ياسر جمعة - قرابين ضالة.. قصة قصيرة

ضربني، لا أذكر الآن السبب، حتى سال عرق جبينه العريض وتعالى صوت تنفُّسه، فأنزويتُ في أقصى المنزل مترقبًِاً لحظة اندماجه مع الجيران في حديثهم اليومي، حيث يفترشون الأرض، لأتسلَّلَ هاربًا إلى.. إلى.. إلى؟! لا مكان إلا ليل شوارع القرية المليء بالكائنات المرعبة، التي رأيتها تلتفُّ حولي، كلها، كما تصفها حكايات الكبار لنا، فانفجرتُ باكياً، هُرعوا إليَّ من الخارج يسبقهم أبي، الذي تبسَّم ما إن رأى دموعي أخيرًا، أقسمتُ أن أبيد هذه الكائنات كلها، ضمَّني، انفضوا من حولنا مخلِّفينُ وراءهم ضجيج أصواتهم المتداخلة والليل الكثيف.
- تعال، هوريك حاجة جميلة.
قالها أبي بعد أن ودَّعهم وأغلق الباب وتقدَّمني إلى غرفته.

أخوتي ناموا دون أن يجفٌّفوا دموعهم بعد مشاهدة عملية عقابي، وأمي.. أين أمي؟! لدقائق نسيت أنها رحلت قبل أن ترسم في وجداني صورةً لملامحها- سأرى لها صورة، أبيض في أسود، وأنا في العشرين تقريبًا.. ظلَّ أبي يخبِّئها عنا في صندوقه الخاص، حتى أخذتَها أختي الكبرى في غفلةٍ منه، فثار ما إن اكتشف اختفاءها ولزم الفراش مريضًا- لذا كنت أقضي ساعاتٍ مرهقةً، كلَّ ليلةٍ، في محاولة تكوين شكلٍ لها.
- بتبكي ليه، تعال.. تعال.
لم أكن أعلم عمَّ أبكي تحديدًا، ولم أحاولْ أن أعلم، وهكذا جلسنا متجاورَين على الأرض. أخرج من تحت سريره حجر جيري وما يشبه السكين الصغير، وراح يحفر فيه، بينما كان ينظر لي من آنٍ لآخر كمن يطمئنُّ علي استمرار متابعتي له، وما لبث أن اندمج كليَّاً فيما يفعل فنمت.
في المدرسة، صباحًا، وأنا أُخرج كتاب الحصة الأولى صاح زميلي المجاور:
- الله، ده يشبهك.
ومد يده النَّحيفة في حقيبتي، تذكَّرت ليلة أمس وهو يلتقط وجها جهمًا منحوتًا من الحجر الجيري- لم أكنْ أعلم أنه معي، ولم أكن قد رأيته بعد- حاولتُ أن آخذه منه، قام من جواري وهو يحمله، قمت كي أمسك به، ركض، وما لبث أن انتقل الوجه الجهم من يدٍ إلى أخرى، ولم يمرْ الكثير من الوقت إلا وخبر أنّي نحتُّ تمثالاً قد انتشر في المدرسة كلَّها.. كلُّ العيون تغمرني بإعجابٍ جعلني في تيهٍ من السعادة النادرة، كلَّل هذا الموقف العجيب اجتماع المدرِّسين في مكتب الناظر، الذي ملأ الانبهار وجهه اللَّحيم، فقام يهنئني ويشيد بموهبتي هو أيضًا.
كيف انتهى هذا الموقف؟
لا أذكر، غير أني جلست أتأملُّه أخيرًا، وقد عدتُ إلى المنزل واختليت بنفسي، فسكنتني غصَّةٌ أطاحت بسعادتي كلَّها، ونبت خجلاً ظلٌّ ينمو عبر أعوامٍ- بسبب عدم توضيحي أنه ليس من صنعي، وتلقِّي الإعجاب والمديح في صمتٍ مهين- طويلةٍ، كنت أنحت فيها كلَّ يومٍ وجهًا.. أقدِّمه لأبي فلا ينبهر كما كنتُ أتمنَّى، رغم ابتسامته وإشادته المجاملة أحيانًا، فأكسره باكيًا لأبدأ من جديد.
هل سينبهر- كما أودُّ- إن علم أنني صرت لا أتقن غير نحت ملامحه.. ملامحه هو تحديدًا، في أعمار مختلفة، والتي صارت تسكن ملامحي الجهمة؟


ياسر جمعة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى