صابر رشدي - إصبع على الزناد.. قصة قصيرة

عندما يجذب أنفاسا عميقة من الهواء المحيط به، ثم يعيدها مرة أخرى فى هدوء وترو، فلابد أن تكون إصبعه على الزناد ومؤخرة البندقية فوق كتفه، وألا تمر أكثر من ثوان قليلة بعد اتخاذ القرار حتى يتمزق الهدف المحدد امامه، الذى يكون فى هذه الحالة منتصف جبهة أحد الخصوم الاقوياء، طلقة واحدة هى كل ما يحتاج اليه لانتهاء مهمته، فهو حريص على التركيز والدقة، إنه يحدق طويلا إلى الوجه، إلى العينين، مخالفا عتاة القناصين الذين يهربون من تلاقى العيون ونظرات الضحية، تلك النظرات المستغيثة والمسترحمة التى تثير التعاطف وتجعل المرء متوترا ومرتبكا، لا يكترث بأية مؤثرات تبعث على النكوص أو التردد، يصوب سريعا وبلا شفقة، ماضيا على الدرب كمجرم عتيد استطاع أن يقضى على عدد كبير من خصومه فى سرية تامة ومهارة فائقة وبأقل قدر من الضجيج بعدما تدرب فى الخفاء، بعيدا عن فضول الاخرين، انه يحسن اختيار ضحاياه، نوعية منتقاة بشكل غير عفوى، تحظى بالكراهية وعدم التقدير، ملطخة بالدماء وتعذيب البشر. كان يتخلص منهم دون شعور بالندم. إرتبط هذا المزاج السادى ارتباطا وثيقا بنزعة رومناسية، وموهبة فى التصوير تبدت بوضوح فى عمل البورتريهات المتقنة، موهبة فطرية ولدت معه ثم نمت سريعا بفضل عشقه الحسناوات والقدود النموذجية التى لا تعرف هشاشة النحول أو تشوهات الترهل، مولعا برسم عوالمهم بحب وخيال متوقد، فهو فنان مرهف الحس ولكنه شديد التأثر، يتابع ما يدور ولا يقف ساكنا إزاء الأمور التى تبعث على الغضب، وتستدعى التحرك. مرت سنوات قبل أن يكتشف فى نفسه موهبة اخرى وهى الرماية، إثر لقاء عابر مع أحد هواة الصيد الذين يجوبون القرى، بحثا عن الطيور المهاجرة بعدما أخذ منه البندقية وراح يصوب ... كان الحظ ماثلا فى هذا اليوم دل على ذلك عدد الطيور التى تم اصطيادها. فى هذه اللحظة فكر فى دمج، واستغلال تفوقه فيهما , ففى خطوة فعالة، بعيدة الأثر، راح يرسم الوجوه التى يبغضها ويعلقها على الحائط امامه، ثم يقوم بالتخلص منها وجها بعد الأخر. رأى الامريكان يفعلونها، يطبعون بوسترات كبيرة لأعدائهم ويقومون بوضعها فى الملاهى والمنتديات والأماكن العامة، وفى طقس احتفالى تبدأ هذه اللعبة عبر عدة مراحل : التشويه، تخريب الوجه
، القتل المجازى، تمهيدا لسيناريوهات مقبلة يتم خلالها استحضار كراهية المواطن العادى تجاه هذا العدو، عبر اشتراكه الافتراضى فى المهمة نفسها، فإذا ما تم التخلص منه بدا كل شئ طبيعيا وغير مثير للإنتقادات الموجعة .
من جانبه. أتقن اللعبة ولكنه أضاف اليها أبعادا أخرى أكثر إثارة وأشد تشويقا، على نحو يتناسب مع اهتمامه بالجماليات وأنسنة كل عمل مهما بدا عنيفا، معادلة صعبة ومعقدة قليلا، حيث يحاول الموازنة بين وعيه السياسى وحسه الفنى، وألا يرجح كفة على الأخرى ويخسر أحد جناحيه .
كان يرسم لوحتين : الأولى للوجه الذى يريد تصفيته والأخرى لوجه نبيل، يتخلص من الأول بسهولة، ويمد يد الصداقة مع الأخير, يقرأ معه الكتب العظيمة، يستمعان إلى موسيقات الشعوب، يشاهدان السينما، ويبكيان من أجل هذا العالم.


صابر رشدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى