الغالي صالح - افتراق.. قصة قصيرة

رفيقان حميمان، منذ أن كانا يجيئان ويغادران المدرسة - التي كانت في الأصل معسكرا للجيش - الجاثمة هناك في التلة الموحشة، قرب المنزل ذي البناء الغريب، بدقة أكثر، مذ جاء أحدهما، ذلك الأسمر الممتليء الجسد .. الخجول، مما وراء غابة الأبنوس، ولجا دهمة .. جربا احتساء الخمر البلدي سويا .. خطيا في درب طويل تبين فيما بعد انه لا يؤدي إلي سماء طليقة .

كانا معا، في الأحوال كلها .. ذات يوم خرج الأول مثقوب القلب، موسوم بالبلاهة والحزن الثقيل، الثاني عاد بلا ذراعين، صخاب . معاد .. وبعينين حمراوين، لا تبصران .

في وسط السوق .. في إحدي ممراته المملوءة بالأنفاس، التقيا، لم يتعرض أحدهما علي الآخر !.. وقفا لبرهة متقابلين لم ينطقا حرفا، فقط، علت أنفاسهما فوق نداءات الباعة .. زفر كل في وجه الآخر .. بصق الأول علي الأرض تحته .. الثاني، سال من أنفه دم أزرق .. لم يقدر علي إيقافه، فاستدار مواليا ظهره للأصوات، وصاح بتضامن مع موجة الضجيج : » فليمسح أحدكم عني دمي أيها البلهاء «

ومضيا كل في اتجاه .

زمن الليمون المدلوق

الريح المجنونة، تصيح، تصرخ في وجه سماء مجروحة، تنشب أظافر نقمتها في أثداء نساء مقرورات - أيهتز فوح حجارة أرض مغبوتة؟

- يتأوه ظل الوهم المخبوء في نزف جراح مفتوحة ..

- بل قل، إن العالم جرح متقيح بالقبح، صدقني أيها الطائر أني لم أعد أزهر.. نضبت عروقي، عقمت .

- أن تتنفسي أوجاعك، ليس هذا بسبب قبح العالم .. فأنا مثلك، لم أعد أعرف إلي من أنتمي، صدقيني أنت أيتها الليمونة .. التي لم أتبينها أول مرة، اختلطت في أنفي رائحة زهر الليمون بالعطن المستبيح أحشاء الفضاءات .

- خانتني الذكريات .. وضللت الطريق إلي العدم، منذ أول صباح بارد .. وحجر رمادي، وعشيرة منخورة تنزف خبلا وانكساراً، ولم أقل مثلما قلت :

- ولكنك كـ ....

- ولكنك لــ ....

هكذا كانت محاورة الليمونة لطائر مجهول الاسم والموطن .. ليس هذا كل ما دار، فقد ذوي الصوت .. ولم يعد يسمع من قريب .

كاروشة

حمل حذاءه بيديه المتآكلتين، مشي في الطرقات المتربة بلا غاية، مشي في الشمس .. في الغبار، وكآبة ثقيلة تخيم علي وجهه المتيبس، المنقر بحفر عميقة . هنا وهناك امضي نصف يومه وربع يوم في المدينة الصغيرة، وهو يجد السير الذي لا هوادة فيه .. أخيرا، اتكأ علي جذع شجرة » عرد « عتيقة جافة ومنخورة . أسند رأسه الممتدة علي الجذع شد سرواله المنكمش إلي ما فوق ركبته بقليل، بدا وكأنه استراح .. الآن أسبل جفنيه كمن قرر أن يغفو ليحلم . لكن ذلك لم يدم فجأة، أري عينيه لنهيق الحمر، ودخان عوادم السيارات الكهلة .. أرسل عينيه بعيدا، وقريبا من منخريه الأفطسين إلي وجوه السابلة الذين يمرون من أمامه .. تعلقت إحداها بردف امرأة بدينة، بدت عينه تهتز مع اهتزاز الردف الممتليء .. تأرجح في مكانه فغارت مؤخرته في الثري تحته .. أيقظه هتاف صبية تحلقوه .. ما يقال عنه ، أنه كان يعيش في مدينة مجاورة ثم مات مرة ! يشهد بذلك أناس قبروه بأيديهم - علي ذلك يقسمون ! ودهشوا عندما رأوه يبعث من جديد ههنا .. شرع الصبية في حصبه بالحجارة .. وعلت أصواتهم بالصراخ : كاروشة البعاتي .. كاروشة البعاتي .

هب، في ثورة .. يلعنهم ويلعن آباءهم، ينفض عن مؤخرته التراب، وعلي رأسه أرتال من النمل الأسود المتدفق من

جوف الجذع . نظر في كل الجهات بعين غائمة، أن أنينا لا إنسانيا .. دوي في رأسه ذكريات قديمة .. أخذ في تسلق الشجرة التي لم تعد مؤرقة ولا تبدو انها قد عرفت الخصب يوما .. اعتلي قمتها، وألقي نظرة أخيرة علي الجمع الغفير من الناس الذين أحبهم وجهلوا طريقته في الحب، قرر أن يبقي في أعلي غصن جاف متماهيا فيه إلي الأبد، ولم يعد يشاهد مرة أخري في طرقات المدينة وهو يجد في السير .. وحذاؤه بين يديه .

نسيان

ذات صقيع ورهق، كتب إليها يقول : » مازلت حتي الآن - بعد سنوات خمس موجعة - أفتقد رنين صوتك وعيناك الخجولتان تبدوان بريئتين .. لا تجرؤان علي الثبات أمام عيني، يدك علي يدي نعبر الناس وتراب السبل المبهمة والحيطان الماثلة علي الطرقات المتعرجة «..

كتبت إليه تقول، حين توقفت ولم تكمل قراءة ما كتب : » لم يعد هناك ما يستحق أن نهبه ما تبقي فينا من حس ونشيج، يكفي أن نعيش في سجوننا الداخلية، فالبشاعة تجثم في الخارج، نعم، انها أبشع مما نتصور .. وأعلم أنني لا افتقدك الآن، قبرتك في عمقي المدجن منذ زمن .. ولم يصيبني شيء .. مرات أخالك تؤرقني، تنتفض في ولا أعيرك اهتماما «.

قالت : » عليك أن تنسي حتي وجودك، تعيش بلا طعم أو رائحة .. مسخا تكون أو لا شيء، هذا أفضل لك ولي «.

قرأ ما كتبت، دمع قليلا » كرجل « وانتحب، ثم مسح دموعه .. وأخذ نفسا عميقا وقام إلي المرحاض يتبول ماءه !.. ومن يومها لم يعد نضرا كما كان



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى