مصطفى أحمد علي - أما يزال الشجن كما كان؟

شرع يكتب بعد أن لاذ بفراشه وقد بدأت خيوط الفجر تؤذن بيوم جديد. لم يطمئنّ بعد إلى هدوئه القديم ولم يستقر على حاله السالفة. أحس بشيء من القلق وتاق إلى شيء من السكينة واليقين... ينظر إلى النافذة، ثم ينظر إلى ما وراءها فتزيد الأمطار المنهمرة من هذا الإحساس السوداوي الذي يملك أمره هذه الأيام! وحين يضيق به الأمر يهرع إلى ذكرياته القريبة فيحس بشيء من الدفء وبكثير من الاطمئنان يتسلل إلى روحه ويتبين من خلاله صوراً قريبة إلى النفس.
الصيف هنا في بيرغن فكرة خضراء تمرّ بالخاطر، أو هو حلم مضيء مشرق تسفر له ظلمة ليل الهاجع وتسكن معه خواطر الواجد المكروب. على أن هذا الحلم يستحيل على استحياء، إلى واقع جميل قصير العمر... ياحسرة!
لطالما شكا من سلطان الزمان وسطوة المكان، ولطالما كان نهب الاغتراب والابتعاد. حينما وصل إلى هذه المدينة قبل ليال، كانت الشمس تغمرها والدفء يشملها، أما اليوم فقد سطا عليها الضباب و جثمت عليها الرطوبة وعصفت فيها الرياح. هذا جو يبعث الشجن ويستدعي الذكريات! تذكر أنه كان يستعين بالشاي ويجلس قبالة التلفزيون أيام الآحاد حين يطبق الشتاء على باريس. كان يجد متعة في ذلك. الآن يحاول استعادة ذلك الشعور فيفشل! هل تغير هو أم تغير الزمان والمكان؟ أما باريس، فقد كان يجد فيها متعة العقل والقلب معاً، و أما بيرغن، ففيها يحسّ المرء بأنه في طرف قصيّ من أطراف العالم... على جرف في حافّة من حواف الأرض! ومع ذلك، فإنه ليس شقياً إلى هذا الحدّ.
ليس حزناً ما يغازل حروفه ويراود مشاعره، بل هو شجن، يبلوه منذ حين ولا يشقى به... يهبط على نفسه فيمسها مسّاً رقيقاً ويبعث في قلبه دفئاً وحنيناً! نظر منذ اللحظة إلى الساعة فوجدها وقد تجاوزت الثالثة، وإلى تاريخ اليوم وقد تبدّل! هدوء مطبق على كل شيء من حوله .. غير أن الأمطار، تتتابع قطراتها من خلف النافذة الزجاجية الموصدة، تكشف عن زيف هذا الهدوء المصطنع داخل الغرفة!
أما يزال الشجن كما كان؟ بل أين هو من تصاريف الزمان وسلطان المكان؟ يشدّه التوق ويبرّحه الشوق، ثمّ لا يبرح أن يلجأ، كيما يخفف عن النفس، إلى الكتابة، ولكنّه قلما يظفر بوقت لذلك إلا آخر الليل... يهبط عليه النعاس فيخشى أن يسقط القلم من بين أنامله فينام قبل أن يقرأ آيات من المصحف.
ينهض من فراشه ويمضي في ما شرع فيه من الكتابة الليلة المنصرمة.... يغمره الضوء و تصافحه الشمس ببشريات يوم جديد فيه دفء وإشراق!
بدا له أن الصراع الأبديّ بين الشتاء والربيع على أشدّه! لكنها جولة يتقدم فيها الربيع، يدفعه الصيف ، ثمّ لا يلبث الشتاء والخريف يكسبان الجولة. تذكر أنه حينما أتى إلى هذه المدينة قبل نحو عام، كانت حقلاً غير متناه من الجليد، ثمّ تحوّلت أمام ناظريه إلى حديقة ... شاهدها وهي تغدو بستاناً يانعاً مزهراً أخضر!.
يفكر أحياناً في عبثية ما يكتبه، في أن يحاول ضرباً آخر من الكتابة يسرد فيه أخباره اليومية ،إلا أن رغبته في أن يستغرق في ما يكتبه وأن يمتزج به حتى يأتي حاملاً روحه وشعوره،مضمّخاً بخفقات القلب وومضات الضمير. .... تحمله حملاً و تقسره على ذلك قسراً.

مصطفى أحمد علي
بيرغن، أبريل 1989

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى