- أنا ؟!
قال:
- نعم.. والدليل أن حضرتك رسام، هل أنت لمؤاخذه تعمل رسامًا ؟
كدتُ أقول لا أعرف، ولكنه لم يمهلني، قال وهو يبتسم:
- غريبة !
وأعطاني سيجارة، أشعلتها، وواصل:
- أول ما رأيت الجنازة قلت الله يرحمني، أصلك لمؤاخذه في عهدتي.
وأشعل سيجارته ثم قال:
- ولكن الذي يحيرني، كيف الرئيس يبكي عليك بحرقة وهناك أناس تقول أنه لمؤاخذة يكره حضرتك جدًا !
كان الدخان بيننا كثيفاً، فبدت ملامحه مشوهة، قال وهو يقف:
- وأنا لمَ مندهش ؟
وضحك، ولكنه قطع ضحكته فجأة ومد لي يده بورقة صغيرة قُصّت من جريدة وقال:
- سأنصرف كي ألحق الوصول إلى منزلي قبل الكسوف.
واتجه نحو الباب، بينما كنت لا أريده أن يذهب.
عند الباب توقف، نظر مبتسمًا، ثم ذهب دون أن يُغلق الباب.
ألقيت السيجارة من النافذة ورحت اقرأ: " أعلنت هيئة الأرصاد أن مدينتنا ستشاهد اليوم، بدءًا من الثانية بعد الظهر، كسوفًا للشمس، سيمتد إلى أربع وعشرين ساعة، وكما يتوقع الخبراء، ستتساقط الأمطار طوال فترة الكسوف، مما جعل الحكومة تُصدر بيانًا للأمة، تحثها فيه على شراء المؤن التي تفي باحتياجاتهم قبل وقت الكسوف، وتناشدهم بالتزام منازلهم، منعاً لأي ضرر، لأنه قد ينقطع التيار الكهربائي بسبب الأمطار." ألقيت بالورقة أيضًا من النافذة وأشعلت سيجارة، وبقيت أنظر إلى الباب المفتوح، الذي أغواني، فخرجت.. نزلت السلالم مُسرعًا، ورحت أتجول في شوارع خالية تمامًا، إلى أن هبط ظلامٌ خرافيّ غيّب معالم كل الأشياء فجأة.
توقفت مكاني مرعوبًا، لا أعرف أين أنا، ولا أعرف كيف أسلُك، وأكاد أختنق من تزايد دقات قلبي.
هل سأموت الآن ؟!
تساءلت، فحلَّ هدوء وراحة، خطر لي أن أضحك بصوت عالٍ، فكرت أن أغني، إبتسمت، وفردت ذراعيّ أتحسس بهما الفراغ الأسود حولي، وبخطىً حذرة وصلتُ إلى جدار.. جلستُ ملتصقًا به وأنا بي بهجة فريدة.
بعد وقت لا أعرف مداه، لسعني صوت بكاءٍ مكتوم، وقفت أترصد المصدر.. كان عن يميني، استندتُ على الجدار ومشيتُ بطيئًا إلى أن أوقفني الصوت:
- من ؟!
قلتُ:
- ضائع في الظلام.
وشرعتُ في الجلوس، لكن دفعتني يد لينة فوقعتُ، وارتطمت رأسي بالأرض، صحتُ متألمًا، فامتدت اليد اللينة تمسكني ملهوفة:
- أسفة.
قالت، وعاونتني لأعتدل، وبمجرد استقراري جالسًا، راحت تتحسس وجهي وهي تكرر:
- أسفة.
دفعتُ يدها برفق فجلست ملتصقة بي.
الألم.. ألم رأسي، وشيء ما في صوتها، وهذا الظلام جعلوني مشوَّشًا، كانت قد قالت شيئًا لم أتبّينه وصمتتْ ثم قالت:
- نعم كان في العيون خوف!
التفتُ اتجاهها كمن يستطيع أن يرى وقلت:
- ماذا ؟
قالت:
- كنتُ في القطار الذي يمر بمدينتكم، في طريقي إلى الجنوب، وما إن توَّقف هنا رأيتُ في عيون النّاس شيئاً هزّني.. نزلتُ كمنومة ومشيتُ في شوارع مزدحمة بأُناس مزعورة، متعجلة، تحمل على ما يبدو أطعمه، أكثر من العادي غالباً، الكل.. كبير وصغير، يحملون ما يثقل خطاهم المتعاثرة، فمشيتُ مأخودة، قلبي يكاد ينخلع، خاصةً عندما خلت الشوارع تمامًا من الناس، وكأنما قد ابتلعتهم الأرض فجأة، وبعد ذلك أُصبتُ بالعمى.
كان في صوتها نحيب يصارعه غضب أو رفض، اختفيا وحل حزن يائس، فبقيت صامتًا ولم أخبرها بموضوع الكسوف، إلى أن قالت:
- أكيد أنا في كابوس!!.
قلت:
- ربما.
وأضفتُ:
- وربما هو ليلٌ مختلف، سيأتي بعده نهارٌ سيجعلنا نرى أنفسنا والحياة على نحو جديد.
انذهلتُ مما قلتُ وكدتُ أُعلن لها ذلك، إنما سمعتها تتنهد قبل أن تقول:
- كنتُ أُريد دائماً أن أزور أماكن جديدة، أن أرى وجوهًا جديدة.. الآن أحن، في لوعة، إلى كل ما رأيتُ وعشتُ، أحنُ إلي كل شيء...
مَسني انفعالها فوجدتني أقول:
- أما أنا فعشت في وهم كبير، أحلام لا تحتمل.. تُجهض من دبيب الموت المُعربد في أعماقي، والذي يرقص في إغراء يملكني، وأنا أقاوم.. أقاوم ببعض حياة.
موت راقص !
هل تتخيلين هذا ؟!
سألتها وأنا اضحك، فعاودني ألم رأسي، وضعت يدي وقلت:
- أنا أنزف.
وكان الدم على أصابعي دافئًا.
دائمًا ما كان يأتي وأنا نائم فلا يوقظني.
أيقظني منذ.. منذ.... لا أعلم، بلمسة من يده، كنتُ نائمًا في المقعد الكبير بجوار النافذة، ففتحت عيني على وجهه المفزوع وهو يقول:
- أستاذ.. أستاذ أنت بخير؟!
هززت رأسي، تنهد وراح ينظر حوله إلى أن استقرت عيناه على مقعده خلف الباب، مشى إليه بخطوات ثقيلة وحمله بين يديه وعاد، وضعه بجواري وجلس عليه ومازال في وجهه انزعاج وحيرة. قال كمن يُحدث نفسه:
- شيء يجنن، الآن رأيت حضرتك في التليفزيون ميت، والرئيس.. الرئيس بنفسه كان في الجنازة.
قلت:
- أنا ؟!
قال:
- نعم.. والدليل أن حضرتك رسام، هل أنت لمؤاخذه تعمل رسامًا ؟
كدتُ أقول لا أعرف، ولكنه لم يمهلني، قال وهو يبتسم:
- غريبة !
وأعطاني سيجارة، أشعلتها، وواصل:
- أول ما رأيت الجنازة قلت الله يرحمني، أصلك لمؤاخذه في عهدتي.
وأشعل سيجارته ثم قال:
- ولكن الذي يحيرني، كيف الرئيس يبكي عليك بحرقة وهناك أناس تقول أنه لمؤاخذة يكره حضرتك جدًا !
كان الدخان بيننا كثيفاً، فبدت ملامحه مشوهة، قال وهو يقف:
- وأنا لمَ مندهش ؟
وضحك، ولكنه قطع ضحكته فجأة ومد لي يده بورقة صغيرة قُصّت من جريدة وقال:
- سأنصرف كي ألحق الوصول إلى منزلي قبل الكسوف.
واتجه نحو الباب، بينما كنت لا أريده أن يذهب.
عند الباب توقف، نظر مبتسمًا، ثم ذهب دون أن يُغلق الباب.
ألقيت السيجارة من النافذة ورحت اقرأ: " أعلنت هيئة الأرصاد أن مدينتنا ستشاهد اليوم، بدءًا من الثانية بعد الظهر، كسوفًا للشمس، سيمتد إلى أربع وعشرين ساعة، وكما يتوقع الخبراء، ستتساقط الأمطار طوال فترة الكسوف، مما جعل الحكومة تُصدر بيانًا للأمة، تحثها فيه على شراء المؤن التي تفي باحتياجاتهم قبل وقت الكسوف، وتناشدهم بالتزام منازلهم، منعاً لأي ضرر، لأنه قد ينقطع التيار الكهربائي بسبب الأمطار." ألقيت بالورقة أيضًا من النافذة وأشعلت سيجارة، وبقيت أنظر إلى الباب المفتوح، الذي أغواني، فخرجت.. نزلت السلالم مُسرعًا، ورحت أتجول في شوارع خالية تمامًا، إلى أن هبط ظلامٌ خرافيّ غيّب معالم كل الأشياء فجأة.
توقفت مكاني مرعوبًا، لا أعرف أين أنا، ولا أعرف كيف أسلُك، وأكاد أختنق من تزايد دقات قلبي.
هل سأموت الآن ؟!
تساءلت، فحلَّ هدوء وراحة، خطر لي أن أضحك بصوت عالٍ، فكرت أن أغني، إبتسمت، وفردت ذراعيّ أتحسس بهما الفراغ الأسود حولي، وبخطىً حذرة وصلتُ إلى جدار.. جلستُ ملتصقًا به وأنا بي بهجة فريدة.
بعد وقت لا أعرف مداه، لسعني صوت بكاءٍ مكتوم، وقفت أترصد المصدر.. كان عن يميني، استندتُ على الجدار ومشيتُ بطيئًا إلى أن أوقفني الصوت:
- من ؟!
قلتُ:
- ضائع في الظلام.
وشرعتُ في الجلوس، لكن دفعتني يد لينة فوقعتُ، وارتطمت رأسي بالأرض، صحتُ متألمًا، فامتدت اليد اللينة تمسكني ملهوفة:
- أسفة.
قالت، وعاونتني لأعتدل، وبمجرد استقراري جالسًا، راحت تتحسس وجهي وهي تكرر:
- أسفة.
دفعتُ يدها برفق فجلست ملتصقة بي.
الألم.. ألم رأسي، وشيء ما في صوتها، وهذا الظلام جعلوني مشوَّشًا، كانت قد قالت شيئًا لم أتبّينه وصمتتْ ثم قالت:
- نعم كان في العيون خوف!
التفتُ اتجاهها كمن يستطيع أن يرى وقلت:
- ماذا ؟
قالت:
- كنتُ في القطار الذي يمر بمدينتكم، في طريقي إلى الجنوب، وما إن توَّقف هنا رأيتُ في عيون النّاس شيئاً هزّني.. نزلتُ كمنومة ومشيتُ في شوارع مزدحمة بأُناس مزعورة، متعجلة، تحمل على ما يبدو أطعمه، أكثر من العادي غالباً، الكل.. كبير وصغير، يحملون ما يثقل خطاهم المتعاثرة، فمشيتُ مأخودة، قلبي يكاد ينخلع، خاصةً عندما خلت الشوارع تمامًا من الناس، وكأنما قد ابتلعتهم الأرض فجأة، وبعد ذلك أُصبتُ بالعمى.
كان في صوتها نحيب يصارعه غضب أو رفض، اختفيا وحل حزن يائس، فبقيت صامتًا ولم أخبرها بموضوع الكسوف، إلى أن قالت:
- أكيد أنا في كابوس!!.
قلت:
- ربما.
وأضفتُ:
- وربما هو ليلٌ مختلف، سيأتي بعده نهارٌ سيجعلنا نرى أنفسنا والحياة على نحو جديد.
انذهلتُ مما قلتُ وكدتُ أُعلن لها ذلك، إنما سمعتها تتنهد قبل أن تقول:
- كنتُ أُريد دائماً أن أزور أماكن جديدة، أن أرى وجوهًا جديدة.. الآن أحن، في لوعة، إلى كل ما رأيتُ وعشتُ، أحنُ إلي كل شيء...
مَسني انفعالها فوجدتني أقول:
- أما أنا فعشت في وهم كبير، أحلام لا تحتمل.. تُجهض من دبيب الموت المُعربد في أعماقي، والذي يرقص في إغراء يملكني، وأنا أقاوم.. أقاوم ببعض حياة.
موت راقص !
هل تتخيلين هذا ؟!
سألتها وأنا اضحك، فعاودني ألم رأسي، وضعت يدي وقلت:
- أنا أنزف.
وكان الدم على أصابعي دافئًا.
ياسر جمعة
ياسر جمعة ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit ياسر جمعة und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die Welt...
www.facebook.com