ميسلون هادي - جوهر وأصحاب.. قصة قصيرة

همس لها الفتى الأشقر في أذنها وهو يضع المظلة فوق رأسها في يوم مطير.. تحمر خجلاً وتنظر إلى كشاكش فستانها البيج ثم إلى الأرض المنخفضة، فترى رؤوس الأعشاب الصفراء مدهوسة تحت قدميه..هكذا هي اللوحة التي تتدلى منها خيوط العناكب.. فيها فتى يهمس باذن فتاة وتحت قدميهما ورد مدهوس.. وهذا لا يجوز أن يحدث مع الورود.. عشرون مرة لا يجوز.. الجزء مهم كالكل، والورد مهم كالمطر.. ومعنى ذلك أن ينتهي ذلك الحلم الوردي ويسقط من الجدار المتسخ إلى الأرض، لتجعل الفتى الاشقر يسير قربها فوق ساقية ناشفة الطين وخالية من الورود.. هو على ضفة يابسة وهي على ضفة أخرى.. اللوحة لا تعني شيئاً بدون الفتى الأشقر، ولكن الساقية أصبحت خالية من الورود الصفراء المدهوسة، وهانئة تنظر إلى الأرض خجلاً لأنها لا ترى نفسها هانئة إلا بالانحناء…
هانئة رومانسية جداً تحتفظ في خزانتها بالكثير من أباريق الشاي، وفي غرفتها بحمار وحشي أزرق اللون تقف فوق ظهره سلحفاة.. قرب الحمار الوحشي تجلس قطة برتقالية ملحاء، وتمساح صغير أخضر اللون….. هانئة تطلق أسماء الثائرين والملوك المخلوعين على الضفادع التي تتسلل من حديقة القصر المجاور إلى زواغير حديقتهم.. وهل هناك من يهرب من الجاه والعز إلى سواقي بيت بحجم المنديل سوى ثائر صعلوك أو ملك مخلوع؟.. واحدة من تلك الضفادع تسللت إلى سجادتها المبرومة تحت السرير، فأطلقت عليها اسم الملك فاروق بعد أن قفزت من السجادة، وكشفت عن جسم ممتلئ وعينين كحيلتين تشبهان نظارة شمسية… وأخرى جميلة خاكية اللون أطلقت عليها اسم آرنستو بعد أن عثرت عليها مختبئة في سندانة الورد .. أما في سلة الدناديش فتوجد ثلاثة أقراط على شكل ورود النرجس.. ليس بينها واحدة من الذهب الخالص.. ولا توجد أيضاً معاضد أو خواتم من الذهب….. هذا شيء مرعب حقاً بالنسبة لكل معلمات المدرسة اللواتي يقضين الضحى في فطور لا ينتهي.. تتخلله حوارات تركية تتطاير بين الأوراق المتقلبة للدفاتر الأزلية.. بينما تنظر هي إلى لوحة الفتى الرومانسي الأشقر الذي يهمس في أذنها ويضع المظلة فوق رأسها.. وشتان بين شيء تحبه هانئة وشيء لا تحبه.. تحب رائحة بخار الشاي الخدران، وتثمل بغيوم الخبز الساخن، غير أنها لا تحب هذا الصخب والضحك الكثير عن أعراس القطط وقت الربيع.. تفضل عليه همس الفتى الأشقر، وحنينها إلى شيء غامض يشبه ألوان شفافة لقوس قزح حول فقاعات الصابون.
– تعالي تعالي.. تعالي.
ولا تجيب إلا بالضحك الخافت على نداءات الخبز الملفلف على شرائح الباذنجان الأسود….
– تعالي يا هانئة.. تعالي تعالي.
لا شيء أبداً هناك سوى قاموس شيطاني يشبه الطابوقة تستعمله المعلمات لقراءة الحظوظ وفتح الفأل الحسن.. ليس حسناً دائماً، لأن الكلمة التي قد تظهر بعد كشف أكاليل الأوراق قد تكون مرعبة وحزينة، فيتلافيْنها إلى كلمة أخرى تليها بالتسلسل فيصبح الموت موجاً ويصبح البين بيتاً.. تضحك من ذلك الكون الكلامي الذي يلكنه البنات بأفواههن المليئة بالشياطين… أما هي فلا تريد أن تكون باذنجانة سوداء فوق طابوقة الحظ السعيد.. ستكون شجاعة لتبقى على ما هي عليه.. وما كانت عليه.. شعرها المنفوش ستربطه من الخلف بمطاطة التفاحة الخضراء.. أين وضعتها؟ حول معصمها المليء بالأساور الكذابية.. لن تتوقف عن ذلك….. لن تتحطم في بحثها عن الذهب.. لا أحد ولا حتى الفتى الأشقر سيجعلها تحب ذلك اللغو عن القطط وقت الضحى..
– معنى ذلك أنك لا تحبين القطط..؟
وهل هناك شيء لا تحبه هانئة سوى أنفها الكبير؟….هذا الجزء المتقدم أمامها من الجمعة إلى الجمعة.. ومن الخريف إلى الربيع.. عدا ذلك فهي تحب البحث عن الجوهر خلف الوجوه.. تحب أن تقشر الوجوه عن تعابيرها وألوانها وسحناتها المتربة لترى ماذا يتبقى بعد ذلك.. وما يتبقى أو جزء مما تبقى هو الذي تحذفه من المظهر لتضيفه إلى الجوهر.. تحب هانئة تلك اللعبة كثيراً واخترعت لها قوانينَ سرية لا يعرف بها أحد.. سعيد الدنغوز مثلاً حارس المدرسة كان مغموراً بلا اسم مشهور في الأخبار.. ولكنه يغني مع نفسه مثل أي شخص مهم، وله ضحكة صافية كأحلى ضحكة يضحكها وزير خارجية.. وعندما تنظر إليه فلن ترى غير ذلك الجزء المهم من الجوهر …. وجمانة الحقيرة ترد السلام برفع يديها بطريقة مرحة كما يفعل العسكر.. وكم تحبها عندما تفعل ذلك، وبدلاً من النظر إلى طولها المفرط أو حاجبها الرفيع، تعثر عادة في وجهها على طفولة جميلة مدفونة تحت طبقات متراكمة من العمر.. نادراً ما يتبقى في النهاية أثر غابر لا تحبه هانئة.. فلا شيء مهم في الملامح الفانية عدا أنفها الذي كان علامتها الفارقة بين البنات وأصبح حاجزاً كعلامة الـ( (xبينها وبين الأصحاب..
ولكن نقيض الشيء منجذب إليه.. وصديقتها الوحيدة التي تعمل في قسم الإدارة كانت جميلة جداً ووراء ظهرها شعر طويل ملفوف في وشاح أسود اللون.. ملظوم بالنمنم الأسود أيضاً.. تزيحه بحزم أول ما تدخل إلى مدرسة البنات.. فتصبح هي الأخرى شيطانة فوق طابوقة الحظ السعيد.. تحب شرائح الباذنجان المقلية، وأقراط الذهب واللون الأحمر كثيراً، أما في لعبة البحث عن الجوهر فسوف يتبقى منها الكثير.. نظيفة وأنيقة وتلثغ بحرف الراء.. واسمها هانئة أيضاً، فكيف يميزونها عن هانئة الأخرى؟.. أكيد سيهتمون بالمظهر، لا بالجوهر، فيقولون مثلاً هانئة ذات الشعر الطويل، لكي يكون التعريف دقيقاً………..” وذلك أهون من تعريفي بهانئة الأخرى.. بالعانس الأخرى.. من غير المعقول أن يقال عني عانساً… لست أنا المسؤولة عن ذلك، وليست هناك من حظوظ مدهشة سوى عند التقاء الجينات”.
وإذا كانت العظام الرميم ستحيا ذات يوم، فلا بد أن تقشير الثمرات أسهل بكثير. وفي يومين بعد قراءة موضوع عن النعجة دولّي، تبين لها أن كل الذين خلقوا على شاكلاتهم قد خرجوا من دفتر شبيه بقاموس الحظوظ.. شجرة الحروف المسماة بشجرة الحامض النووي هي أكثر الأشجار مرحاً على الإطلاق.. تُلقي ثمارها كيفما اتفق ثم تلاقيها بحروف أخرى كيفما اتفق.. وأنت وحظك.. قد يتكون عن ذلك بدر أو هدر.. شمس أو طمس.. ثم تمضي الحياة ببدر دون أن يهتم بما تسبب من ظلم للسيد هدر لأنه سيكون قد لملم كل الضوء من الشجرة وأغلق دون باقي الثمار كل المنافذ. المهم هو أنها الوحيدة التي كانت بين إخوتها بأنف كبير…. وكانت تبدو لمن يراها من بعيد أكبر من سنها بكثير.. وأحد الشحاذين ناداها بالخالة بالرغم من انسدال لحيته التي تشبه لحية توت عنخ آمون…. والأنف العريض هو السبب.. واقعياً ذلك هو السبب.. فلا يمكن وهي الملاك تشبيهها بالملاك…. فهم لا يعلمون بأنها في كل يوم تمتلئ فيه السماء بالغيوم تشعر بروحها أصبحت على شكل موجة.. فعلاً تتموج روحها وترتجف من شدة الأسى، بل أن جسمها كله يتحول إلى موجات صغيرات تريد البقاء تحت مظلة الفتى الأشقر… ولكن كيف يجدي حلمها نفعاً وأنفها على هذه الدرجة من سوء الحظ ؟…
ثرثرات الباذنجان الأسود قد تكون مفيدة أحياناً وعن طريقها سمعت هانئة اسم الدكتور جميل، فمرت في خيالها لحظة من أجمل لحظات العمر ولحظة أخرى من أبشع اللحظات.. إنه الخوف الأكبر من نسيان الجوهر والفرحة الأكيدة بتغيير المظهر…….. وليست هانئة بهذه الدرجة من السخف بحيث لا تعرف التفضيل بين اللحظتين، لولا أنها ذهبت إلى الحمام فسمعت خلسة جمانة تسأل سارة: أين هانئة؟ أجابت سارة أي هانئة منهما؟ فقالت جمانة.. هانئة ذات الأنف الكبير…. تضّمن ذلك التلميح إشارة لم ترها هانئة لأنها كانت خلف الباب…. ومعنى ذلك أنها آخر من يعلم بذلك اللقب…. وإن جمانة الحقيرة هي آخر من تهتم بالجوهر.. يا له من تطبيق معكوس لنظريتها السرية عن المظهر والجوهر.. يا لها من طريقة ظالمة لتمييزها عن هانئة ذات الشعر الطويل.. شيء مرعب حقاً جعلها تخرج مرآتها من الحقيبة، وترى حالاً أنفها مطباً توجد أمامه علامة (x)…
الآن عليها أن تقرر.. وأن ترشدها جمانة الحقيرة نفسها إلى طبيب التجميل.. ألف يورو؟ هه؟ لماذا لم تجبها بالدينار أو الدولار عندما سألتها عن عنوانه.. أم أن اليورو يذوب في فمها كحلوى الرز بالحليب؟.. تظاهرت عاشقة اليورو أنها يجب أن تنهي تصحيح دفاتر الحساب بأسرع وقت ممكن.. ومضت خمس دقائق تبعتها خمس دقائق أخرى وجمانة لا تنظر إلى هانئة.. وكأنها شعرت بجريمتها في الحمام، فتراجعت مسافة مترين خلف كراسي غرفة الشاي.. يبدو أنها تتأمل سؤال هانئة عن اسم طبيب التجميل وتقول لنفسها إنه لم يكن صدفة.. وعندما أعلنت الساعة نهاية الدوام، ظل اسمه يتردد في رأس هانئة بدلاً من الحنين إلى شيء غامض في طريق العودة إلى البيت..
في ثلاثة أيام بعد ذلك السؤال ذهبت إلى الطبيب، وهي فراغ من نفسها ومن الجوهر ومن كل شيء.. لم يكن الطبيب جميلاً فقط بل كان كريماً جداً.. سألته عن شجرة الكروموسومات المرحة، فقال إن الإنسان يتكون من بلايين الخلايا المتراصة جنباً إلى جنب.. ولكل خلية نواة مليئة بست وأربعين كروموسوماً.. يبدو هذا جميلاً، ولكن ماذا يوجد داخل هذه الكروموسومات؟ سألت هانئة، فقال الدكتور جميل وهو يبتسم بحنان….. يوجد داخلها الحامض النووي الذي يشبه عقداً من اللؤلؤ طوله آلاف الأمتار، غير أنه أرق من خيط الملابس بملايين المرات. وعندما يُجدل ويطوى طياً محكماً ويُصفّ بشكل بديع، تتوزع عليه الجينات أو الموروثات كحبات اللؤلؤ وهي التي تحفظ المعلومات في داخلها… وهنا سدد الدكتور جميل إلى أنفها نظرة فاحصة، ثم لمسه وقال: وفي كل خلية من اجسامنا توجد نسختان من كل جين أو موروث واحدة موجودة على الكروموسوم الذي ورثناه من آبائنا والأخرى موجودة على الكروموسوم الذي ورثناه من أمهاتنا..
إذن بدون صوت ولا ضجيج تقاتلت الكروموسومات من أجل الفوز بأنف عريض.. ولم يعد هناك من صوت سوى صوت أنفاسي التي تعلو تهبط وأنا أعد.. واحد.. إثنان.. ثلاثة…، وقبل الوصول إلى الرقم عشرة اختفى وجه الدكتور.. واختفى معه كل شئ.. حتى سنوات الفتى الأشقر تحت المظلة اختفت بفعل المخدر.. وبعد العملية بيومين وجدت أنهم قد استخرجوا من أنفي الفاني حجمه الكبير.. وها أنذا من جديد أطل على جمانة الكلبة بأنف صغير يشبه أنف كاترين دونوف.. كيف لا أكون هانئة وقد أصبح أنفي يسير إلى أمام بدلاً من الانحناء والنظر إلى الأرض؟.. شعري أيضاً لم أعد أربطه بلاستيكة التفاحة الخضراء.. استبدلتها بعدة ألوان من زينات وأصباغ الشعر.. وبالنسبة للوحة الفتى الأشقر فمازلت أنظر إليها أحياناً، ولكن خيوط العنكبوت تناثرت فوقها وتدلت منها إلى الأرض.. ولا أهتم بذلك لإني أشعر بأنني أولد من جديد وأحيا بعمر جديد وأنف جديد.. وخلف باب الحمام سمعت ديانا تقول لسارة إن هانئة قد صبغت شعرها بلون جديد.. سألتها سارة هل تقصدين هانئة ذات الشعر الطويل؟…. تدخلت ليلى وقالت لا أنت مخطئة.. ديانا تقصد هانئة التي.. التي.. (صمتت قليلاً) التي كان أنفها كبيراً.. هكذا تحدثت ليلى الحقيرة دون أن يوجه لها الحديث أحد.. يا له من عالم فارغ وسخيف!.. في منتهى السخف.. وضعتُ كفي على أذني وبكيت..آه منك أيها الدنيا.. لم يتغير شيء.. لم يتغير شيء..


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى