كان ينتظر أحد أصدقائه في الممر الطويل، حين بزغ وجهها البيضوي المختوم بشامة سوداء أسفل الخد.. ثمة طين خفيف يغطي أناملها، ويلطخ ببقع صغيرة ثوبها الأسود..
بعد ساعات..
في الطريق الى بغداد.. لم يجرؤ على مسح الطين المتراكم فوق نافذة الحافلة؛ كان يخشى ضياع رائحته وتلاشي ملامح اكتشافه الجديد الذي أطَّر حياته بخطِّ بيضوي وترك بين كفيه شامة سوداء يخشى أن تسقط منه فينكسر التاريخ العريق للون الأسود..
لكنه لم يزل يفكر في طريقة للانتقال من مربع الشطرنج الأسود في رقعة حياته.. لم يزل ينتظر فتح أبواب إجابتها البيضاء.. ليقفز..
في الطريق الى بوابة بغداد.. رافقه صوت صديقه الرسام، حين قال له ذات مرة:
((في وحل الخنادق لاأحد يسأل بنقاءٍ عن عمر الزَّمن أو عن الأكلة المفضلة!.. كان أبو لونير الشاعر الفرنسي يتجول في الخنادق حين التقيت به في قصيدة، سألته عن أكلته المفضلة فأشار بدمعتين نحيلتين الى الورق..))
منذ ذلك الحين تعلم صديقه الرسام التهام الورق، فلم يبق في بيته سوى دفتر التجنيد !
بعد نصف ساعة..
خرج من بغداد باعجوبة مسرعاً نحو حافلة عابرة..
في الطريق الى الموصل.. استغرق في حلم طويل تبدّد باطلاقات نارية اخترقت نافذة الحافلة لتستقر في جناح غراب عابر في ذلك الصباح البارد داخل فضاء الحافلة المكتظَّة بوجوه متعبة..ذابلة..
حاول أن يراها ثانيةً.. أن يشرح لها وللعالم العلاقة بين طين السيراميك وطين الآثار السومرية.. حاول أن يقرب لها وجهة نظره في ملحمة كلكامش.. وسيرة عنترة بن شداد.. ورواية (الحب في زمن الكوليرا).. لكنه لم يستطع .. فقد كان ظل المدير يرتسم بشكل مرعب وراء الباب في مشغلها الفني..
مرةً.. وعبر الهاتف أجاب عن سؤالها قائلاً: الفرق بين الحب والحرب.. أن الحب نورس والحرب غراب شارد، فابتسمت.. وكانت تضع في حقيبتها رملاً ساحلياً وحفنة من العشب..
أدرك أنها لم تقتنع بالإجابة.. فاسترسل قائلاً: لكن قد تختلط الطيور والألوان في أثناء العواصف،، لم يكن يتوقع أن يحفر هذا الاسترسال قلقاً في عينيها.. فغابت وسط العشب، راكضة تذر الرمل هنا وهناك فوق العشب المحترق..
ابتسم لانتصاره لأول مرة في حرب ضد امرأة يحبها، وواصل لعب الشطرنج مع ذراع صديقه الرسام الشهيد التي تتشبث بقضبان ذاكرته المبجَّلة منذ سنوات..
عملها يتصدر قائمة الاهتمامات في سجل انوثتها المعلقة على مشجب الزمن، لم تكن تسمح له بأكثر من دقيقتين كي يمرر حواراً اليها.. تدرك خلوَّه من العفوية.. ويدرك هو الآخر أن لافرصة للاقتراب من حافات انوثتها سوى هذه الحوارات المصطنعة..
هي.. تخشى الحوار معه.. لأن صوته الدافئ يوقظ طفلة محبوسة في اعماقها، ويوقف دوي الآلة التي تقمصت روحها منذ أول حرب خطفت والدها.. وأصابع أخيها.. ومشط ضفيرتيها اللتين كانتا مثل نهرين.. ممتدين الى مالانهاية..
بعد أسابيع..
طرقت باب مشغلها، نهش الانتظار من أصابعي اربع دقائق، قبل أن تنبعث رائحة الطين لحظة فتح الباب.. أخذت أصابعها تفتح صدري تنتزع من قضبان قفصه مادة حمراء.. وتضع وسط القفص غراباً فاراً من احدى لوحات علاء بشير، ثم تختتم هذا العمل الفني باعتذار سريع توقعه بخدش عميق في اسفل وجهي رسمه صمتها الذي تجلى لي أبدياً.. لاسيما بعد أن أغلقت الباب.. وتركتني.. في مربع قاتم من السواد..
أصبح الغراب يهتز في صدري مع كل خطوة في طريق العودة، حتى امتزج لونه الأسود بما تبقى من رذاذ المادة الحمراء. في حديقة الشهداء جلست مكوراً فوق هضبة بيضوية خضراء صغيرة، فاجتمعت حولي العصافير بوصفي التمثال الجديد!
اقتنعت بهذا العمل الجديد لمدة يومين، قبل أن اقتل العصافير كلها من دون قصد برذاذ من ذلك الخليط العجيب الذي امتلأ به جوفي حين سعلت بشدة..
لمحتها تمر خلف الشجرة.. كانت أصابعها تدفع العصافير نحوي واحداً تلو الآخر..
ياه ما أشد قسوة أصابعها..
بعد عام.. كان المدير بمعطفه الأسود الطويل يتجول في اروقة المكان بعد انتهاء الدوام حين غابت الشمس على عجل فمر على مشغلها ولمح وردة بيضاء تنمو في عتمة خاصرة منضدتها البيضوية، فمد يده وقطف الوردة بعنف.. ثم مدَّ يده الأخرى فقطف من الخنادق ذراعين مع بندقية..
بعد أشهر.. طرقت باب المشغل أكثر من مرة.. لكن من دون إجابة..
مددت يدي نحو قبضة الباب فانفتح.. انها المرة الأولى التي اخترق فيها حدود هذه المملكة الغامضة من دون استئذان.. ثمة صمت كئيب كان يستولي على نبض كل مافيها..
كانت هناك منضدة بيضوية كبيرة تجثو على سطحها قطعة كبيرة من الزجاج المغطَّى بطبقة خفيفة من الغبار، قطع من الفخار موزعة بشكل فوضوي..
ثمة قطعة من النحت جذبت انتباهي أكثر من غيرها.. تمثل جسداً نحيلاً جداً لإمرأة تمد ذراعيها نحو الأعلى.. رفعتها بيدي ووضعتها فوق المنضدة وجلست أمامها كأنني استعد لحوار مهم معها.. في تلك اللحظة تذكرت جياكوميتي النحات الايطالي، فسألته عن السبب الذي دفعها لنحت هذا الشكل الانثوي الى هذا الحد المبالغ فيه من النحول؟ وما العلاقة بين هذا الجسد النحيل وحركة رفع اليدين نحو الأعلى؟ هل يعني ذلك الاستسلام؟ أم الاحتجاج؟ أتريد المرأة أن تصرخ بجسدها بدلاً من صوتها؟ أتصرخ حقاً؟ ولماذا؟
ظلت ذاكرتي لدقائق تستقبل مطراً من الأسئلة مما أزعج الغراب، ففرَّ نحو زاوية اسفل المنضدة، وتوقف المطر وغادر جياكوميتي حين تجلى الصوت المميز لخطواتها القادمة. العجيب في الأمر أنها لم تتفاجأ باقتحامي لعالمها كما يفترض أن تفعل ذلك المرأة عادة أمام أي متطفل.. لاسيما حين يكون عاشقاً، جلست أمامي.. واتجهت بنظراتها نحو المنضدة.. أحاطت التمثال بأصابعها البيضاء.. ((تذكرت أصابع صديقي الساخنة التي تركها في الخندق تحتضن حفنة من التراب الأحمر))
لم أجرؤ على المبادرة بالكلام.. وكذلك هي..
نهضت وانحنيت قليلاً فوق المنضدة.. رسمت بأصابعي فوق الزجاج عصفوراً يفرد جناحيه في فضاء من الغبار ثم خرجت مسرعاً..
بعد اعوامٍ.. رأيت خيطاً نحيلاً من السواد ينمو ثم يتفرع في الفضاء الى خيطين آخرين نحيلين ينطلقان نحو الأعلى مصحوبين بصراخ شديد وعويل أمام منزل مهدم.. فكل ماتبقى بعد القصف امرأة على اعتاب الأربعين تجثو على الأرض وترفع ذراعيها نحو السماء.. وثمة عصفور يبحث في الرماد بقربها عما تبقى من قشى وأصابع..
وبعد..
رأيت خيطين كبيرين من الدخان الأسود يرتفعان من الأرض
ورأيت الأرض تتشبث بالعصافير.. تتوسل بها أن لاتتركها وحيدةً..
وأخيراً حملت العصافير الأرض بمناقيرها وطارت بها نحو الأعلى.. كنا نختض مع كل برق.. ورعد وشظية.. لكننا لم نسقط أبداً.. بقينا في داخلها.. حبسنا دموعنا كي لانثقل جسد الأرض، تشبثنا بنخيلها كي لاتتصادم في لحظات الطيران ولحظات مرور العواصف..
حين هدأت العاصفة الأخيرة.. أعادت العصافير الأرض الى مكانها. بحثت عنك بين أشجار النخيل المرهقة.. وبين أنقاض المشغل.. لم أجدك، ووجدت تمثالاً متفحماً لامرأة من دون ذراعين..
بعد ساعات..
في الطريق الى بغداد.. لم يجرؤ على مسح الطين المتراكم فوق نافذة الحافلة؛ كان يخشى ضياع رائحته وتلاشي ملامح اكتشافه الجديد الذي أطَّر حياته بخطِّ بيضوي وترك بين كفيه شامة سوداء يخشى أن تسقط منه فينكسر التاريخ العريق للون الأسود..
لكنه لم يزل يفكر في طريقة للانتقال من مربع الشطرنج الأسود في رقعة حياته.. لم يزل ينتظر فتح أبواب إجابتها البيضاء.. ليقفز..
في الطريق الى بوابة بغداد.. رافقه صوت صديقه الرسام، حين قال له ذات مرة:
((في وحل الخنادق لاأحد يسأل بنقاءٍ عن عمر الزَّمن أو عن الأكلة المفضلة!.. كان أبو لونير الشاعر الفرنسي يتجول في الخنادق حين التقيت به في قصيدة، سألته عن أكلته المفضلة فأشار بدمعتين نحيلتين الى الورق..))
منذ ذلك الحين تعلم صديقه الرسام التهام الورق، فلم يبق في بيته سوى دفتر التجنيد !
بعد نصف ساعة..
خرج من بغداد باعجوبة مسرعاً نحو حافلة عابرة..
في الطريق الى الموصل.. استغرق في حلم طويل تبدّد باطلاقات نارية اخترقت نافذة الحافلة لتستقر في جناح غراب عابر في ذلك الصباح البارد داخل فضاء الحافلة المكتظَّة بوجوه متعبة..ذابلة..
حاول أن يراها ثانيةً.. أن يشرح لها وللعالم العلاقة بين طين السيراميك وطين الآثار السومرية.. حاول أن يقرب لها وجهة نظره في ملحمة كلكامش.. وسيرة عنترة بن شداد.. ورواية (الحب في زمن الكوليرا).. لكنه لم يستطع .. فقد كان ظل المدير يرتسم بشكل مرعب وراء الباب في مشغلها الفني..
مرةً.. وعبر الهاتف أجاب عن سؤالها قائلاً: الفرق بين الحب والحرب.. أن الحب نورس والحرب غراب شارد، فابتسمت.. وكانت تضع في حقيبتها رملاً ساحلياً وحفنة من العشب..
أدرك أنها لم تقتنع بالإجابة.. فاسترسل قائلاً: لكن قد تختلط الطيور والألوان في أثناء العواصف،، لم يكن يتوقع أن يحفر هذا الاسترسال قلقاً في عينيها.. فغابت وسط العشب، راكضة تذر الرمل هنا وهناك فوق العشب المحترق..
ابتسم لانتصاره لأول مرة في حرب ضد امرأة يحبها، وواصل لعب الشطرنج مع ذراع صديقه الرسام الشهيد التي تتشبث بقضبان ذاكرته المبجَّلة منذ سنوات..
عملها يتصدر قائمة الاهتمامات في سجل انوثتها المعلقة على مشجب الزمن، لم تكن تسمح له بأكثر من دقيقتين كي يمرر حواراً اليها.. تدرك خلوَّه من العفوية.. ويدرك هو الآخر أن لافرصة للاقتراب من حافات انوثتها سوى هذه الحوارات المصطنعة..
هي.. تخشى الحوار معه.. لأن صوته الدافئ يوقظ طفلة محبوسة في اعماقها، ويوقف دوي الآلة التي تقمصت روحها منذ أول حرب خطفت والدها.. وأصابع أخيها.. ومشط ضفيرتيها اللتين كانتا مثل نهرين.. ممتدين الى مالانهاية..
بعد أسابيع..
طرقت باب مشغلها، نهش الانتظار من أصابعي اربع دقائق، قبل أن تنبعث رائحة الطين لحظة فتح الباب.. أخذت أصابعها تفتح صدري تنتزع من قضبان قفصه مادة حمراء.. وتضع وسط القفص غراباً فاراً من احدى لوحات علاء بشير، ثم تختتم هذا العمل الفني باعتذار سريع توقعه بخدش عميق في اسفل وجهي رسمه صمتها الذي تجلى لي أبدياً.. لاسيما بعد أن أغلقت الباب.. وتركتني.. في مربع قاتم من السواد..
أصبح الغراب يهتز في صدري مع كل خطوة في طريق العودة، حتى امتزج لونه الأسود بما تبقى من رذاذ المادة الحمراء. في حديقة الشهداء جلست مكوراً فوق هضبة بيضوية خضراء صغيرة، فاجتمعت حولي العصافير بوصفي التمثال الجديد!
اقتنعت بهذا العمل الجديد لمدة يومين، قبل أن اقتل العصافير كلها من دون قصد برذاذ من ذلك الخليط العجيب الذي امتلأ به جوفي حين سعلت بشدة..
لمحتها تمر خلف الشجرة.. كانت أصابعها تدفع العصافير نحوي واحداً تلو الآخر..
ياه ما أشد قسوة أصابعها..
بعد عام.. كان المدير بمعطفه الأسود الطويل يتجول في اروقة المكان بعد انتهاء الدوام حين غابت الشمس على عجل فمر على مشغلها ولمح وردة بيضاء تنمو في عتمة خاصرة منضدتها البيضوية، فمد يده وقطف الوردة بعنف.. ثم مدَّ يده الأخرى فقطف من الخنادق ذراعين مع بندقية..
بعد أشهر.. طرقت باب المشغل أكثر من مرة.. لكن من دون إجابة..
مددت يدي نحو قبضة الباب فانفتح.. انها المرة الأولى التي اخترق فيها حدود هذه المملكة الغامضة من دون استئذان.. ثمة صمت كئيب كان يستولي على نبض كل مافيها..
كانت هناك منضدة بيضوية كبيرة تجثو على سطحها قطعة كبيرة من الزجاج المغطَّى بطبقة خفيفة من الغبار، قطع من الفخار موزعة بشكل فوضوي..
ثمة قطعة من النحت جذبت انتباهي أكثر من غيرها.. تمثل جسداً نحيلاً جداً لإمرأة تمد ذراعيها نحو الأعلى.. رفعتها بيدي ووضعتها فوق المنضدة وجلست أمامها كأنني استعد لحوار مهم معها.. في تلك اللحظة تذكرت جياكوميتي النحات الايطالي، فسألته عن السبب الذي دفعها لنحت هذا الشكل الانثوي الى هذا الحد المبالغ فيه من النحول؟ وما العلاقة بين هذا الجسد النحيل وحركة رفع اليدين نحو الأعلى؟ هل يعني ذلك الاستسلام؟ أم الاحتجاج؟ أتريد المرأة أن تصرخ بجسدها بدلاً من صوتها؟ أتصرخ حقاً؟ ولماذا؟
ظلت ذاكرتي لدقائق تستقبل مطراً من الأسئلة مما أزعج الغراب، ففرَّ نحو زاوية اسفل المنضدة، وتوقف المطر وغادر جياكوميتي حين تجلى الصوت المميز لخطواتها القادمة. العجيب في الأمر أنها لم تتفاجأ باقتحامي لعالمها كما يفترض أن تفعل ذلك المرأة عادة أمام أي متطفل.. لاسيما حين يكون عاشقاً، جلست أمامي.. واتجهت بنظراتها نحو المنضدة.. أحاطت التمثال بأصابعها البيضاء.. ((تذكرت أصابع صديقي الساخنة التي تركها في الخندق تحتضن حفنة من التراب الأحمر))
لم أجرؤ على المبادرة بالكلام.. وكذلك هي..
نهضت وانحنيت قليلاً فوق المنضدة.. رسمت بأصابعي فوق الزجاج عصفوراً يفرد جناحيه في فضاء من الغبار ثم خرجت مسرعاً..
بعد اعوامٍ.. رأيت خيطاً نحيلاً من السواد ينمو ثم يتفرع في الفضاء الى خيطين آخرين نحيلين ينطلقان نحو الأعلى مصحوبين بصراخ شديد وعويل أمام منزل مهدم.. فكل ماتبقى بعد القصف امرأة على اعتاب الأربعين تجثو على الأرض وترفع ذراعيها نحو السماء.. وثمة عصفور يبحث في الرماد بقربها عما تبقى من قشى وأصابع..
وبعد..
رأيت خيطين كبيرين من الدخان الأسود يرتفعان من الأرض
ورأيت الأرض تتشبث بالعصافير.. تتوسل بها أن لاتتركها وحيدةً..
وأخيراً حملت العصافير الأرض بمناقيرها وطارت بها نحو الأعلى.. كنا نختض مع كل برق.. ورعد وشظية.. لكننا لم نسقط أبداً.. بقينا في داخلها.. حبسنا دموعنا كي لانثقل جسد الأرض، تشبثنا بنخيلها كي لاتتصادم في لحظات الطيران ولحظات مرور العواصف..
حين هدأت العاصفة الأخيرة.. أعادت العصافير الأرض الى مكانها. بحثت عنك بين أشجار النخيل المرهقة.. وبين أنقاض المشغل.. لم أجدك، ووجدت تمثالاً متفحماً لامرأة من دون ذراعين..