محمد ربيع حماد - مواسمُ البهجةِ..

على عكس ما قد يتسلل الحبُّ حتى يتغلغل في الشغاف، لا أظنه مفارق هذا الكيان الشعوري الذي احتله، إلا أن يُنتزع بغتة ليكون الكي هو الدواء الأمثل. ربما أورثتني قصتي التي سأسردها الآن بعض الحكمة، حتى يتسنى لي استخلاص هذه المقدمة التي يمكن عزوها لأحد الفلاسفة. فردوس، مُسمَّاي الأثير الذي أطلقته أمي على شوقها لأنثىٰ مشتهاة، بينما سَمَّاني أبي تيمُّنًا بأعلىٰ مقامات الجنة، لكنَّني لم أشبه اسمي يومًا، حيثُ فطنت مُبكرًا لكلِّ مقامات الجحيم.
كثيرًا ما تمنيتُ رفقة والديَّ إلىٰ الموت في تلك الحادثة المشؤومة، لكن قُدِّر لي أن أبقىٰ تلك الطفلة اليتيمة، أعيش تحت وصاية ثلاثة إخوة ذكور، يقررون شؤون حياتي وفقًا لدوافعهم النفسية التي رسَّختها فيهم أعرافنا وتقاليدنا التي أكنُّ لها الكثير من البغضاء، أنا بنت على أي حال، لم يكن لي أصدقاء في كلية الصيدلة، كان لي معجبون كُثر، شعرت من أحدهم بصدق مشاعره، كان خجولًا، صوته الخافت، بشرته الحنطية، هدوؤه الفاتن، شفتاه الباسمتان لا تغادران مخيلتي!
حتى سقط قلبي -رغم حذري- بين بريق عينيه، فكانتا كفيلتين بإعادة الدفء من شغفيهما، وإحالة الركود إلى فوضىٰ عارمة، وحدي أستمتعُ بضجيجها.
رويدًا تجرَّأ واقترب قليلًا، أبدى اهتمامَهُ بالرسائل المهملة في كتبي، وبعض القصائد التي ما زلت أحفظ بعضها، رغم كل شيء لم أبادله شيئًا ظاهريًّا حينها، لكنني كنت أشعر بسعادةٍ تجتاحني لمجرد التفكير في الأمر قليلًا، يومًا ما طلبت محادثته، استحضرتُ رباطة جأشي لأنهي هذا الأمر، نعم أنا جادة، لا وقت عندي لهذا الهراء المسمى -وَهْمًا- بالحب، سأكون حازمة، وإن تطاول سأصفعه لئلَّا يفكر بالأمر حتى.
ها هو قد جاء، لكني رأيته قادمًا بلهفة عاشقٍ، واسترسلتُ في حديثي فلم تكد عيناه تثبتان في مكانهما، وفاضتا بصدق قلبه، ثم لم أَدْرِ ما بال لساني ينطق بما لم آمره به، يا إلهي! مَهْلًا ما الذي يحدث، أشعر بقوتين تَصْطَرِعان داخلي، ثم انفجرت بكل ما خالَجَني من ارتباكٍ بوجهه، أخبرته أني معجبة به، بل أحبه، بل أخاف أن تفرقنا الدنيا وأني سأفقد تلك الحياة التي دَبَّت بي مع انقضاء هذا الشهر الأخير من الدراسة، وختمت حواري قائلة: (خُد بالك من روحك) كنت أعني ما أقوله جيدًا، إلى حد أن دموعي صدَّقت علىٰ كل كلمةٍ وشهقة، وَدَّعْتُه ومضيت. يحدث أن تفرَّ الكلمات من محبسها الهَشِّ إذا ضاق بحملها السكوت.
رافقته شهرًا بألف عام، أحببته كأني حُزْتُ الحبَّ كله ولم أترك منه شيئًا لمن يعشقون بعدنا، انقطع بيننا الاتصال لرفض إخوتي له للمرة الخامسة بحجة أنهم أدرى بمصلحتي!
تخرَّجتُ، ومن ثَمَّ لم يَدُمْ طويلًا سكوت إخوتي أمام رفضي عروض الزواج المتلاحقة، سيَّما بعد تعييني في إحدى المستشفيات، بطبيعة عزلتي التي صاحبتني بعد ذلك أمدًا طويلًا.
ثَمَّةَ تَحَوُّلٌ يطرأ على شخصياتنا بسبب الخِذْلان والقَهْر، أصبحتُ امرأة كل ما تمثله في الحياة أنها زوجة بالخطأ، من لا شيء تدبُّ المشكلات في أعياد زواجنا فضلًا عن مواسم أخرىٰ يفترض أنها منذورة للبهجة، بلا وعي من أيامي المسروقة، بتُّ أمًّا لطفلتين آيتين في الحُسْن، حرص زوجي علىٰ إنجابهما بسرعة، ولا يزال رجالنا ينتهجون استراتيجيات تقليدية لتكبيل زوجاتهم مبكرًا، وتقنين حركاتهن والحد من طاقاتهن أو هكذا يظنون!
وانطفأ النور في عيني، لكن قلبي ما زال مُضاءً بنور تلك الذكرى، حتىٰ وجدتُ رسالة على بريدي الخاص بحساب الفيس بوك؛ انتفض قلبي من مكانه وأنا أقرأ نداء شوقه العابث فيَّ حَدَّ الجنون.
هذا هو، هذه صورته، لم تتغير ملامحه كثيرًا، عدتُ مسرعةً إلى خانة الرسائل لأقرأ: «الروحُ الشاهقةُ التي علَقت بنجمةٍ مَأمورةٍ بحَرقِ شيطانٍ يَسْتَرِقُ أخبارَ السَّماء؛ كانت لي. تلكَ الرُّوحُ التي ضاجَعها القلقُ أثناء معراجِها أكثر من مليون مَرَّةٍ حيالَ أمرٍ لا تطيقُ احتماله. تلكَ الروحُ التي لا تموت ولا تُعذَّبُ ولا تبلى لكنَّها الآن في مأزقٍ عَثِرٍ.
ذات مرةٍ قُلتِ لي: «خد بالك من روحك» حينها لم أكن مُهيَّأً لاستجلاء مقصدكِ من اختيار هذه الجملة -تحديدًا- لإنهاء حديثنا العادي، لكنها أزعجتني كثيرًا!
وكَأَنَّها إشارةٌ لآخر لقاءٍ بيننا، هاتفتُ نفسي لائمًا: مهلًا ولماذا تزعجني؟ ألم يكن حديثًا عاديًّا؟! تداركتِ دهشتي بقولكِ: إنها عن طريق الخطأ لكنَّ عينيكِ كانتا تقران بأن هناك شيئًا تيقَّنتُه بعد حين. لم تكُن جملة وداعٍ بالمرة، كانت بركانًا نشِطَ لتوِّهِ بعد خُمولٍ، ولم يكن حديثًا عاديًّا في الأصل؛ كان احتراقًا على نارٍ هادئةٍ، كان تلبيسًا على الشيطان نفسه الذي كان يُراقبنا، لذا هو أخفق في مَهمَّته وعادَ من حيث أتى، لم يؤتَ لي بعد تمام أربعة أشهرٍ من رحلةِ هذا الشَّيء اللَّزِجِ الذي عبر بي إلى موطني الأول، أن تلك الروح التي حلَّت بهذه المضغة ستمتزجُ بأخرى شبيهةٍ في يوم ما، وسيلتقيانِ على حافَّة احتراقٍ، وأن نسبة نجاحهما في العودة؛ كنسبة نجاحِ ولوجِ الجَمَلِ في سَمَّ الخِياطِ».
انتفضت كل ذرة في خلاياي وبكيت كأني لم أحزن قطُّ، لوهلة أبصرت مصيرنا، ثم ساءلت نفسي: بم يمكن أن أرد عليه وأنا على هذه الحال؟ لَمْلَمْتُ شتات قلبي وفتحت خانة الرسائل وكتبت:
«نحنُ غُيومٌ عواقر، حاجتنا لغناء العصافير الجوعىٰ أكبر من احتياجنا للخيرِ المُرتجَىٰ من مائنا الكاذب، يجبرُنا النقصُ على التخلي، فننتبذ أقصىٰ مكانٍ بداخلنا حيث نبكي ما استطعنا إلى الموت سبيلًا، دون أن يخدش أحدهم وقار دموعنا، ويا للمفارقة؛ حين يراك الآخرون ضُمادةً رقيقةً بينما أنتَ تذوبُ حتىٰ تهلكَ روحكَ وتفنىٰ سيرتكَ التي لم تكن لك»، ثم أتبعت هذه الرسالة بقلبٍ لم يزل نابضًا بدقاته البكر، وفعَّلت آلية الحظر.

محمد ربيع حماد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى