يكسب نصف جولة و ينجح في اجتياز الإمتحان الكتابي في انتظار أن يخسر الجولة بكاملها.
في كل السباقات التي خاضها، كان دائما ذلك المتسابق الدؤوب. لكنه بعد أن يقطع عشرات الأميال، كان يفاجأ دوما بأن الإشارات مصرة على مغالطته. كل الشواهد التي نالها وجدها لا تصلح سوى لتغطية الثقوب و التصدعات التي تشكو منها جدران غرفته. لكن هاهو الآن ربما يجمل التأشيرة التي ستسمح له بمغادرة الحلقة المفرغة التي ظل أسيرها.
دفتر من فئة أربعة و عشرين صفحة ضمت سيرا لأهم رواد الأدب الفرنسي. و أفكارا عامة عن أهم مميزات بعض المدارس الأدبية. لم يكن يعرف ما سيفعله لولا مساعدة ذلك الأستاذ. فخبرته العلمية بدت بلا جدوى و لا نفع.
حل يوم الإمتحان. دخل القاعة. حاول أن يعطي انطباعا إيجابيا عنه من خلال مظهره. لم يجلس إلا حين طلب منه ذلك. تطلع إليه الممتحن ثم سأله بلغة فرنسية رشيقة : هيا عرفنا بنفسك.
حاول أن يكسب صوته طابع الثقة و الإتزان ثم أجاب : الفقير عبد الغني من مواليد بني وليد 1970
صمت الممتحن مدة ثم قال : أهذا كل شيء ؟ ... بالمناسبة لماذا لا يذكر جل المغاربة يوم مولدهم و يكتفون فقط بذكر السنة ؟
لم يتوقع عبد الغني سؤالا كهذا، ووجد نفسه بعيدا عن دفتره السحري فرد متلعثما : أعتقد أن المرء حين يكتشف أن حياته لا قيمة لها، ماذا يجديه أنذاك ذكر تاريخ بدايتها ؟ بل ماذا سيضيف هذا أو ينقص ؟
ــ لكن هذا أمر غريب بالنسبة لنا. فهذا اليوم مهم بالنسبة لحد أننا نخصص له عيدا كل سنة.
ــ ربما يرجع ذلك إلى موقف المجتمع من الإنسان كقيمة.
ــ طيب، دعنا من هذا الآن، هل تقرأ الكتب ؟
أحس عبد الغني بالفرحة وهو يشعر أنه صار قريبا من صفحات الدفتر الذي يحفظه عن ظهر قلب و أجاب : بغزارة يا أستاذ.
ــ حين تكون في مكتبة ما، ما الذي يجعلك تختار كتابا دون آخر؟
أحس عبد الغني أن الممتحن قد نحا بعيدا عن الدفتر. فكر لحظة ثم قال : أشياء كثيرة ليس أقلها أن أحس و أنا أقرأ الكتاب أني أحلق في فضاءات حرة لا أحتاج فيها إلى جواز سفر أو تأشيرة .
ــ وما هي أقاصي تلك الحدود ؟
فكر عبد الغني لحظة ثم أجاب مستفسرا الممتحن : هل قرأت قصة عنزة السيد "سوغان" ؟
رد الممتحن بحماس واضح : جميل ...ا أظن أن كل من مر بالمدرسة في الستينيات أو ما بعدها لا بد أن يكون قد قرأ هذه القصة الرائعة. لكن لماذا ؟
ــ أتذكر حين فرت العنزة إلى الجبل و أطلت منه على بيت السيد سوغان ؟
ــ نعم. لقد بدا لها بيت السيد سوغان صغيرا جدا لحد أنها بدأت تتساءل كيف كانت تدخله.
ــ هل تعتقد أن العنزة كانت مخطئة فيما ذهبت إليه ؟
ــ وهل في ذلك شك ؟
ــ ما رأيك إن أكدت لك العكس ؟
ــ هذا غير ممكن ...أ
ــ طيب. العنزة كانت في بيت السيد سوغان مربوطة بحبل. وحين كانت تتحرك فهي كانت ترسم دائرة. كم قطر هذه الدائرة يا ترى؟ عشرون مترا؟ أربعون ؟ خمسون مترا ؟ الآن وهي في الجبل قد صارت حرة. ومعنى ذلك أن المعمور بامتداده هو ملك لها، إذن إن قارنا فضاءها الجديد مع ذلك الذي كانت تتحرك فيه، ألن يبدو الأخير أصغر مما بدا لها ؟
ــ آه ...ا من هذه الناحية فتحليلك أجده منطقيا. لكن ما علاقة هذا بما كنا نتحدث عنه من قبل ؟.
ــ أنا أريد أن أقول أني عشت مسارا معاكسا لذلك الذي سارت فيه العنزة. فهي انتقلت من فضاء ضيق إلى فضاء واسع، وأنا انتقلت من فضاء واسع إلى فضاء ضيق.
صمت الممتحن مدة ثم قال : صراحة أنا لم أفهم قصدك.
ــ حين كنت و أقراني على المقاعد في المدرسة، كنا نعتقد أن مسؤوليات جساما تنتظرنا في المستقبل، و أننا مطالبون برفع شأن هذا الوطن من خلال تطوير الإقتصاد، و رفع مستوى التعليم وغير ذلك. لكن بعد تخرجنا ضاق ذلك الأفق و ضاق، وتركز كل تفكيرنا حول نقطة بسيطة ما كان يجب أن تكون هي المشكل الذي يجب أن نعاني منه.
ــ هل لي أن اعرف هذه النقطة ؟
ــ إيجاد مصدر للعيش. وهكذا إن كنت أنت مختارا حين فضلت القدوم إلى هنا من أجل امتحاننا و كان أمامك خيارات أخرى غير هذه، فأنا لم يكن أمامي أي خيار آخر.
تأمل الممتحن وجه عبد الغني في صمت، ثم قال مستفسرا : هل يضايقك وجودي هنا ؟
ارتبك عبد الغني قليلا ثم قال : لا ... ليس كليا .
ــ ما الأمر إذن ؟
ــ حين كنت صغيرا لم أعرف ماذا كان يعجبني في الأجانب أمثالك. شكلهم؟ احترامهم لبعضهم ؟ فلسفتهم في الحياة ؟ التزامهم وجديتهم ؟ ... تصور أني كنت أتمنى لو كنت منهم .
قال الممتحن بانشراح واضح : ولما كبرت ؟
اختلط علي الأمر. ففي الوقت الذي لا زلت أقدر فيهم بعض الأشياء، صرت أدرك أنهم مساهمون بقسط وافر فيما نعيشه الأن -
ــ وهل لا زلت تتمنى أن تكون واحدا منهم ؟
قال عبد الغني بتلقائية : لا ... لقد تغيرت الأمنية.
ــ ماذا صارت ؟
ــ أن أجلس أنا حيث تجلس أنت، و أن تجلس أنت حيث أجلس أنا. وعوض أن تسألني عن ألبير كامي و إميل زولا، أسالك عن بن خلدون أو سيدي قدور العلمي أومحمد الحلوي . ألست الآن في بيتي ؟
امتقع وجه الممتحن فجأة، ونظر إلى عبد الغني و كأنه لا يصدق ما يسمعه. أزاح نظارته عن عينيه وقال بازدراء واضح : أمؤهل أنت لبلوغ هذا ؟
أحس عبد الغني أن الأمر قد نحا به بعيدا. ومتأخرا حاول أن يستدرك الأمر فقال : عذرا أستاذ . أنا لم أقصد الإساءة إليك. على العكس من ذلك أنا كنت فرحا جدا حين علمت أنك أنت من سيشرف على الإمتحان، لأنك قادم من بلاد الآفاق الواسعة و الأفكار الحرة.
قاطعه الممتحن بلهجة صارمة : أسمعت سؤالي ؟ هل أنت مؤهل لامتحاني ؟
أحس عبد الغني أن النتيجة قد حسمت، و أن كبرياءه في الميزان فقال : طيب. ألم تقل في البدء أن العنزة كانت على خطأ ؟
ــ بلى
ــ ألم توافقني في الأخير على أنها كانت على صواب ؟
ــ بلى
ــ من الذي جعلك تغير رأيك ؟
رد الممتحن بتعال : أنا لم أغير رأيي، أنا فقط وافقت أن أنظر للأمر من الزاوية التي نظرت أنت منها. وفي مسائل من هذا النوع، يجب أن تعرف أننا لا نكون مضطرين لاستعمال مقياس موحد.
وقف عبد الغني و قال بأسى :أما في هذا فقد صدقت. فعلا أنتم لا تقيسون الأشياء بمقياس موحد . ولطالما تمنينا أن تقيسونا ولو مرة واحدة بالمقياس الذي تقيسون به أنفسكم.
في كل السباقات التي خاضها، كان دائما ذلك المتسابق الدؤوب. لكنه بعد أن يقطع عشرات الأميال، كان يفاجأ دوما بأن الإشارات مصرة على مغالطته. كل الشواهد التي نالها وجدها لا تصلح سوى لتغطية الثقوب و التصدعات التي تشكو منها جدران غرفته. لكن هاهو الآن ربما يجمل التأشيرة التي ستسمح له بمغادرة الحلقة المفرغة التي ظل أسيرها.
دفتر من فئة أربعة و عشرين صفحة ضمت سيرا لأهم رواد الأدب الفرنسي. و أفكارا عامة عن أهم مميزات بعض المدارس الأدبية. لم يكن يعرف ما سيفعله لولا مساعدة ذلك الأستاذ. فخبرته العلمية بدت بلا جدوى و لا نفع.
حل يوم الإمتحان. دخل القاعة. حاول أن يعطي انطباعا إيجابيا عنه من خلال مظهره. لم يجلس إلا حين طلب منه ذلك. تطلع إليه الممتحن ثم سأله بلغة فرنسية رشيقة : هيا عرفنا بنفسك.
حاول أن يكسب صوته طابع الثقة و الإتزان ثم أجاب : الفقير عبد الغني من مواليد بني وليد 1970
صمت الممتحن مدة ثم قال : أهذا كل شيء ؟ ... بالمناسبة لماذا لا يذكر جل المغاربة يوم مولدهم و يكتفون فقط بذكر السنة ؟
لم يتوقع عبد الغني سؤالا كهذا، ووجد نفسه بعيدا عن دفتره السحري فرد متلعثما : أعتقد أن المرء حين يكتشف أن حياته لا قيمة لها، ماذا يجديه أنذاك ذكر تاريخ بدايتها ؟ بل ماذا سيضيف هذا أو ينقص ؟
ــ لكن هذا أمر غريب بالنسبة لنا. فهذا اليوم مهم بالنسبة لحد أننا نخصص له عيدا كل سنة.
ــ ربما يرجع ذلك إلى موقف المجتمع من الإنسان كقيمة.
ــ طيب، دعنا من هذا الآن، هل تقرأ الكتب ؟
أحس عبد الغني بالفرحة وهو يشعر أنه صار قريبا من صفحات الدفتر الذي يحفظه عن ظهر قلب و أجاب : بغزارة يا أستاذ.
ــ حين تكون في مكتبة ما، ما الذي يجعلك تختار كتابا دون آخر؟
أحس عبد الغني أن الممتحن قد نحا بعيدا عن الدفتر. فكر لحظة ثم قال : أشياء كثيرة ليس أقلها أن أحس و أنا أقرأ الكتاب أني أحلق في فضاءات حرة لا أحتاج فيها إلى جواز سفر أو تأشيرة .
ــ وما هي أقاصي تلك الحدود ؟
فكر عبد الغني لحظة ثم أجاب مستفسرا الممتحن : هل قرأت قصة عنزة السيد "سوغان" ؟
رد الممتحن بحماس واضح : جميل ...ا أظن أن كل من مر بالمدرسة في الستينيات أو ما بعدها لا بد أن يكون قد قرأ هذه القصة الرائعة. لكن لماذا ؟
ــ أتذكر حين فرت العنزة إلى الجبل و أطلت منه على بيت السيد سوغان ؟
ــ نعم. لقد بدا لها بيت السيد سوغان صغيرا جدا لحد أنها بدأت تتساءل كيف كانت تدخله.
ــ هل تعتقد أن العنزة كانت مخطئة فيما ذهبت إليه ؟
ــ وهل في ذلك شك ؟
ــ ما رأيك إن أكدت لك العكس ؟
ــ هذا غير ممكن ...أ
ــ طيب. العنزة كانت في بيت السيد سوغان مربوطة بحبل. وحين كانت تتحرك فهي كانت ترسم دائرة. كم قطر هذه الدائرة يا ترى؟ عشرون مترا؟ أربعون ؟ خمسون مترا ؟ الآن وهي في الجبل قد صارت حرة. ومعنى ذلك أن المعمور بامتداده هو ملك لها، إذن إن قارنا فضاءها الجديد مع ذلك الذي كانت تتحرك فيه، ألن يبدو الأخير أصغر مما بدا لها ؟
ــ آه ...ا من هذه الناحية فتحليلك أجده منطقيا. لكن ما علاقة هذا بما كنا نتحدث عنه من قبل ؟.
ــ أنا أريد أن أقول أني عشت مسارا معاكسا لذلك الذي سارت فيه العنزة. فهي انتقلت من فضاء ضيق إلى فضاء واسع، وأنا انتقلت من فضاء واسع إلى فضاء ضيق.
صمت الممتحن مدة ثم قال : صراحة أنا لم أفهم قصدك.
ــ حين كنت و أقراني على المقاعد في المدرسة، كنا نعتقد أن مسؤوليات جساما تنتظرنا في المستقبل، و أننا مطالبون برفع شأن هذا الوطن من خلال تطوير الإقتصاد، و رفع مستوى التعليم وغير ذلك. لكن بعد تخرجنا ضاق ذلك الأفق و ضاق، وتركز كل تفكيرنا حول نقطة بسيطة ما كان يجب أن تكون هي المشكل الذي يجب أن نعاني منه.
ــ هل لي أن اعرف هذه النقطة ؟
ــ إيجاد مصدر للعيش. وهكذا إن كنت أنت مختارا حين فضلت القدوم إلى هنا من أجل امتحاننا و كان أمامك خيارات أخرى غير هذه، فأنا لم يكن أمامي أي خيار آخر.
تأمل الممتحن وجه عبد الغني في صمت، ثم قال مستفسرا : هل يضايقك وجودي هنا ؟
ارتبك عبد الغني قليلا ثم قال : لا ... ليس كليا .
ــ ما الأمر إذن ؟
ــ حين كنت صغيرا لم أعرف ماذا كان يعجبني في الأجانب أمثالك. شكلهم؟ احترامهم لبعضهم ؟ فلسفتهم في الحياة ؟ التزامهم وجديتهم ؟ ... تصور أني كنت أتمنى لو كنت منهم .
قال الممتحن بانشراح واضح : ولما كبرت ؟
اختلط علي الأمر. ففي الوقت الذي لا زلت أقدر فيهم بعض الأشياء، صرت أدرك أنهم مساهمون بقسط وافر فيما نعيشه الأن -
ــ وهل لا زلت تتمنى أن تكون واحدا منهم ؟
قال عبد الغني بتلقائية : لا ... لقد تغيرت الأمنية.
ــ ماذا صارت ؟
ــ أن أجلس أنا حيث تجلس أنت، و أن تجلس أنت حيث أجلس أنا. وعوض أن تسألني عن ألبير كامي و إميل زولا، أسالك عن بن خلدون أو سيدي قدور العلمي أومحمد الحلوي . ألست الآن في بيتي ؟
امتقع وجه الممتحن فجأة، ونظر إلى عبد الغني و كأنه لا يصدق ما يسمعه. أزاح نظارته عن عينيه وقال بازدراء واضح : أمؤهل أنت لبلوغ هذا ؟
أحس عبد الغني أن الأمر قد نحا به بعيدا. ومتأخرا حاول أن يستدرك الأمر فقال : عذرا أستاذ . أنا لم أقصد الإساءة إليك. على العكس من ذلك أنا كنت فرحا جدا حين علمت أنك أنت من سيشرف على الإمتحان، لأنك قادم من بلاد الآفاق الواسعة و الأفكار الحرة.
قاطعه الممتحن بلهجة صارمة : أسمعت سؤالي ؟ هل أنت مؤهل لامتحاني ؟
أحس عبد الغني أن النتيجة قد حسمت، و أن كبرياءه في الميزان فقال : طيب. ألم تقل في البدء أن العنزة كانت على خطأ ؟
ــ بلى
ــ ألم توافقني في الأخير على أنها كانت على صواب ؟
ــ بلى
ــ من الذي جعلك تغير رأيك ؟
رد الممتحن بتعال : أنا لم أغير رأيي، أنا فقط وافقت أن أنظر للأمر من الزاوية التي نظرت أنت منها. وفي مسائل من هذا النوع، يجب أن تعرف أننا لا نكون مضطرين لاستعمال مقياس موحد.
وقف عبد الغني و قال بأسى :أما في هذا فقد صدقت. فعلا أنتم لا تقيسون الأشياء بمقياس موحد . ولطالما تمنينا أن تقيسونا ولو مرة واحدة بالمقياس الذي تقيسون به أنفسكم.