وهو يقطع ذلك الطريق الجبلي الوعر في تلك الظلمة الدامسة، كان يلعن كل التاريخ الذي عاشه. وقواه المشحونة بالنقمة و الغضب، كانت تفتح خطواته لأقاصيها لتمر الأرض تحت رجليه سراعا لحد كان يتساءل معه ما إن كان حقا يمشي أم يطير.
ما كان ممكنا في ذلك الليل الشتوي ان يسمع غير صفير الريح وهو يتحدى نفسه باحثا عن نهاية للمدى. لكنه بخلاف ذلك لم يكن يلتقط غير أصداء ذلك المشهد الذي لم يمل من تكرار نفسه، للحد الذي كانت تتناهى اليه كل الصرخات و القهقهات الماجنة التي تنبعث من حانة “لاسطراص”. و الوجوه ظلت ماثلة لعينيه و لم يكن بمستطاعه ان يرى غيرها ، بل وان يرى فيها تفاصيل و جزئيات لم يكن قد انتبه اليها من قبل. لكن ذلك لم يكن مهما بقدر ماكان الاهم هو ان يعرف سر تقلبها عنه في تلك الامسية. و لا لم نظرت إليه بتلك الغرابة المليئة بالحقد، ليتجمع حوله كل رواد الحانة من الجيش الفرنسي. ويعاملونه معاملة قرد شق طريقا خطا ليجد نفسه وسط حشود أدهشها شكله، و صنعت الهمجية غرابة تعاملها معه.
في كل السنين الطويلة المتوارية لم ير الحياة غير بساط محدودة الأفق، و ان الاشياء المحكومة ببداية و نهاية لا يمكن ان تجعل المطلب الذي يستحق الحرص عليه لمن سيقطع مساحتها أكثر من ان تعاش بدون عقبات و بلا عناء. ومادام تلك هي الغاية، فلا شئ غيرها يستحق الاعتبار.
حين حل الفرنسيون بالقرية اول مرة، كان من القلائل الذين لم يفروا الى الجبال او يلوذوا بالكهوف. بل ذهب الى حيث استقروا مستطلعا أولئك القادمين. وليعي بعد ذلك أن المسافة التي قطعها في ذلك الصباح من بيته الى مشارف الثكنة، كانت بطول اختراق عصر لعصر. و ان العودة من حيث اتى كانت مستحيلة.
مع القادمين عاش كل ما يمكن ان يجعل بساط عمره ربيعا لا يذبل. لم يكونوا كلهم فرنسيون. و الاهم أنهم لم يكونوا كلهم رجالا.
في ذلك العالم الذي خبت فيه الأصوات القديمة، امتد عالم اخر وجد فيه أشياء كثيرة متجاوبة مع تطلعات فحل وضع خطواته الاولى على مسار الرجولة.هناك عاش النشوة الاولى لسائل سمع عنه كثيرا، لكنه لم يجربه من قبل. و حين تذوقه، عشق الرجس.
كان يفرغ الكاس في جوفه الذي كان يتحول إلى شاشة تبيح له تتبع كل ما يحدث بعد ذلك. يراه ينحدر و ينحدر. وحين يصل الى القعر الذي ما بعده عمق، كان يشعر بانشطار قوي تتولد عنه طاقة عجيبة. وحرارة مختلفة تنطلق من المركز الى اقصى قطر من احشائه. و لتتجه صعودا في رحلة معاكسة بعد ان تكون قد ارسلت ما يكفي من الاشارات الى دماغه الذي يستيقظ فجاة من سباته. مستنفرا كل الخلايا من اجل استقبال هذا التأثير الساحر الذي يستسلم له طواعية. بل بخنوع و تودد، مطالبا بالمزيد من الدفعات المنعشة. لينتشي للحد الذي يدوس فيه كل القواعد التي اعتمدها من قبل. و يشطب كل متابعاته و تصنيفاته. وتتلاشى كل الترتيبات التي شيدها. تتفسخ العقد. و تنهار الاسوار الدفاعية التي كانت نفسه تتحصن خلفها، لتعمد الى ان تكون اول ما تقع عليه العين حين ينظر اليه. و لتصبح اول من يعكس الاصداء التي تتناهى اليها. و انذاك فقط كان ينتابه احساس حقيقي. إحساس أنه فعلا بدا يعيش.
ينظر حواليه في لحظة لا سيادة فيها لغير الاحساس بالانتشاء، و يكتشف ان ليس اروع في حالة كتلك من ان تلتقط مسامعه صوتا انثويا مليئا بالاغراء و الرغبة. و تجلس صاحبته مجاورة له. و انه يستطيع ان يترك لتفاعلاته أن تمضي الى نهايتها دون ان تطالعه نظرة مستفهمة أو اخرى مستنكرة. ودون ان يكون لمختلف اشكال الرقابة داخلية او خارجية أي وجود. و حين كان ينظر في عينيها، تموت كل الأبجديات بعد ان يدرك أن الكلام الصادر عبر الصوت هو احط انواع اللغات التي يبتغيها الانسان جسرا للتواصل.
يتضاعف الاحساس بالنشوة للحد الذي يتساءل معه ما ان كان قد امتص كل الطاقة المنثورة في الكون، و لذلك يراه ينكمش و يضيق. ام أنه شحن بقوى كل المردة الذين عبروا التاريخ، و لذلك صار بإمكانه قطع أقاصيه في رمشة عين و بفتحة من ذراعيه. وساعتئذ كان يعي أنه إن كفر بالشيطان يوما ففقط لأنه بسط معالم تحد لا يمكن كسره. و انه فتح أفاقا للمتعة من المستحيل بلوغ نهاياتها. لكن هل عدم بلوغ تلك النهاية هو شعور يمكن ان يولد الإحساس بالتعاسة؟ و هل الزهاد و النساك الذين نبذوا الحياة و المتعة و ضاقوا ذرعا بأضواء الدنيا إنما فعلوا ذلك من اجل إثبات أن الحياة لم تستطع ان تسلبهم سلطاتهم على ذواتهم، ام انهم رفضوا ان يحشروا في اشواط بلا نهاية و لا نتيجة غير أن يبقوا عبيدا للمتعة؟ .. و إن كان يستطيع ان يفهم موقف الزاهدين فكيف يفهم موقف أولئك الذين لم يبلغوا شيئا في الحياة و لاذوا بالجبال مع اسلحتهم العتيقة وهم يمنون انفسهم بغد قد لا ياتي ابدا و يقضون أعمارهم تحت رحمة العراء و الجوع؟
لحظات الصفو تلك لم تكن لتدم طويلا. بل لم تكن تستغرق أكثر من الوقت الفاصل بين لحظات استيقاظه و مغادرته للفراش وهو يستعد لركوب موجات الزمن السريع الذي يبدا ساعة توجهه الى الحانة.. و على طول المسار الفاصل بين سفح الربوة و قمتها كان يستشعر البؤس المنتثور حواليه و الذي يشهد على ان ساحرا قد سلب الدنيا مفاعلاتها. وبين هول الفارق بين الحالتين، جعل حياته سجلا دونت فيه نساء قادمات من شتى ربوع العالم أسماءهن ، و قصن شرائط من اعمارهن ووضعنها على ضفاف عمر رجل عشق المتعة و صرف بسخاء من اجل ا لا يكون مسار عمره وحيد اللون. غير انه في تلك الامسية رأى زينب.
في كل حكاياته السابقة التي استرعت احداهن انتباهه، كان يعمل على الحصول عليها بطريقته. ولم يحدث ان تشابهت طرقه. في كل مرة كان يسلك واحدة مختلفة عن السابقة مؤكدا بصماته الابداعية في لفت الانتباه. و في اللحظات التي واجه فيها صعوبات، كان يدرك على الفور ان معشوقته لا يمكن ان تترك ضابطا ساميا وتتجاوب مع رجل مدني من الاهالي لا يستطيع أبدا أن يحميها من شطط عاشقها و من معلمتها المتسلطة. و لان الامر كان كذلك، و لانه لا يدين لاحد غير اهواء عشقه، فلم يكن يرضى ان يرتفع في الحانة علم غير علمه. و ضحكته المشهورة كانت تعلن قبل ارتجاله لكلماته أن السهرة في تلك الامسية ستكون مجانية إلى النهاية. و انه بعد ذلك سيدس اوراقا نقدية مهمة في جيب ذلك الذي لا يقوى على انتزاع منه معشوقته بغير تلك الطريقة. غير ان الامر اختلف كليا حين راى زينب.
حين ألقى نظرة استطلاعية على من حوله في الحانة تلك الامسية، لم يمض الى النهاية في استعراضه. وكمثل من رصد امرا خطيرا، استدار بكل انتباهه و راح يحدق في تلك القادمة الجديدة.
شعر أن ثمالة السنين تبارحه. وقلبه يخفق بشكل مغاير. دماؤه تفور. و عرق يتدفق عبر المسام. كانت زينب. الفتاة التي يجزم انها تركت الصبا على بعد خطوات قليلة من بوابة الحانة. في ملامحها قرأ كل حكايات البراءة التي روتها جدته في اماسي الشتاء البعيدة. الحكايات التي عشق كائناتها العجيبة و التي حفرت في وجدانه ألقا و تطلعا و أملا في أن تضعه الصدف السعيدة في قلب واحدة من تلك الحكايات الحالمة.
في كل خيالاته و احلامه كان يرسم مشاوير لحكاية لم تخلق بعد. ومن اجل ان يكون قادرا على التحليق في سماء الاحلام كان يقدر حجم الثقل الذي يجب ان يتخلص منه ليليق بكائن نوراني قادم من مجرة الاحلام. التهذيب الذي يجب ان يطال نظراته. الحشرجة التي يجب ان تنزاج عن نبرات صوته ليصبح هامسا ككلام الاحلام الجميلة. المكر الذي يجب أن يموت في ابتسامته. الغلظة التي تفصح عنها تفاعلاته المشكلة من توقده الداخلي الذي يغذي حركاته و يرسم ملامحه. الثبات الكلي لقلبه الذي بجب أن يتخذ حجم عقيدة . واخيرا الولاء الكلي لحياة لا يمكن ان تبدع غير الرقة و الجمال.
يستدير ليجد نفسه مطوقا بوضع مستحيل. لكن ترتفع في عينيه بقايا رغبة في المقاومة و يسال نفسه: هل مازالت هناك ثمة امكانية في ان يكنس كل ذلك الحجم الهائل من الطمي الذي تكدس فوق روحه ليستعيد كنهه الخالص الذي تاه عنه؟ وهل بإمكان الطهرانية أن تشق طريثقا صوبه وهو الذي في كل خطوة خطاها من الصبا إنما كان يبتعد و يفر منها؟
شعر ان الثقل الذي يرزح تحت وطأته يزداد اكثر فاكثر. و انتابه اليقين في أنه خلق لشئ آخر غير ان يكون الانسان الذي يعيش في وئام و انسجام تام داخل حياة تؤطرها الأحلام.
طلب كأسا جديدا. و حين هم بتجرعها باغته سؤال لم يتوقعه: هل ذاك الذي كان متسكعا وانتهى به الامر حمالا في ميناء مرسيليا و الذي تجالسه الآن هو اقرب أليها من حلمه الطفولي؟
رفع رأسه ليطالعه البدر الذي خصه لوحده بكل ضيائه. و ليتاكد من انه لم ير وجها من قبل بذلك الصفاء ولا كان لديه يقين بأن هناك عيون مغناطيسية تحرر الاجساد من ثقلها و تسحبها في فضاء لا معنى فيه للمعالم.
أشرقت بسمتها و نظر حواليه ليتأكد من أنها له وحده، و ليشعر بعدها أن حجمه يتضاعف ليصير في ارتفاع جبل شاهق يمكنه من ان يطرد الكلف الذي يعكر صفو بدره.
في أوج المد المشكل من انبهاره انتزعته يد ثقيلة حطت على كتفه و هزته بعنف. و صوت خشن بعد ذلك يسحبه من توحده و انسجامه الروحاني قائلا: إن أردت الحصول عليها فانت تعرف جيدا ما الذي يجب القيام به. لكن الثمن هذه المرة باهض جدا.
لم ترتفع قهقهته الماجنة كما كان يحدث دوما إيذانا بقبول المقايضة. تريث طويلا قبل أن يجب: صدقت. الوضع مختلف هذه المرة. لكن اكبر إهانة يمكن ان ألحقها بمعشوقتي هي ان احصل عليها بمقابل مادي.
انذعر الجندي الفرنسي من الجواب وعقب: لن تلحقها في هذه الحالة،لاني ببساطة ساكون قد ازهقت روحك.
لا يذكر كيف وجد نفسه ملقيا على الأرض و الأرجل ترفسه في جو احتفالي اختلطت فيه صرخاته بقهقهات رواد الحانة الذين وجدوا المشهد مسليا و رائقا، و ليتصاعد ايقاعه على قدر الاذى الذي كانوا يلحقونه به. غير ان الاجواء هدات فجاة. وقد اتاح له التوقف من ان يستعيد بعض قواه و يلقي نظرة على حاله. وعند الابوابة رأى ضابطا فرنسيا يقف متاملا المشهد.
حبا إلى البوابة، وتشبث بالجدار وهو يحاول الوقوف. ثم اشتكى للضابط لما أصابه من جنوده. فرد عليه قائلا: لا اجد ما يستدعيني للتدخل في هذا الامر. فأنتم كما انت، عراة و همج من غيرنا.
لم يحاول ان يتلافى الضربات بعد ان استانفت الحفلة. كان يشعر أن في كل لكمة يتلقاها و في كل قبضة تنهال على وجهه أو على بطنه أنها تسقط الكثير من الطمي المترسب فوق روحه. و ان تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها ان يستعيد طهرانيته.
كان قد وصل الى معسكر رجالات المقاومة في اعلى الجبل. وحين خطا خطوته الاولى داخله، تناهى إليه السؤال: هل يوازي الوطن لدى هؤلاء سحر و قدسية زينب؟
عبدالله البقالي
ما كان ممكنا في ذلك الليل الشتوي ان يسمع غير صفير الريح وهو يتحدى نفسه باحثا عن نهاية للمدى. لكنه بخلاف ذلك لم يكن يلتقط غير أصداء ذلك المشهد الذي لم يمل من تكرار نفسه، للحد الذي كانت تتناهى اليه كل الصرخات و القهقهات الماجنة التي تنبعث من حانة “لاسطراص”. و الوجوه ظلت ماثلة لعينيه و لم يكن بمستطاعه ان يرى غيرها ، بل وان يرى فيها تفاصيل و جزئيات لم يكن قد انتبه اليها من قبل. لكن ذلك لم يكن مهما بقدر ماكان الاهم هو ان يعرف سر تقلبها عنه في تلك الامسية. و لا لم نظرت إليه بتلك الغرابة المليئة بالحقد، ليتجمع حوله كل رواد الحانة من الجيش الفرنسي. ويعاملونه معاملة قرد شق طريقا خطا ليجد نفسه وسط حشود أدهشها شكله، و صنعت الهمجية غرابة تعاملها معه.
في كل السنين الطويلة المتوارية لم ير الحياة غير بساط محدودة الأفق، و ان الاشياء المحكومة ببداية و نهاية لا يمكن ان تجعل المطلب الذي يستحق الحرص عليه لمن سيقطع مساحتها أكثر من ان تعاش بدون عقبات و بلا عناء. ومادام تلك هي الغاية، فلا شئ غيرها يستحق الاعتبار.
حين حل الفرنسيون بالقرية اول مرة، كان من القلائل الذين لم يفروا الى الجبال او يلوذوا بالكهوف. بل ذهب الى حيث استقروا مستطلعا أولئك القادمين. وليعي بعد ذلك أن المسافة التي قطعها في ذلك الصباح من بيته الى مشارف الثكنة، كانت بطول اختراق عصر لعصر. و ان العودة من حيث اتى كانت مستحيلة.
مع القادمين عاش كل ما يمكن ان يجعل بساط عمره ربيعا لا يذبل. لم يكونوا كلهم فرنسيون. و الاهم أنهم لم يكونوا كلهم رجالا.
في ذلك العالم الذي خبت فيه الأصوات القديمة، امتد عالم اخر وجد فيه أشياء كثيرة متجاوبة مع تطلعات فحل وضع خطواته الاولى على مسار الرجولة.هناك عاش النشوة الاولى لسائل سمع عنه كثيرا، لكنه لم يجربه من قبل. و حين تذوقه، عشق الرجس.
كان يفرغ الكاس في جوفه الذي كان يتحول إلى شاشة تبيح له تتبع كل ما يحدث بعد ذلك. يراه ينحدر و ينحدر. وحين يصل الى القعر الذي ما بعده عمق، كان يشعر بانشطار قوي تتولد عنه طاقة عجيبة. وحرارة مختلفة تنطلق من المركز الى اقصى قطر من احشائه. و لتتجه صعودا في رحلة معاكسة بعد ان تكون قد ارسلت ما يكفي من الاشارات الى دماغه الذي يستيقظ فجاة من سباته. مستنفرا كل الخلايا من اجل استقبال هذا التأثير الساحر الذي يستسلم له طواعية. بل بخنوع و تودد، مطالبا بالمزيد من الدفعات المنعشة. لينتشي للحد الذي يدوس فيه كل القواعد التي اعتمدها من قبل. و يشطب كل متابعاته و تصنيفاته. وتتلاشى كل الترتيبات التي شيدها. تتفسخ العقد. و تنهار الاسوار الدفاعية التي كانت نفسه تتحصن خلفها، لتعمد الى ان تكون اول ما تقع عليه العين حين ينظر اليه. و لتصبح اول من يعكس الاصداء التي تتناهى اليها. و انذاك فقط كان ينتابه احساس حقيقي. إحساس أنه فعلا بدا يعيش.
ينظر حواليه في لحظة لا سيادة فيها لغير الاحساس بالانتشاء، و يكتشف ان ليس اروع في حالة كتلك من ان تلتقط مسامعه صوتا انثويا مليئا بالاغراء و الرغبة. و تجلس صاحبته مجاورة له. و انه يستطيع ان يترك لتفاعلاته أن تمضي الى نهايتها دون ان تطالعه نظرة مستفهمة أو اخرى مستنكرة. ودون ان يكون لمختلف اشكال الرقابة داخلية او خارجية أي وجود. و حين كان ينظر في عينيها، تموت كل الأبجديات بعد ان يدرك أن الكلام الصادر عبر الصوت هو احط انواع اللغات التي يبتغيها الانسان جسرا للتواصل.
يتضاعف الاحساس بالنشوة للحد الذي يتساءل معه ما ان كان قد امتص كل الطاقة المنثورة في الكون، و لذلك يراه ينكمش و يضيق. ام أنه شحن بقوى كل المردة الذين عبروا التاريخ، و لذلك صار بإمكانه قطع أقاصيه في رمشة عين و بفتحة من ذراعيه. وساعتئذ كان يعي أنه إن كفر بالشيطان يوما ففقط لأنه بسط معالم تحد لا يمكن كسره. و انه فتح أفاقا للمتعة من المستحيل بلوغ نهاياتها. لكن هل عدم بلوغ تلك النهاية هو شعور يمكن ان يولد الإحساس بالتعاسة؟ و هل الزهاد و النساك الذين نبذوا الحياة و المتعة و ضاقوا ذرعا بأضواء الدنيا إنما فعلوا ذلك من اجل إثبات أن الحياة لم تستطع ان تسلبهم سلطاتهم على ذواتهم، ام انهم رفضوا ان يحشروا في اشواط بلا نهاية و لا نتيجة غير أن يبقوا عبيدا للمتعة؟ .. و إن كان يستطيع ان يفهم موقف الزاهدين فكيف يفهم موقف أولئك الذين لم يبلغوا شيئا في الحياة و لاذوا بالجبال مع اسلحتهم العتيقة وهم يمنون انفسهم بغد قد لا ياتي ابدا و يقضون أعمارهم تحت رحمة العراء و الجوع؟
لحظات الصفو تلك لم تكن لتدم طويلا. بل لم تكن تستغرق أكثر من الوقت الفاصل بين لحظات استيقاظه و مغادرته للفراش وهو يستعد لركوب موجات الزمن السريع الذي يبدا ساعة توجهه الى الحانة.. و على طول المسار الفاصل بين سفح الربوة و قمتها كان يستشعر البؤس المنتثور حواليه و الذي يشهد على ان ساحرا قد سلب الدنيا مفاعلاتها. وبين هول الفارق بين الحالتين، جعل حياته سجلا دونت فيه نساء قادمات من شتى ربوع العالم أسماءهن ، و قصن شرائط من اعمارهن ووضعنها على ضفاف عمر رجل عشق المتعة و صرف بسخاء من اجل ا لا يكون مسار عمره وحيد اللون. غير انه في تلك الامسية رأى زينب.
في كل حكاياته السابقة التي استرعت احداهن انتباهه، كان يعمل على الحصول عليها بطريقته. ولم يحدث ان تشابهت طرقه. في كل مرة كان يسلك واحدة مختلفة عن السابقة مؤكدا بصماته الابداعية في لفت الانتباه. و في اللحظات التي واجه فيها صعوبات، كان يدرك على الفور ان معشوقته لا يمكن ان تترك ضابطا ساميا وتتجاوب مع رجل مدني من الاهالي لا يستطيع أبدا أن يحميها من شطط عاشقها و من معلمتها المتسلطة. و لان الامر كان كذلك، و لانه لا يدين لاحد غير اهواء عشقه، فلم يكن يرضى ان يرتفع في الحانة علم غير علمه. و ضحكته المشهورة كانت تعلن قبل ارتجاله لكلماته أن السهرة في تلك الامسية ستكون مجانية إلى النهاية. و انه بعد ذلك سيدس اوراقا نقدية مهمة في جيب ذلك الذي لا يقوى على انتزاع منه معشوقته بغير تلك الطريقة. غير ان الامر اختلف كليا حين راى زينب.
حين ألقى نظرة استطلاعية على من حوله في الحانة تلك الامسية، لم يمض الى النهاية في استعراضه. وكمثل من رصد امرا خطيرا، استدار بكل انتباهه و راح يحدق في تلك القادمة الجديدة.
شعر أن ثمالة السنين تبارحه. وقلبه يخفق بشكل مغاير. دماؤه تفور. و عرق يتدفق عبر المسام. كانت زينب. الفتاة التي يجزم انها تركت الصبا على بعد خطوات قليلة من بوابة الحانة. في ملامحها قرأ كل حكايات البراءة التي روتها جدته في اماسي الشتاء البعيدة. الحكايات التي عشق كائناتها العجيبة و التي حفرت في وجدانه ألقا و تطلعا و أملا في أن تضعه الصدف السعيدة في قلب واحدة من تلك الحكايات الحالمة.
في كل خيالاته و احلامه كان يرسم مشاوير لحكاية لم تخلق بعد. ومن اجل ان يكون قادرا على التحليق في سماء الاحلام كان يقدر حجم الثقل الذي يجب ان يتخلص منه ليليق بكائن نوراني قادم من مجرة الاحلام. التهذيب الذي يجب ان يطال نظراته. الحشرجة التي يجب ان تنزاج عن نبرات صوته ليصبح هامسا ككلام الاحلام الجميلة. المكر الذي يجب أن يموت في ابتسامته. الغلظة التي تفصح عنها تفاعلاته المشكلة من توقده الداخلي الذي يغذي حركاته و يرسم ملامحه. الثبات الكلي لقلبه الذي بجب أن يتخذ حجم عقيدة . واخيرا الولاء الكلي لحياة لا يمكن ان تبدع غير الرقة و الجمال.
يستدير ليجد نفسه مطوقا بوضع مستحيل. لكن ترتفع في عينيه بقايا رغبة في المقاومة و يسال نفسه: هل مازالت هناك ثمة امكانية في ان يكنس كل ذلك الحجم الهائل من الطمي الذي تكدس فوق روحه ليستعيد كنهه الخالص الذي تاه عنه؟ وهل بإمكان الطهرانية أن تشق طريثقا صوبه وهو الذي في كل خطوة خطاها من الصبا إنما كان يبتعد و يفر منها؟
شعر ان الثقل الذي يرزح تحت وطأته يزداد اكثر فاكثر. و انتابه اليقين في أنه خلق لشئ آخر غير ان يكون الانسان الذي يعيش في وئام و انسجام تام داخل حياة تؤطرها الأحلام.
طلب كأسا جديدا. و حين هم بتجرعها باغته سؤال لم يتوقعه: هل ذاك الذي كان متسكعا وانتهى به الامر حمالا في ميناء مرسيليا و الذي تجالسه الآن هو اقرب أليها من حلمه الطفولي؟
رفع رأسه ليطالعه البدر الذي خصه لوحده بكل ضيائه. و ليتاكد من انه لم ير وجها من قبل بذلك الصفاء ولا كان لديه يقين بأن هناك عيون مغناطيسية تحرر الاجساد من ثقلها و تسحبها في فضاء لا معنى فيه للمعالم.
أشرقت بسمتها و نظر حواليه ليتأكد من أنها له وحده، و ليشعر بعدها أن حجمه يتضاعف ليصير في ارتفاع جبل شاهق يمكنه من ان يطرد الكلف الذي يعكر صفو بدره.
في أوج المد المشكل من انبهاره انتزعته يد ثقيلة حطت على كتفه و هزته بعنف. و صوت خشن بعد ذلك يسحبه من توحده و انسجامه الروحاني قائلا: إن أردت الحصول عليها فانت تعرف جيدا ما الذي يجب القيام به. لكن الثمن هذه المرة باهض جدا.
لم ترتفع قهقهته الماجنة كما كان يحدث دوما إيذانا بقبول المقايضة. تريث طويلا قبل أن يجب: صدقت. الوضع مختلف هذه المرة. لكن اكبر إهانة يمكن ان ألحقها بمعشوقتي هي ان احصل عليها بمقابل مادي.
انذعر الجندي الفرنسي من الجواب وعقب: لن تلحقها في هذه الحالة،لاني ببساطة ساكون قد ازهقت روحك.
لا يذكر كيف وجد نفسه ملقيا على الأرض و الأرجل ترفسه في جو احتفالي اختلطت فيه صرخاته بقهقهات رواد الحانة الذين وجدوا المشهد مسليا و رائقا، و ليتصاعد ايقاعه على قدر الاذى الذي كانوا يلحقونه به. غير ان الاجواء هدات فجاة. وقد اتاح له التوقف من ان يستعيد بعض قواه و يلقي نظرة على حاله. وعند الابوابة رأى ضابطا فرنسيا يقف متاملا المشهد.
حبا إلى البوابة، وتشبث بالجدار وهو يحاول الوقوف. ثم اشتكى للضابط لما أصابه من جنوده. فرد عليه قائلا: لا اجد ما يستدعيني للتدخل في هذا الامر. فأنتم كما انت، عراة و همج من غيرنا.
لم يحاول ان يتلافى الضربات بعد ان استانفت الحفلة. كان يشعر أن في كل لكمة يتلقاها و في كل قبضة تنهال على وجهه أو على بطنه أنها تسقط الكثير من الطمي المترسب فوق روحه. و ان تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها ان يستعيد طهرانيته.
كان قد وصل الى معسكر رجالات المقاومة في اعلى الجبل. وحين خطا خطوته الاولى داخله، تناهى إليه السؤال: هل يوازي الوطن لدى هؤلاء سحر و قدسية زينب؟
عبدالله البقالي