آمـــال بولحمــــام - قراءة لقصيدة - في رحم المطلق- للشاعر " فتحي مهذب"

لا رغبة لي في قبر

أوصي ثيران جارتي
بحرق جثتي ..
وضع رمادي في كيس على ظهر تمساح..
يعمل بوابا شرسا في نهر..
وفي الليل يهاجم راقصة الباليه..
يهشم زجاج مخيلتها الفاخر..
يطلي وجوه رهائنه بغباري..
بينما روحي الشقية في مكوك
صحبة دببة حزينة
تبحث عن فرائس في غابة
قوس قزح..
أوصي بقبعتي الى ربان سفينة
تتقاذفها أمواج النوم..
وثيابي الخلقة الى عنكبوت ثائر..
وسريري الى سفاح مهذب
يربي ذكرياتي في اكواريوم..
أحيانا يأكل قصائدي..
في ممر ضيق..
أو مأزق عائلي..
ويصلي على روحي بصوت
يمامة مغتربة .
ذروا عربة الموتى
تنام في مستودع
مثل ذئب الفلاة..
ولتتكسر أغصان القبار في عاصفة..
وينطفئ المشيعون تحت الجسر..
لا رغبة لي في قبر أو شاهدة..
أو زائر يلفظ دمعتين من النحاس..
أوصي بذر رمادي في المرتفعات..
لا تهبوا عظامي للديدان القرمة.
ذروني في اللاشيئ..
في رحم المطلق .

الموت والحياة أمران يتعلّقان بالإنسان من حيث وجوده في هذا الزمن، فالحياة هي
البداية التي يأتي فيها الإنسان ليقضي سنين معدودة من عمر الزمن على هذه الحياة، والموت هو النهاية التي تعصف بهذه الحياة، وتعيد الإنسان إلى رحم الأرض نافضا يديه من الدنيا ليتحلّل في ذروتها ويمكث في باطنها إلى حيث لا يعلم إلّا الله. فالموت هاجس كلّ الأحياء، يتهدّدهم كلّ لحظة، ويبعث في نفوسهم الخوف والرّعب..

هذا اللّغز الذي حيّر العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء القدماء والمحدثين، عبر مختلف العصور، وألّفت حوله الأساطير ونسجت عنه الخرافات والحكايات الفناء والنهاية والختام والوداع... إلّا أنني وأنا أقرأ هذه الرائعة التي بين يدي أجد هذا الشاعر مختلف في رؤيته ونظرته للموت تمام الاختلاف – إن لم أقل -عن الجميع ، فتراه لا يؤمن بفكرة الموت بل يؤمن بأبدية الروح ؛ لأنّها جزء من معدن الذّات الكليّة التي لا يطالها التّحلّل والفناء، في حين الجسد هو الذي يدفن أو يحرق إلى أن يتحوّل إلى رماد ...
ترى عزيزي القارئ أنّ خطابه هذا تأبيني ذاتي أو وصيّة ، تختلف عن قصائد الرّثاء في دواوين الشعراء لا من حيث المبنى وحسب، وإنّما من حيث المعنى أيضا، بما فيها من مفردات ولوحات ومواقف ومشاهد جديدة ؛ إذ يشرّع النّوافذ على مضامين الفكر والتّراث، ويحرّك طقوسه الجنائزية المتفرّدة. فالشّعر الجديد هو " فن يجعل اللّغة تقول مالم تتعوّد أن تقوله ، إنّه ثورة على اللّغة ، وهو نوع من السّحر لأنّه يجعل مالم يمكن أن يدرك حالا قابلا للإدراك"

لقد استطاع هذا الشاعر الارتقاء بالقصيدة العربيّة إلى فضاءات من الإبداع لا سماء لها، بالإضافة إلى كثافة صوره الشعريّة واتّخاذها بعدا دراميّا وتحققا ملحميا عاليا بسبب تشبّعه بروح التراث العربي والغربي في الآن نفسه وقدرته الفائقة على استلهام شخصياته المتمرّدة والثّائرة...كقوله:
لا رغبة لي في قبر
أوصي ثيران جارتي
بحرق جثّتي ..
وضع رمادي في كيس على ظهر تمساح...
تنضوي هذه الأسطر على نزعة دراميّة تظهر في حوار الذات مع نفسها وحوارها مع غيرها في نوع من الصراع الوجودي.. فهو يوجعه هذا الجسد الذاهب مثل قس عجوز إلى كنيسة الغياب، ليندغم في قلب الطّبيعة المتجدّد...
استعان الشاعر على آداء هذه الرسالة بأسطورة الحياة والموت المتمثلة في أساطير التي ترتبط انبعاثها بمعاناتها للموت كالفينيق والعنقاء ... حين يختل ميزان الكون ويفقد الإنسان إنسانيّته تصبح الحياة مسرحا للصراعات المختلفة ويشعر حينها الإنسان بوجود يتهاوى في قرارات اليأس والسّام .. حينئذ يصبح الموت مطلبا للإنسان ..إنّها نوع من الإيمان الذي يأمل في النهاية بداية جديدة وخروجا من عالم الشرور والآثام ..إلى عالم الفضيلة الذي يتعجّل الرّحيل إليه ...؛ فالموت هذا الكابوس المزعج الذي يقلق الملايين من النّاس لا يستأهل هذا الخوف المتضخّم؛ لأنّه لا يفترس إلّا الشّكل أمّا الجوهر فهو بمنآى ونجوة من مخالبه.. ويحاول بكل قواه أن لا يستسلم لليأس بانيا آماله على أساس خلوده على أساس أنّ الموت لا يستطيع - على الرغم - من إيقاف نبضات الحياة فيه، أن يقضي على قدرة الإنسان التي تستطيع أن تصمد في وجهه وتتحدّى قبضته الرّهيبة وذلك بالفكر والإبداع الخلّاق الذي يبقي إبداعه حيا إلى أبد الآبدين...

من جهة هنالك تأكيد على حتميّة الموت وجبريّته ، ومن جهة تعبير عن رغبة قويّة في تجاوز دلالات الفناء وذلك من خلال الاحتماء وراء فكرة الخلود والكمال..فيقول في هذا الشّأن:
يطلي وجوه رهائنه بغباري ..
بينما روحي الشقيّة في مكوك
صحبة دببة حزينة
تبحث عن فرائس في غابة
قوس قزح..
فهو يذكر المكوك هذه المركبة الفضائيّة.... لكن هنا يرمز للتّحليق والتّجاوز والسّفر والمغامرة الوجوديّة المركبة....إنّها محاولة استبطان الأقصى...
بعض مظاهر القلق الوجودي والسّبل التي يهتدي إليها الشّاعر بغرض درء أثر الانطماس سواء عبر الانصهار مع عناصر الكون والذّوبان في حركتها اللّا نهائيّة ، أو من خلال تحقيق الذّات ، وعدم الإذعان لمصير النّسيان عبر الكتابة والتّوين والإبداع...
في ممرّ ضيّق..
أو مأزق عائلي ..
ويصلّي على روحي
يمامة مغتربة .
ذروا عربة الموتى
تنام في مستودع
يستعين الشاعر باليمامة المغتربة رامزا بوساطتها للوجيعة والنّواح والانكسار...وهو يكره أن يُحمل جثمانه في عربة الأموات، بل يريد حرقه على عين المكان ...يحبّ أن يتحوّل إلى كتلة من الرماد...

الإنسان بذرة خالدة ن سيل دائم لا ينضب يجري وينساب مع الزمن ويتشابك معه في مسيرة أبديّة لا تتوقف، وليكن الموت بالنسبة له حافزا على تحريك الزمن وصنع اليقظة الإنسانية المتجددة فيه..
إنّ تيمة الموت التي يطرحها الشاعر من خلال هذه القصيدة تكتنفها تساؤلات جوهرية تتعلّق بواقع الإنسان ، فالموت الإنساني هو أن لا يكون هناك أهداف تخلد بعد الموت ويحسّ المرء أمامها بأنّه جزء منها وأنّه مات من أجلها، والذي تخلده آثاره يبقى في ذاكرة التّاريخ ووجد أنّ الأجيال على مرّ العصور ، إنّ الذي يفنى هو جسده أمّا ما يخلّفه من علم وفكر و... وهو الأهم فيبقى خالدا لتستفيد منه الأجيال التي بعده...والميت الذي لا ذكرى له فقد جاء في صمت ورحل في صمت ، لم يخلّف وراءه أثرا يمنحه البقاء والخلود في ذاكرة الأجيال... في قوله:
أوصي بذر رمادي في المرتفعات ..
لا تهبوا عظامي للديدان القرمة.
ذروني في اللّاشيء..
في رحم المطلق.
تنتهي هذه القصيدة إلى أنّها محاولات الانتصار على الموت وانتزاع الحياة من براثنه؛ فهي قصيدة منظومة هدفها الأول نزع البراثن القمعيّة عن غول الموت الرهيب وكلّ ما يحيط به من إيحاءات الخوف والرّعب...
فالشّاعر هنا غايته الرئيسة هو فكرة خلود الأثر في اللاّ نهائي والمطلق...
بالطّبع لم يتناول شاعرنا " فتحي مذهبي" هذه الثّيمة بشكل تقريريّ فج، بل صهرها في ورشته الإبداعية ليصوغ منها قطعة جماليّة نادرة.

- أرجو أن تتقبّل مروري أستاذي الفاضل-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى