عبد الستار ناصر - ناقص حظ

اسمي «خضّوب الزوبعة» وأنا كاتب قصص قصيرة، رفض المحررّون نشرها دونما سبب مفهوم، بعثتُ بها خارج بغداد عساني أرى اسمي يوماً في جريدة أو مجلة، فما تحقق حلمي في رؤية اسمي على أية قصة، برغم مرور عشرة أعوام وأنا أكتب دون يأس وبلا ملل.‏
توجعني كلمة (هُراء) التي سمعتها كثيراً بعد كل قصة أكتبها، كأنهم أغلقوا القواميس على هذه المفردة الوقحة، مع أنني والله أكتب قصصاً عن قضايا لم يقربها أحد من كتّابنا المعروفين، كتبتُ عن أسرار الكائنات غير المرئية وما تفعله بين شرايين الحائط، كتبتُ عن الفراشات ولماذا تخترق الضوء والنار صوب مصيرها، كتبتُ عن صندوق الفضائح الذي يُباع في المزاد دون أن يعرف أحدهم شيئاً عما يحتويه، كتبتُ عن سكنة العوّامات والذهول الذي يقبض أرواحهم بهدوء، كتبتُ عن خبايا ثورة الزنج وحراسة الخراب وبيوت المنكوبات، كما كتبتُ عن لصوص السجائر في الجمارك وعن مساومات القضاة سرّاً لئلا يحكموا بالموت على الخونة وتجار الحشيش، كتبت عشرات القصص عن زواج المتعة، عن السلالات المدفونة، عن اختراع ساعة الرمل، عن شقوق المكتبات الوطنية وإفلاس العقل، عن أكاذيب ابن بطوطة، عن الزرع في الماء المالح، عن الحانات الليلية التي تباع فيها البنات الصغيرات، عن خرفشة النصّابين في عالم السينما، عن مؤخر أتعاب الدوبلير، عن الموهبة والحظ العاثر، عن المجد المحمول بين الفخذين، عن عشيقات نابليون بونابرت غير المذكورات في سيرته، حتى أنني كتبتُ في هذه السنة عن عفّة النبلاء في القرن التاسع عشر، وعن حرفة القمار في الصالات التحتانية المعتمة، وعن مصحّات الضمائر ومستشفيات الكآبة والخَبل والهستيريا.‏
ماذا سأكتب أيضاً، حتى تنشر قصصي، أو واحدة منها فقط، عساني أصدق نفسي وأقول بأنني كاتب قصة؟‏
لكن البشر تواقون إلى ذبح المواهب، وها أنا بعد القصة التي لا أعرف رقمها، مازلتُ أسمع، بل وأرى كلمة (هراء) مطبوعة على شفاه من يقرؤها، دون أيّ إحساس بما أعانيه من وجع وخيبة.‏
* * *‏
مرة واحدة، تجرأتُ فيها على دخول غرفة المحرر المسؤول عن نشر القصص القصيرة، كاد خجلي أن يوقعني أرضاً وأنا بين يديه، سمعته يسألني:‏
هل تبحث عن شخص ما؟‏
ماذا دهاني لحظتها؟ لماذا أخاف الناس هكذا منذ طفولتي؟‏
هذا المحرر إنسان يشبهني، قُل ما جئتَ من أجله يا خضّوب، عساك تفهم أسباب رفض ما تبدعه من قصص، وإذا لم تنطق في حضرته الآن، فما أظنك سوف تفعلها غداً.‏
يا أستاذ، أنا خضّوب الزوبعة..‏
أهلاً وسهلاً، وماذا بعد؟!‏
هصرتني (وماذا بعد) كأنني أغرق في رمال تتحرك تحتي، ولا أدري كيف تمكنتُ من البقاء في غرفته وكيف قلت له:‏
بعثتُ إليكم بقصة (بحر الليمون) وقصة (العاصفة هذا أوانها) وقصة (السوق القرمزي) ولم تنشر ولا واحدة منها حتى اليوم!‏
فوجئتُ به يقول:‏
نعم، أتذكر هذه العناوين، أتذكرها جيداً، لكنني لم أسمع اسمك جيداً.‏
أوشكت أن أبتسم طرباً وأنا أنطق اسمي مرة ثانية:‏
خضّوب الزوبعة يا أستاذ.‏
راح يفتش في أوراقه بعد أن قال لي (تفضّل اجلس).. طال به الوقت وهو يبحث في كومة أوراق تبدو مهملة منذ زمان بعيد، وبعد نصف ساعة رفع رأسه واعتذر مني:‏
ما زلتُ أتذكر عناوين تلك القصص، هل أعطيتها بنفسك أم جاءتنا عن طريق البريد؟‏
* * *‏
قررتُ تسليم القصص بنفسي، والآن، سأمشي بقية الوقت في الشوارع وأسواق الكتب، ليس من سبب خطير حتى أحزن، عشر سنوات مرّت وأنا أكتب القصص دون جدوى، وسوف أخسر سنة أخرى حتى أحقق هذا الحلم العنيد في رؤية اسمي ذات يوم مهما طال بي زمن الخيبات والرفض.‏
أقرأ موباسان وجراهام جرين وبورخس وسارتر وماركيز، رحت أكتب ليلاً عن قطارات باتجاه واحد، عن أحوال امرأة لا تدري أين سيمضي بها خاطفها الجميل، أكتب عن مدينة دون حاكم يحكمها، عن الممسوس الذي يحرق الغابة حتى يتدفأ على نيرانها، عن ثكنات عسكرية فارغة تحتلها الجرذان والزواحف، عن امبراطور يريد أن يضحك مهما كان الثمن، عن كريستوف كولومبس الذي اكتشف البهارات ولم يعبأ بشواطئ أمريكا، أكتب العناوين بعد كل قصة وأنا أدخل سوق الكلمات مثل جندي ما يزال يقاتل دون حراب ولا رصاص ودون أعداء أيضاً.‏
أعطيتُ عناوين: (قطارات باتجاه واحد) و(المرأة في طريقها إلى هناك) و(مدينة أين) و(الغابة الرماد) و(الجرذان حينما رقصت) و(الإمبراطور يريد أن يضحك) ثم (بهارات كولومبس) وانتهت حروبي بنتائج معقولة.‏
* * *‏
عاندتُ نفسي في الذهاب ثانية إلى الصحف والمجلات، عساني أعرف مصائر القصص السبع التي كانت آخر ما أبدعته وابتكرته طوال الشهور الثلاثة الفائتة، أعترف بأنني مذهول أمام ما كتبه دينو بوتزاتي وماريو بارغاس وهيرمان هسه وأنطون تشيخوف وفاسكو براتوليني وبوكاتشو وجورج أمادو، وأنا أفضل من زكريا تامر وعبد الستار ناصر ويوسف إدريس، لكن المحرر نفسه الذي رأيته يفتش عن قصصي في أول زيارة له قال لي:‏
يا سيّد خضّوب، نحن ننشر القصص التي يكتبها مؤلفوها، ولا ننشر القصص المنقولة من الكتب المترجمة هذه المرة، لم أعرف ما أقول، كانت الصاعقة قد هبطت دفعة واحدة فوق رأسي، ماذا يقول هذا المحرر عن قصصي؟ شعرتُ بنفسي مثل خرقة مبللّة، سقطتُ أرضاً وأنا أكرر (عن جزع عظيم):‏
أنا نفسي مؤلف هذه القصص، أنا مبدعها، أنا مؤلف هذه القصص، أنا مؤلف القصص، أنا المؤلف.‏
ولا أدري ماذا جرى بعد إغمائي، غير أنني سمعتُ آخر الكلمات التي قالها المحرر وهو يحكي القصة بين بقية المتجمهرين حولي من المحررين:‏
هذا المسكين اسمه خضّوب الزوبعة، يأتينا بقصص لا يمكن أن يكون هو مبدعها، ويريد أن ننشرها، بربكم يا جماعة، هل سمعتم بكاتب قصة بهذا الاسم المضحك؟ أيّ هراء...‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى