سعاد الجزائري - تشابُك

خارج عالمها الداخلي هدوء والكل لبس ثوب الصمت.. لأن النوم سيد الموقف الآن.. وفي غرفتها يصدح الخوف وصوت نجاة الصغيرة:
(أيظن اني لعبة بيديه
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئاً لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه)
يستفزها صوت نجاة وهي تغني بحشرجة وملامة، و تتساءل بضعف عاشق تتلاعب به حالة وجد وخطيئة ذنب لم يرتكب بعد، صوت داخلي يئن لأنه غارق بمرارته:
(كيف التجأت انا الى زنديه..
خبأت رأسي عنده ..
وكأنني طفل اعادوه الى أبويه)..
بين لحظة الرغبة والعشق القاتل، وهي بين زنديه، تستيقظ براءة الطفولة والخوف من الخطيئة، فتحتمي منه فيه، تخفي الرأس المذعور من خوفه عند منبع الذنب..عند صدره، في قلبه الذي عشق واخطأ وتاه عن درب العودة الى ما كان عليه. اختفى أي اثر لما كان قبل تلك اللحظة وامسك ببداية جديدة، لحظة التجأت الى زنديه..هنا بدأت الحياة وولد من جديد، طفل لا تاريخ له، انه حاضر يقظ وشيء ما سيأتي..
نسيت تماماً تلك اللحظة الفاصلة التي نقلتها من الموقع الذي امام عينه لتستكين بكلِّ وله وحبّ وخوف بين أضلاعه المرتجفة من خفقات قلبه..
اتصل بها هاتفياً وقال عندي أمر مهم وأريد أن اخبرك به.. تعودت أن تخفي أسرارها وأوجاعها عنده.. وبالمقابل ترك في دروب صمتها كل أسراره وهواجسه وشكوكه بزوجته التي لا يأتمن أبداً الى وفائها، ويعرف انها التجأت الى اكثر من زند.
حينما خبرها بالخيانات ارتعبت.. وهي التي لم تعرف الطعم الحلو والمر لفعل الخيانة.. شعرت انه اثقلها بحمل كبير، كيف تنصهر معاً في بؤرة روح الوفاء وسر الخطيئة؟ كيف تخفي صورة الخيانة في عينيها عن زوجته التي تستودعها أيضاً أسرار حياتهما، وتروي لها القصة تلو الأخرى عن معاشرته لصديقاتها وقريباتها. تروي خياناته بتلذذ ممزوج بوجعها الانثوي.. وكأنها تعيش معه لحظة معاشرة نسائه..
اين يكمن منبع الخيانة: في العقل، في القلب، أم في مناطق الغرائز..
(كيف التجأت أنا الى زنديه)...هي لحظة واحدة وفعل بسيط.. لكنه سينقل البراءة الى موقع ذنب لا يغتفر..
كرر عبارته بإلحاح عجيب وكأنه تحت تأثير تنويم مغناطيسي: (لا بد أن أراك بعد نصف ساعة..في الحديقة القريبة من بيتكم)..
لا تعرف التحايل ووجها أوّل فاضح لكذبها، ما الذي ستقوله لزوجها، الذي سألها قبل قليل إن كانت تريد اي شيء من السوق، فقد هن هندامه وغرق بعطره، لأنه سيغادر بعد قليل، عنده موعد عمل! تعرف جيداً أن موعده سيكون مع عشيقته التي أحبها منذ سنتين.. وتوله بها، ذاب وجداً وبدأ يفقد صبره في البعد عنها.. انتقل قلباً وجسداً الى ضفتها، وهو الذي يكرر قوله بأن العشيقة لا تطالبك بالكثير لكنها تقدم في صحنك الكثير..
كانا يلتقيان في شقة استأجرها خصيصاً ليختلي بها.. أو يسافران معاً تحت تسمية ايفاد رسمي!
اتجه كل منهما الى خطيئته، الزوج الى ضفة العاشقين..وهي الى الحديقة، التي كانت تسير باتجاهها لكن عقلها ووخز وفائها اتخذا اتجاهاً معاكساً، وخوفها سار وانتشر بكل الاتجاهات.. صدى الأغنية يرن في اذنها (كيف التجأت أنا الى زنديه..).
كان ينتظرها بسيارته، شاحب الوجه، وشفتاه ترتعشان.. مد يده ليفتح لها باب السيارة من الداخل، صعدت بسرعة، نسيت أن تحييه.. جلست على المقعد وشعرت وكأنها سقطت في هاوية مظلمة، ظلت تنظر الى الامام، الى الخط المستقيم، الذي سينحرف بعد قليل، لكن نظرات عينيه الساخنة، التي لامست وجهها، زادت من فعل الارتباك، فتضاعف الخوف والاحساس بالضعف. مدت يدها لتزيح خصلة شعرها، التي دخل طرفها في عينها اليسرى وسببت لها ألماً، وقبل أن تعيد كفها تلقفها بقوة وقال:
- لم اعد احتمل.. فأني ارتعد حباً..
سحبت يدها بسرعة وبدأت ترتجف.. اسقط الآن في فضائها المشتت سره.. سرهما.. صدى الاغنية يصرخ بداخلها:
- (خبأت رأسي عنده وكأنني طفل أعادوه الى أبويه).. اين ستخبىء هذا السر.. اين الطفل الخائف فيها.. هي لحظة ثم ستنقلب كل المعاني ضد بعضها..اما أن تفتح باب السيارة وترحل هاربة.. أو تدير وجهها نحوه وبعدها ستتيه عن درب عودتها، ستفقد والى الأبد ما كانت عليه، وقبل أن يقودها قدرها الى تلك الزاوية القصية التي اقتربت منها بسرعة ثم امتزجت بها.. غابت كل المساحات وتجمع كل العالم في تلك البقعة الصغيرة..
تريده وتخافه..عنده وجدت حباً وأماناً لم تجده قبل.. هو يرتعد حباً وهي ترتعد خوفاً.. وزوجها الآن بعد أن تعطر وتزيّن يرتعد في احضان عشقه.. منذ سنة ونصف لم تسمع منه كلمة أو حرفاً يعيد لها عاطفة غابت عنها وهجرتها.. منذ فترة وهو يغيب عن البيت فترات طويلة ليعود حاملاً ابتسامة غامضة ورائحة عطر نسائي وبقايا رغبات اشبعت تواً.
صمت طويل..صور تتقاطع لخيانة ترتكب في شقة ليست ببعيدة عنهما..وهي ترتعد خوفاً من حب يكاد يفيض عن جرفه فيحيل روحها الجرداء الى حقول مزهرة.
استدارت نحوه شعرت برجفة كأنها صعقة كهربائية..لم ترَ وجهاً احبها كما تراه الآن.. كان يرتعد حباً.. ودموع ساخنة امتلأت بها عيناه. بهذه اللحظة ادركت انها احبت وعرفت الخطيئة وارتعدت معه حباً..والمغنية مازالت تتساءل بحيرة: (كيف التجأت انا الى زنديه)؟ وفي داخلها يدور سؤال: هل تحمل الخيانة داخل متاهاتها وفاء بحالة ما؟



سعاد الجزائري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى