... كلّما أمْعن في تخيّل مَن وما يعشق، ألفى الجنونَ عقلاً جميلاً. وأدرك مسرّات الجمال بأوجاع الهدم والبناء وتجرّؤ الخيال...
نفخ في الناي أشواق الروح فتأوّه أنينٌ مجروح. أطبق شفتيه على الناي وأرسل قبلةً هائمةً في غابة القصب.. بحثاً عن الثغر المُشتهى.. استمر يعزف روحه حتى أيقظتْ أنغامُه الكائنات الأسطورية في غابة القصب. شحّتْ أنفاسه وبحّ صوته فوضع الناي جانباً. أتاهُ صوت (نيدابا)* حرفاً هامساً، فحرفاً خافتاً، ثمّ جهر الصوت بالحروف الأُخَر من أعماق القصب.. أنصت مندهشاً وقلّب متلذِّذاً بين لسانه ولهاته نبرات الحروف. استرجع عادة الحلم الطفولية وقَصَبَ شَطْبَةً من قَصَبَةٍ صفراء، وسوّى من الطين الحرّ لوحاً. ثمّ راح يدمج الحروف البِكْر ويشكّلها ككلمات نابضةٍ، وينقشها بالشطبة فوق الطين الطرّي. جمع الكلمات في جملٍ ونضد السطور فصارت حكايةً أسطورية. تململت الحكايةُ فوق لوح الطين، وخرجت صبيّةٌ حسناء كأنغام روحه التي سكبها في الناي.
الشمس الذائبة تضيء شَعرها الطويل، فيتلألأ الحِنّاء بوهجٍ شبقي كحمرة الشفق. الشعاع الذهبيّ يغمر جسدها القمحيّ فينبض البرونز اللامع. يمد يده اليمنى نحو خدها الأيسر فيخفق في صدره طيرٌ جائحٌ لاهثاً، ينقر عناقيد الشهوة.. يمد يده اليسرى إلى خصرها ويضغط هذه المرة أكثر، لكنّه لا يلمس أديم حقولٍ ولا زغب سنابل.. يخفض يده اليمنى قليلاً، ويمرّرها خلف جيدها لا تجد ما تقبض عليه. إنّه يرى كل جسدها انثناءاته وتكوّراته وخباياه، والبريق البرونزي كمغيبٍ لا يغيب. لكنّ يداه لا تلمسان غير ألوانٍ شفيفةٍ وظلال أشكالٍ هاربة. يتشمّم عطرها الأنثوي، مزيجاً من ضوع حِنّاءٍ متهتّكٍ وشذا ليمونٍ ماجن. يشعر بجسمه ينغمس في هيئتها دونما صدٍّ أو مقاومةٍ، وكأنّه يتوغّل في أثيرٍ عَطِرٍ مضيء. لا يشعر بضغط جسدٍ ما ويلج أكثر فأكثر.. تتنقّل يداه في الجهات الست فلا تقبض على شيءٍ. يهدأ غليان دمه وينكمش طير صدره الجائح. يتراجع إلى الخلف، لا يبصر شيئاً وتتبدّد هيئتها وتتلاشى. يدور حول نفسه ويمضغ روحه الموحشة وحيداً في المكان..
لم يكن في المكان سوى الناي ولوح الطين اليابس. الحروف والجمل والسطور ذاتها قد تجمدت كنصٍ مرصوص قرأه فوجد الحكاية التي كتبها معكوسةً. تبدأ من حيث أنهاها وتنتهي من حيث بدأها.. استغرق في قراءة الحكاية المعكوسة هي حروفه وجمله وسطوره، هي حكايته التي كتبها ذاتها، الصور والصفات كما أثبتها الأسماء والأفعال هي هي.. لكنّه اندهش من أنّ كلّ أفعال المضارع التي استعملها في الحكاية قد انقلبت إلى صيغة أفعال الماضي.. غمرته حيرةُ تائهٍ في بلدٍ غريب والتبس عليه الأمر كلّه. قذف باللوح في أعماق القصب!.. والتقط الناي من جديد.. نفخ فيه أشواق روحه ففاضت في الفضاء تأوّهات أنينٍ حزين.. وظلّت القبلةُ هائمةً في غابة القصب تفتّش عن الثغر المُشتهى.. وظلّت أنغامُه توقظ الكائنات الأسطورية التي ينشدها قلبه ولا تدركها يداه..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نيدابا: إلهة الكتابة والقصب عند السومريين.. (لقد رأى "جوديا" في ذلك الحلم رجلاً ذا قوام هائل يضع على رأسه تاجاً إلهياً.. وظهرت امرأة تمسك بيدها قلماً ذهبياً... أما المرأة التي تحمل قلماً ذهبياً وتمعن النظر في لوح رسمت عليه قصة السماء فإنها إلهة الكتابة وإلهة الـ "إيدوبا" (أي المدرسة) الحامية التي توجهك لبناء البيت وفقاً للـ"نجوم المقدسة"..) صموئيل نوح كرايمر، السومريون.
