رجاء بكريّة - باهِرة

رجاء بكريّة.jpg

الموج عجوز ثرثار. والدّنيا الّتي كانت جميلة قبل أنْ يتركها جلال ويذهب تبدو كقمر أزرق، والنّاس مُغبرُّون ومدمنون على الخلل والانطفاء . لذلك لا يكفّ النّمل الأسود عن حفر خنادقه في أجسادهم. تتوقّف عند غبار النّاس وتفاجِىء تلقائيّة تسلّله لقاموس عشقها. لا يوجد مفردات كثيرة تدلّهت بها لهذا الحدّ. ألأنّ جلال صادقه؟ يجوز أنّ حكايتها معه لم تبدأ قبل جلال، ولكنّها تتذكر دائمًا أنّ احتقان لونه كان مبرّرًا لفتنة لم تتوقّف عن تسجيلها في دفتر الرّسم. تطلب إليهم المعلّمة أن يرسموا سماء فتجلس تحت المقعد في آخر الفصل وترسم ترابًا فوق قبْر ثمّ تلوّنه بالبنّيّ والأحمر والأخضر، كلّ كومة ومستطيلها الخاصّ. تَزْكُر ورقة فوليوA4 بالكومات الصّغيرة القاتمة. ناعمة جدًّا مثل التّراب الّذي تقتفي أثره في حاكورة البيت لتعثر على صغار الخلد وتلاعبها بين أصابعها وتضحك. وحين تبحث عنها معلّمة الرّسم لا تحتاج لأكثر من انحناءة خفيفة تحت المقاعد لتجدها كما عوّدتها في آخر مقعد منهمكة بالتّسطير والمحو برغم نهيِها لها ألف مرّة عن استعمال الممحاة والمسطرة. تزعق فيها وهي لا تزال منحنية "لن تتوقّفي عن عادتك السيّئة". ترفع حاجبيها من بعيد، تلاحظ غضب المعلّمة. تستردّ عينيها بهدوء وتُرخي حاجبيها فوق ساحة البياضة الواسعة متابعة جبل التّراب فوق القبر الواسع بألوانها الخشبيّة، تزيح أطراف شعرها المنبوش ببصلة كتفها وتسترسل لسحابة الصّمت. مندمجة أكثر ممّا تعتقد المعلّمة في كوماتها الخاطفة لشوق طفولتها الشّقيّة. ربّما من السّفوح التّرابيّة لقوالب الوحل بدأت تنتظر الشّوق وتبحث عنه بليلًا في أكواع جلال لا يصل.

ثمانية وأربعين كومة، تعدّها المعلّمة حين تستنهضها مع ورقة الفوليو A4 ، "لا تخطئين أبدًا، لكنْ لماذا لاتسمعين؟ سيدفنك الغبار، ألف قدم تدُور حولك". حين تحاول المعلّمة نفضه تتمرّد . تفلت من يدها وترجوها ألّا تفعل ، "بس ريحتو زيِّ الشِّتا". تلفّ الدّهشة حول المعلّمة "وأنت يا باهرة بِتْحِبِّي الشِّتا؟". تهمس باستحياء منطلق الأسارير، "مِشْ بَسْ، بَمُوت فِيه". تعيش المعلّمة مفاجآتها اليوميّة مع طفلة المقعد الأخير الباهرة، لكنّها لا تكفّ عن سؤالها حين تعثُر عليها تحت المقعد لماذا حجزت هذا القبر، وجلبت جميع بيوت الخلد من حاكورة بيتها إلى المدرسة. باهرة لم تعرف أيضًا، ولم تنزعج من توقّف الكومات عند الرقم ثمانية وأربعين بدل سبعة وأربعين أو ستة أو تسعة. لم تتفوّق في الأرقام، تميّزت فقط في تكويم التّراب وجبْله، ولم يجرؤ على منافستها في عجينته أحد. وحين التقت جلال أقنعها، على أنقاض نقاش صعب، أنّه دعسات الصّمت في قلب الزّمن مثلما يصير صليل الجنس مرآة لدعسات الرّوح في قلب الرّغبة.

أحبّت هذه الدّعسات لأنّها مشتقّة مِنْ فعل قادر دومًا على التحقّق، مثل دعسات جنود جيش الدّفاع في الجنوب اللّبنانيّ ودعسات حزب الله في إقليم التّفّاح واللّيطاني، ودعسات لاجئي الـ 48 في رمْل المخيّمات، "ودعسات لهفتك يا جلال بين عيوني"، تهمس حين ينازعها الحنين. خضراء كالبقدونس الّذي يكبّره الفلاحون في صفائح الخَلّ. تشبه الّتي تراهنّا على احتمالات بقائها بعد أن يكنس الزّمن كلّ الدعسات. وكانت تشاكسه "دير بالك، هذه النّباتات الخضراء رهنًا لبقائنا معًا". بقيت هي، وذهبا كلاهما. هي مع صفيحة الخَلّ الفارغة، وهو مع التّراب الّذي عبّأ به جيوب سترته المهلهلة.

أحببتك، ربّما، لكن أكثر منك دعساتك. ألأنّ المرأة تحتاج أنْ تحسّ ثقلًا في أقدامها لتظلّ ممتلئة بالانتماء إليه، أم أنّه مسّ الكينونة فقط، أن تظلّ نقيض الصّدى ونقيض الفراغ؟ وأحببت الغبار منذ سمعتك تفسّر وجوده. "سيدفن أثاث البيت ويدفنك قريبًا تحته"، تقول صديقتها باشمئزاز. تسكّتها بكلامها الموزون عن فلسفة تسمّيها فلسفة الغبار، لم تسمع عنها من قَبْل، مردّدة كالببّغاء حديث جلال الطّويل والمتعب. أبهّره كما اعتدت بآرائي الماجنة حول منافعه الوهميّة. ماجنة كنت دائمًا في تهجئة محبّتي. منافع لم يُنْزِل الله لها من سلطان. حين أرتبك وتلحّ، أتذكّرُ قدرًا تركتها فوق النّار وأهرب. ألفلف الموضوع كيفما اتّفق وسط استهجانها المتزايد لفلسفتي الدّخيلة. تنهي الموضوع بتأفّف وضيق "أكيد باهرة جَرى لعَقْلك شِي" . تتركني خلف الباب على عَجَل وتعدو باتّجاه الدَّرج، كأنّما تتخلّص من عدوى وباء. أستوقفها لأستكمل جملتي فتجرّ أطراف فستانها الفضفاض. مِنْ زِرِّ ساقها يسقط اسم جلال ويتدحرج متململًا فوق لُزوجة الدّرج. تلتفتُ إليّ بحنق واعدة إيّايّ بموت جميل داخل الوهم. أنخرس تمامًا. يَعلق في ثقب أذني صدى الحرف الأخير. فيه شيء من الدّمْدمة والدّمْدمة تذيب روحها، ولو كانت مسرحًا لفرح.

جميع صديقاتها عُفْنها، وواحدة لم تعد قادرة على استساغتها. لن يفهمن أنّ الغبار موروثها الوحيد من ذكرى رجل تمنّت عنه الموت. منذ سقط تكتّل عقلي في مقدّمة حذائي كأنّما لم يكن قَبْل ذلك في أيّ مكان. زلّ ربّما كما أكّدت أمّي لجارتنا بدريّة. سمعتها من شبّاك المطبخ، المطلّ على ساحة البيت المائجة بشجيرات الحَبَق البرّيّ تبثّ لها ما قالته فتّاحة المندل، وتتحسّر بألم "هذه الحزينة لم يبق في رأسها، منذ ذهاب الحزين، بذرة عقل. كانت مولّعة فيه، وما يكون!" وفهمت من لون الحرقة الّتي التهبت في وجنتيها أنّ الحزين ليس غير جلال.

غريبة هذه المرأة، همست لنفسي، لا تكفّ أبدًا عن توبيخ ألَمِي، ولا يهمّها أن تحيل أخباري إلى نشرة جويّة عامّة. فغدًا سينتشر في الحيّ كلّه أنّ ابنتها أحبّت الفدائيّ الّذي فجّر حافلة الرّكّاب رقم 48 في شارع دزنجوف في تل أبيب. وغدًا أيضًا ستجوب وحدة شرطة الوحدة الخاصّة شوارع يافا بحثًا عنها. لم تصدّق مرّة واحدة بأنّه قادر على تفجير فَشكة في دجاجة. وكان حين يفعلون يحتجّ، "ليش يذبحوها؟، طيِّب يطخّوها".

كرهت أمّها أيضًا. إنّها ثرثارة كالموْج لا تكفّ عن الشّكوى وافتعال الحزن، حتّى أمام أفراد الشّرطة الّذين ماجوا في ساحة البيت. بدأوا يسألون، وبدأت تجاوب على كلّ ما لم تعتقد أنّها تعرفه عنه. مجرّد كلام يملأون به أوراقهم الجائعة لأسماء يعلّقون عليها أدانة. "أين رأيته آخر مرّة؟". "قرب المرحاض". "ماذا قال عن الدّنيا؟". "إنّها مثلكم سوداء، وابنة كلبة". "لا تطيلي لسانك". "أخاف إنْ قَصر ياسيّدي أن تطيله مرغمًا مقصّات بذاءاتكم". "ماذا قال عن اليهود؟" "ما يقوله عن العرب، أنذال". "ماذا لبس تحت بنطاله؟". "ما تلبسه زوجاتكنّ تحت فساتينهنّ". " آخِر جملة غزلك بها"، " أحبّك كما أحبّ الرّقم ثماني وأربعين". "أهكذا يتغزّل العشّاق في مخيّمكم بحبيباتهنّ؟"، "مخيّمنا فقير با سيّدي، ولأنّ رجاله لم يدوّروا رقمًا بين أيديهم منذ رأوكم يفتعلون هواية التّغزّل بالأرقام، أنت تفهم مجرّد وهم جميل". "آخِر أمنية تمنّاها"، "أن يصاب ليوم واحد بالتُّخمة".

لغمُوا رأسها بالأسئلة، وحين امتنعت عن الكلام لغمُوا جسدها بالكدمات. هزُّوا جسدها حتّى أغمي عليها. نزيف تدفّق حادًّا من بين ساقيها، من الموضع الّذي ظلّ جلال يتشوّق أن ينزف منه "لم يكن يحفظ غير الرّقم ثمانية وأربعين يا أولاد الكمبة". لم تفهم شوقه آنذاك، بل وكرهت أن تفهم. خافت أن يقتل الشّوق الغامض حبّها الجامح، فالرّجل يعاف المرأة بعد أن يفضّ سرّها. هو كالدّعسات الّتي تحبّ شوقها في فمه إنّها على عاديّتها غريبة وقاصفة، وقد رفضت مرارًا عروضه السّخيّة لتقـشيرها حين موّهته بجهلها. ظلّت ترفض وظلّ يدهش، هذه المرأة الفاتنة هل سيفهم المنطق الّذي يحقن خانات عقلها؟.

ذهبت أمّها شهورًا بعد احتفال حيّ التفاحة في يافا بكتيبة الوحدة الخاصّة. داهمتها الكآبة والمرض، وتمنّت بصمت شديد أن تأخذها إليها الملائكة، ليست أفضل من جلال لتعيش أشواق غدِه. كان له ألف شوق لذلك خطّأ تفسيراتها المرتبكة، ونواياها الشّريرة المتفاقمة تجاه وجودها. لقد ذهبَ وذهبت أمّها، ولن تملك قوّة ثنيها عن تنفيذ مخطّطها، حتّى قيامة جلال من موته. فاجأت نفسها حين صدّعت أجزاءها الوحدة بالوساوس والمرض، أيعود حقا؟ هل يعود الموتى من صمتهم! كانت عاجزة عن تجميع قصاصات جسده في صورة كاملة. دائما كان ثمّة جزء ناقص. ويبدو أنّه يرفض العودة إلى ما قبل انفجار الحافلة، همست لنفسها باستسلام، ودفنها اليأس بالشّوق. كم صعبة أشواقها إليه، تفهم الآن ذلك أكثر. أقلعت أمّها عن الثّرثرة، وأقلع جلال عن الاشتياق، لمن تحيا الآن؟ . يشعلها فحيح همسه، "هجّرونا عند الرّقم ثمانية وأربعين، وسوف نعيدهم إلى المحطّة نفسها، وسوف نتزوّج يا باهرة حين يستطيل الزّمن ويصير الشّهر ثمانية وأربعين يومًا، فقط حينذاك". مَغَلها الضّحك بعد أن سمعته يقول. عدّت الأيّام على أصابعها ولم تصل ليوم يحدث فيه زواجها. ضحكت مستظرفة النّكتة، يداورها والمداورة أسلوبه الأثير في إطلاق النّكات. لكنّها حين أصغت لبُكاء الكلمات في قلبها سكتت تمامًا وتسمّم ضحكها بالتّعاسة. حدّقت بسبلتي شاربيه الضّئيلين، وتملّكها إحساس بالعدَم. استخفّت بالدُّنيا ربّما وبه، وبالرقم الّذي يهدّد وجودهما معًا. وبضحكها الممجوج حين أحصت أبعاد نكتته، وقرّرت بكلام أبحّ يرتعد نقمة " إذن.. لنْ نتز..وّوّج أب..دًا".

تتذكّر الآن ابتسامته البيضاء، نصف مشتعلة تحت ياقته كأنّما تعتذر بنصفها المعتم عن تردّدها. قرحة، أجل قرحة ضيِّقة عند نصفها المعلّق دائما، لكنّها لم تتمكّن من خداعها، حتّى وهو مندفع في استعراض فلسفة غباره كانت تُعسعس روحها تـقاسيمه، وتتأكّد من فداحة الهُوّة الّتي سيخلص إليها، لكنها هوّة ماكرة لم تشعّ غير شقرقات الأمكنة في وجوه محيطيه. إلّاها هي كانت تجسّ نبض الأرقام في غمزة كوعه، كلّما انكشف عمقها اسودّت أصابعها وجعَر الخوف في حلْقها. لماذا كان حاذقا لهذا الحدّ في فلسفة الخداع أيضًا. هل فهم أحد غيرها كُنْه هذا الغبار؟كأنَ عاصفة تملأ مخيلته عندما يرتفع صهيل الخيول في حظائر الضّفّة الأخرى. ولم يقل وداعًا لصفيحة الخَلّ وأوراق البقدونس، هذا ما يؤلمها. وحيدًا وبعيدًا ذهب، ألِأنّه قطع عهْدًا على الشّمس قلّد غروبها؟ وحيدة يشيّعها الشّفق بعد أن يتلفّع النّاس في غرفهم وتُكزدر البرودة في الشّوارع. لكنّها تذهب لتعود، تتشبّث ببصيص حقيقة واهٍ.

استحالت رأسها إلى نافورة من الهواجس اللّئيمة كلّما أشرق قرص الشّمس أو أغرب. ساعات طويلة تسند حائط الشّرفة لتحرسها من اغتيال محتمل حتّى يسحبها أوّل انحدار للأفق. تعبتْ من عبث الصدى في مراييل مطبخها، وأصبحت غير قادرة على إحياء ما يموت يوميًّا في زوايا البيت. شيء ما سقط من رأسها أثناء النوم فوق المخدّة وأفرغه من الشّوق. دفنت قلبها الوَحشة وفي دمها تمزّقت أصوات اللّيل. أبَقيَ شوق بعد جلال؟ كيف يمكن أن تحادثهنّ ولا ينحشر أطلس عينيه الشّفيف عفوًا بين ثقوب الكلام. صديقاتها لا يفهمن أنّها تحتاج أنفاسه ونكاته وغباره، وخطوات الذّئب الجائع بين سيقان الكلام. إنَّ رجلًا لم يتقن رقص الأنفاس في نشوة الجسد كما فعل. تمنّعت ليمعن في المحاولة، وحثّته من بعيد على انتزاع استسلامها كما ينتزع مدلّه طوقًا من خصر راقصة آخر ليلة حمراء، بحيلة وشراسة. لحظة سقوطه تعربد تقاسيمها برغبة رَعِنَة. "هكذا هنّ النساء، (يمازحها لحظة تطوّق ساعده خصرها)، ينتشين لحظة السّقوط". تستاء وتتجهّم ظلال خدّيها، تعبس كثيرًا فيسارع إلى تقبيل باطن مرفقها هامسًا بانسحاق "لا تغضبي يا مليكة روحي، الكلام يطير مثل الحمام ومثل الغبار وأوراق الشّجر، لكنّ المحبّة تزهر في القلب إزهار الأبد". حبّها لتكوينه يفرغ غضبها كما تفعل قرصات الشّمس لبالونات الأطفال الملوّنة.

تقلّب رسائله الصّوتيّة داخل الحاكي، وتنأخذ بضحكاته، ببنْساتها المتكرّرة تحديدًا. لم يترك لها رجل ذاكرة زاخرة كالّتي أخلفها جلال. لسبب لا تفهمه كان حريصًا على رسم اللّحظة الّتي لا تشاركه مشاهدَها، يوثقها صوتيًّا بعناية ودقّة. "صباح الخير".. "مساء الخير". "وِلِك وينِك، انتظرتك قرب بائع الذّرة المشويّة، تذكرينه، أليس كذلك؟ قبل المنعطف المواجه لمقبرة النّصارى "لاح أخنْقِك مش عارف ألقِيكي، أنا قريب من ورق الخرّوبة اللّي سجّلنا عليها أسامينا، السّاعة سبعة ونص ، بس وينِك، وينك".. "إحكيني ضروري، حْداعش ونص قبل ضربة جرس الكنيسة، واليوم يوم الأحد. وقعت الدّنيا بكلساتي وتحمّص راسي، بس بلاكي ولا ولا ولا شي ماشي"، يغلق السّمّاعة ثمّ يعيد الأتّصال .."ماشي ماشي ماشي على مدرستي ماشي، بديييش أصحا قبل ما أشوفك، إفهمي عاد طفّرت بُسطاري وسَماي، قلبي انخلع ، اسأليني ليش؟ ..".. "مشغول على طول بس بفكِّر فيكي زيِ المَهْبُول".. "مشْتَقْلِك، ولك وين وين ربِّك؟ . تضغط أسنانها على آخر الكاف، تعيد مذاقها وتبتسم بقهْر. تذكر أنّها أعادت رسالة صغيرة بعد طول انقطاع لتُغيظه، "ربّي هناك فوق راسك، وربّك أنت؟" . أغاظه استفزازها، أيّام ثلاثة بطول ليلها وعرض نهاراتها، أين تذهبين؟ شتمها وشتم الدُّنيا الّتي ألقت على لهفته كبرياء صمتها.

كم يبدو الأمس فاتنًا وخائنًا . ابتعدت عن الحاكي بحركة عصبيّة ، ومشت في أعصاب رأسها قشعريرة. حاذت النّافذة وشتمت رائحة العتمة ودندنة نِبَالها. "لحدّ بعيد تشبه رائحة شعره" ، همست بألم. على غير توقّع تدفّقت موجة هواء صاقعة ونفضت الغبار الّذي حجّ إلى المكان. غمر وجهها فعبّت منه بسخاء وتسبّب على الفور بنوبة سعال حادّة. جرت إلى المرحاض لتستفرغ ما اختلط بسموم جسدها، ولم تسعفها غير قطرات متفرّقة من سائل حامض حدّقت فيه بحياد كأنّه لمعدة غيرها. معدتها خاوية ومنذ أيّام لا تمتلىء بغير الهواء، استراتيجيّتها في التّغلّب على القهْر.. بالموت . لكنّها لا تموت ولا يعود جلال، منذ متى لم تتفقّد زوايا البيت وتكتشف الغبار يتزاحم بهذه الكثافة؟ سيدفنها بلا شكّ، ويومًا ما ستجد نفسها تحته جثّة هامدة. لم تخطئ صديقاتها التّقدير. وإذا لم تفكّر بطرده سيقتلها. حرّضتها الفكرة على ذبولها، "لأنّها لا تموت يجب أن تحتلّ مكانه"، وعدَت نفسها . فجأة اشتمّت في بلل العتمة أنفاسه زكيّة كما اعتادتها، وتعبّأت حيويّة. مدهشة حين يتموّج الألق ثلجًا في عينيها. التفتت إلى الخلْف حيث يربض الحاكي وأطلقت خطواتها للهواء. نهض الهواء معها وأطلق ساقيه لفراغ الصّالة. نفضت الكنبة والزّوايا الّتي استوطنتها بيوت العناكب وأغمضت على حلم بهيج قبل أن تتجدّد ذاكرة الحاكي وتضربها في منتصف قلبها.. "ولك وين وين وي.ي ين ربّك". جرت وأغلقته بعنف أسقطه فوق قدمها وسيّل عصير شريانها . جرّت خطواتها وانهارت فوق الكنبة وتلاشى كلّ شيء. كأنّها لم تتألّق قبل لحظة. أصبح جسدها المرهق أشبه بخرقة مثقوبة يمطر من أطرافها البُكاء.

سكنت أنفاسها تحت الشّرشف المورّد بأزهار البنفسج، وهمهمت بقهْر "يجب أن تعود يا جلال ، أنا والغبار في شوق ساحق إليك". حين تناهت لمسمعها طرقات حذاء بعيد أبرقت عيناها وانتظرت مستثارة. كانت ستركض إلى الباب وتشرعه على مصراعيْه لولا أنّ الطرقات غيّرت وجهتها عند التواء السّلالم. بعد أن أقلع حفيف الخطوات أقعت فوق البلاط العاري، جاحظة الذّاكرة تلتقط الشّظايا، وتتذكّر أنّ آخر ما رأته من جلال قطعًا مدممّة لشكل جسد، لايمكن أن تسمّيها جلالًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى