عبد الرحيم سليلي - أضغاث ربيع.. قصة قصيرة

" أو أبْصِر شعبي
يَزْحَفُ فوْق رمالِ نبوءاتٍ اهترَاتْ
ليُغَيِّرَ
قاتِلهُ! "
من ديواني زخات منشورات اتحاد كتاب المغرب

هو لا يريد أن ينام رغم أنف عينيه اللتين تغالبان الانغلاق القسري بين الهنيهة والهنيهة، هو لا يريد أن ينام.. ومتى أطال النوم عمر الإنسان؟
لا بد أن يظل مستيقظا، حتى يتابع آخر أخبار الميدان الذي حوّلَه من ماسح أحذية منبوذ، إلى بطل قومي تتحدث عنه القنوات الإخبارية، وتقدمه للعالم بوصفه أول الموقوفين، منذ انطلاق المظاهرات، صبيحة ذاك اليوم المشهود.
لا بد أن يظل صاحيا إذن، وليستمر الضابط السمين في تكرار لازمته الرنانة، كلما سمع طلقة، أو دوي انفجار في الميدان الهائج: " السماء توشك أن تقع، السماء توشك أن....".
فلتقع إذن، ما الذي سيخسره غير جسد أضناه الانحناء على أحذية تفوح منها رائحة الجيف.
في البداية حينما سأله الشرطي عن الجهة أو الهيئة التي تقف وراءه، بدا عليه كأنه يُجلد بسياط من نار، كان يصرخ بغصة، ويلتفت يمينا وشمالا، ثم ينظر تحت قدميه، وكأنه يحاول إلقاء الكلام في بئر عميقة، ليتخلص من حمل ثقيل ابْتُلي به من حيث لم يكن يتوقع:
  • حليمة العرجاء يا سيدي.. والله، هي التي أرغمتني على الخروج هذا الصباح، لأنها حامل في شهرها الثالث، وتريد رأس جدي لم يبلغ الفطام.
  • كان يصرخ مذعورا، كمن وجد نفسه فجأة على حافة هاوية لا قرار لها، ويتوعد حليمة بالطلاق، ونتف الشعر، وحلق الحاجبين. لكن المستجوب اللعين كان يهرب إلى الأمام للإيقاع به في مناورة بدت له مكشوفة ودنيئة:
  • خير لك أن تتعاون معنا، وطنيتك في مهب الريح، والباب مازال مفتوحا أمامك لإنقاذها….، إذا أقفل المحضر.. ستعدم أية فرصة في الرجوع.
  • سيدي، أنا لا أفهم شيئا مما تقول، أنا ماسح أحذية جاهل، لم أرفع قط رأسي عن أقدام الناس، فكيف أتطلع إلى فوق؟
  • اسمع يا أحمد، خير لك أن تخبر عن الجهة التي تقف خلفك، وتدفع لك كي تخرب أملاك الدولة، وتسعى لقلب النظام في البلد،
  • لا يا سيدي أرجوك.. أنا مجرد....
  • لا تقل لي أنك مجرد ماسح أحذية مسكين. ألا تعلم أن زميلا لك في الحرفة أصبح رئيسا لإحدى أكبر الدول في العالم، وهو يقودها الآن بثبات نحو نجاح لم يحققه خريجو الجامعات.
كل شيء تغير مذ قال له الضابط الجالس خلف راقنة تعود للقرون الوسطى عبارته الأخيرة. غاص في بركة تأملاته بعيدا...، أحد زملائه في الحرفة...، نعم أحد زملائه ..رغم أنف الجغرافيا والتاريخ والحدود...، إذا كان ماسح الأحذية ذاك قد أصبح رئيس دولة بعيدة، تفصلها عن بلده بحار من الماء والحضارة والثقافات والمصائر، فالذي لاشك فيه أنهما يستنشقان، يوميا، الرائحة الكريهة ذاتها لعلبة تلميع الأحذية.. الحاملة للرسم الوثني المعلوم. "صنع في الصين." ويتلقيان النظرة الحقيرة، المعبأة بشحنات كبيرة من الازدراء، لزبائن يجدون في انحناءتهما على أقدامهم بعض العزاء...
هذا صحيح، لكن واقع البلاد والعباد هنا لا يبشر بخير.
لا لا لا، ... من قال أن الواقع لا يبشر؟
ألم يعد انتحار بائع مغمور كافيا لإسقاط طاغية عن عرش حجزه لنفسه بالدم والحديد؟
ثم إن هذا الواقع الجديد يحمل أكثر من بارقة أمل لأمثاله، رغم أنه لم يستطع أن يفهم مجرياته و معناه حتى الآن: هم يسمونه ربيعا، وهو لا يرى فيه سوى الخراب، وجميع أبناء عمومته في قاموس الخسارة.
هم يقولون إنه يبشر بغد تحكم فيه الملائكة، وهو لا يرى بين الذين يغذونه بحضورهم اليومي، وهيجانهم أمام كاميرات الهواتف الذكية المقلدة سوى جحافل من السماسرة، والعاهرات، والجزارين، ومدمني الحبوب، و الجلوس أمام تلك الشاشات التي لا يدري ماذا يسمونها... .

أوووووف، ما الذي ألم بي؟
لماذا أصبحت سلبيا إلى هذا الحد ؟
يجب أن أهيئ نفسي...، لا بد أن أصبح شخصية مؤثرة، كل الثورات السابقة عندنا توجت شواشا ومنحرفين على عروش أمم عريقة.. علي أن آخذ الأمر بجدية، وأرفع سقف أحلامي، وأعود لأحجز مكانا في الصفوف الأولى للمتظاهرين، دون أن أكف عن الهتاف... لكن ماذا سأقول وأنا لست سياسيا، ولم يحدث يوما أني فهمت شيئا في أمور السياسة الملخبطة، رغم أني قضيت ما يزيد عن عقد من الزمن أنصت لمعلمين لا يجيدون شيئا غير إخبارنا عن قصة ضرب عمرو لزيد، وأكل محمد لخبزه الحافي...
آه ثم آه...، سحقا لنظام تعليمي لا يُعلم أبناءه حتى سقط كلام يقال في المظاهرات... . المهم أن أصرخ أمام الكاميرات، أردد أول كلمة أسمعها وما هي إلا أيام حتى يحسدني شهريار نفسه على مقامي الجديد.
سُمع دوي آخر، ها هو الضابط السمين يمسك رأسه بيديه ويدخل تحت الطاولة مرددا: السماء توشك أن تقع، فينبطح الجميع، واضعين أيديهم على رؤوسهم، وهم يرددون ما يقول ...
وجدتها، وجدتها...، هذه العبارة المباركة، التي نرددها مع سجاننا الجبان، ستبلي حسنا في الميدان، ستدخل في القلوب، وتخرج من الحناجر دامية معبرة عن كل الجراح!
آه كم أنا مخطئ وقصير نظر، إنه لربيع بما في الكلمة من معنى. ربيع مبارك سيحولني من شخص يحني رأسه أمام الجميع، ليلعق القذارة عن أحذيتهم التي اشتروا معظمها من سوق الخردة، بعدما أعفيت من الخدمة في بلدانها الأصلية، إلى شخص ينحني له الجميع... !
عفوا، عفوا، عفوا...،
نسيت، وكان يجب ألا أنسى، لن أرتكب خطأ جسيما كهذا، لا أريد أن ينحني لي أحد.. سألغي جميع أشكال الانحناء، والركوع، والسجود، ما دام هؤلاء المغفلون لا يريدون من التغيير سوى أن يقفوا مستقيمين أمام الحكام...! إن تطلب الأمر سأرفع يدي إلى الأعلى، لأمكنهم من تقبيلها وهم في وضع استقامة!
لا أدري ما الذي أصابهم ؟...
وما أدراني أنا، لعله المفتي الجديد، المدعو الفايسبوك، هو من أفتى بأن أول واجبات الحاكم تجاه محكوميه: أن يجعلهم يقفون في حضرته مستقيمين، قبل أن يفكر في تدبير خبزهم وشرابهم، وأمن مساكنهم، ونفوسهم التي نسجت في زواياها عناكب التوجس بيوتها المراوغة.
... المهم من هذا كله أنني سأصبح رئيسا..
نعم سأصبح رئيسا، ولا شك أن الجماهير، في مختلف دول محيطنا المنكوب، ستتفاعل معي.. و ماهي إلا أيام قليلة، حتى أصبح أول إمبراطور في الألفية، أحكم الرقعة الممتدة بين قوسين من ماء....

تبا للضابط الخواف، عندما أصبح الرئيس، سأخسف به الأرض، الملعون ... يصر على أن يبخسني كل إنجازاتي.. ابن العاهرة.. يسألني من يدفع لي لأخرب، كأني واحد من هؤلاء الزبالة الذين ينامون تحت النجوم حالمين بإسقاط النظام، كي تعم الفوضى، ويعيشوا الحياة التي يريدون، لا يكدر صفوهم دوام عمل، أو التزامات أسرية. في المرة المقبلة سأخبره أنني لا أخرب، وأنني بصدد بناء سجن كبير له ولمرؤوسيه الجبناء.
لكن ثمة ما يؤرقني طبعا...!
ثمة ما يقض مضجع أحلامي؛ فالكثير من دول و مضــــارب البلاد الــــتي أريد أن أمد على رملها الجاف سجاد إمبراطوريتي المزركش، لا يوجد بها ماسحو أحذية.. حتى يمهدوا لي دخولها بسلام،... ماذا أفعل أمام جحافل المدراء، والمهندسين، والغواني وأهل الفن المنتجين والمتسكعين..، اللعنة على المدرسة ستعرقل حملتي... بل اللعنة على ذلك السائل الأسود الذي يخرج من جوف الأرض...، اللعنة عليه، إن بسطت سلطتي على البلاد، سأحوله إلى نبيذ، وأسلط عليه يأجوج ومأجوج ليشربوه في رمشة عين، فيخرج الجميع إلى الأزقة، حاملين صناديقهم الصغيرة، يبحثون عن أحذية تعلق بها كسرة خبز من رمل الصحراء، الذي لا يدعو له أحد سوانا بطول العمر على امتداد البلاد. حتى أولئك الملاعين الذين يغنون بضع دقائق، دون أن يقولوا شيئا، ويتركون آلاف الصحفيين يسودون يوميا صفحات لا يبلغها العد، يشرحون لنا فيها كم تقاضوا ليسمموا حياتنا، سأجوعهم، وأجعلهم يمدون أصابعهم الكسولة لتلميع أحذية الصحفيين من باب رد الجميل لأهله.

لن أنام إذن... وليستمر الضابط الفظ السمين في طرح أسئلته الجبانة، سأصرخ في وجه...........
سأقول له: إن ما دفعني للخروج إلى الميدان هو حاجة الناس لرؤوس الجديان، أليست حليمة كباقي الناس...؟
يا لي من أحمق...! إن علموا أن حليمة زوجتي، ستتبخر كل الأحلام، فحليمة والصندوق لا يفترقان؛ حيثما تكون يكون...، مسكينة سأضحي بها رغم أنها تحبني........،
تحبني .....؟
ومن قال ذلك؟
... نعم، نعم هي تقول ذلك...،
تقوله كلما هددتها بترك المنزل بعد ضربها إياي بذيل محبوب الذي لا زالت تحفظه في دولابها، رغم مرور سنين على موت الحمار المسكين.
كم هي مغفلة حليمة، لا شك أنها تقف في الباب حاملة الذيل الملعون، منتظرة عودتي برأس جدي مشوي تتسلمه مني بوحشية، وتدفعني للوراء صائحة: "اغسل رجليك في الجامع، قبل أن تحلم بالدخول."
بالله عليها كيف تفضل رائحة ذيل الحمار محبوب، على رائحة الأقدام المباركة للحمار الذي يجلب رؤوس الجديان في مثل هذه الأجواء الملتهبة.......؟
المسكينة لا تعلم أنني لن أعود إلا بعد أيام، ومعي جدي حي من بنات الميدان، ينطحها لتفسح المجال للرئيس الجديد، آملة أن يمنحها بعض الفتات.
أوف دعني من كلام حليمة الآن، يجب أن أكون إيجابيا... أنا رأس البلد، يجب أن أفكر في حل لكل هذا التراخي، والترهل الذي دب في أوصال الأمة، فجعلها عاجزة عن إنتاج كسرة خبز، وكوب حليب لملايين الأطفال، الذين يخرجون إلى الحياة مثلي بلا أدنى حقوق.
لكن من أين سآتي بالخبز لكل هؤلاء المخنثين، ذوي الأيادي الناعمة؟
ليكن الله في عوني أمام هذه الجحافل، التي لا تتوقف طلباتها، دون أن تكلف نفسها عناء الاستيقاظ مبكرا لطلب الرزق، رغم أن الزمن تغير، وأبواب الرزق ضاقت أكثر مما يجب.. أنا مثلا.. خرجت صباح هذا اليوم قبل أذان الفجر بقليل، وعملت بكد، طفت جل شوارع العاصمة، مسحت المقاهي، والساحات، ومحطات انتظار الترام، وحافلات المدينة، مررت خرقتي الكريهة على أحذية معظم موظفي الناحية، وحينما اعتقلوني، وأخرج الشرطي كل ما معي من قروش، همس لزميله مستاء، وهو يمطرني بقذائف كراهيته: صيد مر ...، لا يتوفر حتى على ثمن علبة مارلبورو مهربة...!
.... لا بد أن أحدث انقلابا...
نعم، سأسن دستورا للأمة؛ تتحدث معظم فصوله لغة الواجب، سأحدد واجبات مضبوطة لكل كائن حي يتحرك، منطلقا من النساء، فهن رأس الفتنة، وسبب البلاء والغلاء، كما يقول الفقيه دوما في خطبة الجمعة، التي يلقيها منذ سنتين، دون أن يغير فيها حرفا واحدا، عدا عبارات الدعاء لفخامة الرئيس، بين ذكرى جلاء، وذكرى اعتلاء، وذكرى جفاف أو وباء. سأرسم للنساء حدودا تعيد الأخلاق إلى دولتي.
نعم، على كل امرأة بلغت سن العشرين، أن يكون لها زوج يتحكم فيها، وإلا تسقط جميع حقوقها.
لكن.. كيف أقنع التقدميات اللواتي يكتسحن الشاشات، والشيخات المتأنقات، ومقدمات البرامج، اللائي يستعملن الحبوب المخدرة قبل الوقوف أمام الكاميرا....؟
لا، لا، لا.... قد تتعرى إحداهن على المباشر، وتتحداني أن أفعل مثلها، فتضيع هيبتي... علي أولا أن أعطل الرأس المدبر، الذي يأتي بهن إلى التلفزيون، ويجعلهن في واجهة الوظائف الحساسة، ليؤلبن علينا زوجاتنا البائسات.
... سمعت إحداهن في الراديو، تقول لمذيع مخنث، إن زوجها يعتبر مغتصبا إذا دعاها إلى سريره، دون أن تكون هي راغبة في ذلك، وكان ابن اللعينة يتأوه كمنحرفة، ويتقيأ في الميكروفون كلماته المسمومة:
  • " أووووح... يجب أن يصبح لنا دستور يجرم هذا الأمر، أنا أشعر بألمك، لقد تعرضت لمثل ما تعرضت له، لكن، والحمد لله، فتح لي ذلك قلوب الناس ، وباب المذياع الزنيم، ... نعم، سيدتي المسكينة، أنا هنا لأنني تعرضت لما تعرضت له وكسرت طوق الصمت، كما تفعلين الآن".
نعم، نعم....، كل الأمم لها دساتير، حتى بعض إخوتنا في الجوار، يتوفر لديهم كتاب من هذا النوع. لكن كتابنا نحن سيكون قنبلة في صنفه، سأحرص على ألا يكون لونه أخضر، وأبوبه جيدا: أضع الحقوق في جدول، وكل حق يقابله واجبان. وأول الحقوق سأمنحها للرئيس... إذ لا يعقل أن يسهر شخص يتوفر على مؤهل علمي متواضع جدا على تسيير قطعان من الأميين، والمتعلمين، والمرتزقة، والانتهازيين، والشيخات، والمخنثين، والأطفال، والنساء والرجال الطيبين، و و و...، لعقود عديدة دون أن يحصل على تقاعد مريح، فينتهي به المطاف "حاركا"* إلى إحدى دول الجوار، أو جارا للفئران والصراصير في قنوات الصرف الصحي.
أوف مهنة رئيس هذه ملعونة سأحذفها...؛ الأمم لا تحتاج إلى رؤساء، سأسمي نفسي أبا للأمة، وسأحرض الفقهاء على تخصيص كل خطب الجمعة لبر الوالدين، لكن.. ماذا أفعل مع السواد الأعظم من أبناء الشعب، الذين يقضون وقت الصلاة في المقاهي والحانات والأسواق؟
لا شك أن هؤلاء هم من يرتكبون معظم جرائم الاعتداء على الأصول...
آه وجدتها، وجدتها، سأكتب على كل جدار، وفي كل علبة سجائر أو قنينة خمر، " لا تؤذ أباك،" وأتْركُ الباقي لفضيلة الفقهاء. أما الميادين الملعونة، التي توصل أناسا من زبالة المجتمع إلى القمة، ثم تعود لتطالب برؤوسهم، فيجب علي أن أتخلص منها بأي ثمن..، يمكنني أن أحولها إلى حدائق..
لا، لا ،لا...، من قال الحدائق؟
هؤلاء الوحوش ينامون فوق الصبار دون تردد، ويأكلونه بأشواكه، إن قالتها ماما أمريكا ... ....!
بصفتي أبا للشعب سأحولها إلى سكن اجتماعي...، نعم نعم، فيبدو أن هؤلاء المحتلين، لا يريدون مغادرتها إلا إذا حصلوا على سكن؛ سأحولها إذن إلى عمارات وأمنحهم مفاتيح شققها، يأكلون فيها الفول، ويمارسون الجنس مع دماهم المتخلفة، لينجبوا المزيد من الدمى، فتصبح لهم مسؤوليات.. تغنيهم عن تتبع عثرات النظام. وهكذا أقبر الميادين، ويبقى المخنثون دون أماكن لتعاطي الحبوب، والتجمعات المريضة، والشعارات السياسية، التي أكل عليها الدهر وشرب في الخارج.
يا لي من زعيم حكيم... ! تبا للمدرسة...، لم تعلم السابقين أصول الحكم... !
الأمة تخلفت، مذ بدأ خريجو الجامعات يديرون أمورها، المساكين يعتقدون أن معرفة الأرقام والحروف توصل إلى القمة دائما، متناسين أن أغلب مجانين الأرض يتقنون القراءة والحساب. نعم أغلب مجانين الأرض يتفوقون على الساسة والزعماء في القراءة والتفكير، ذات مرة شكوت لزعيتر المجنون، الذي يفترش كرتون ثلاجة جواري، منذ عقد من الزمن، آلام الظهر التي تراودني من كثرة الانحناء على أحذية الموظفين الحكوميين، فقال لي:
  • " شف لك شغلانة ثانية، تجيب فلوس، وتعبها قليل. "
أجبته.. أنني لا أجيد أي عمل آخر، كما أنني لست متعلما كفاية، فكشر حتى بدت أنيابه التي نصبت عليها البكتيريا الضارة خيامها السوداء، وقال متهكما:
  • " تصلح تكون حاكم .... "
صدق من قال: خذوا الحكمة من أفواههم، نبوءة هذا الرجل صادقة، إنه ولي من أولياء الله، ها أنا الآن سأصبح رئيس الأمة، وأصدر أمري بعودة القطعان إلى حظائرها المفتقدة لأبسط شروط الآدمية والانضباط.
عاد الضابط يحمل راقنته الصدئة، جلس على كرسي متهالك.. سمعته يستغيث، تحت جسده الثقيل، بصرير مقزز، كتمه دوي انفجار قريب، ما إن خمد.. حتى ردد كل من في المخفر.. بصوت رجل واحد: " السماء توشك أن تقع.." بعد عودة الهدوء، ناداني الملعون، أمرني بالجلوس على ركبتي:
  • متى خرجت هذا الصباح؟
  • قبل الفجر بقليل.
  • التفت إلى زميله:
  • هو، هو بعينه!
  • هو من؟
سألت ، فسأل:
  • ما الذي كان مكتوبا في المناشير التي وزعت البارحة؟
  • أية مناشير؟
  • ومن تقصد بأذناب الإمبريالية، وطغمة الحكم الفاسدة، وعذارى النظام؟
دوى انفجار قريب، فانتفض أمامي يصيح: "رباه السماء توشك أن توقعها طلقات الصبية فوق نهارنا، من قاهرة الفرعون، إلى تونس قاهرة الدين، إلى صنعاء المقذوفة بين حصون تبابعة، وخيام رعاة "
ابن اللعينة.. له ثقافة رغم جبنه الكبير.
نعم...، نعم، أيها الضابط الملعون....، يا كلب سيده المطيع، .....، سجنك اللعين لن يخيفني، وأصفادك لن ترهب معصمي النحيل.....،
الرصاص يلعلع بغزارة، السماء ستقع فوقنا لا محالة وسنتساوى تحتها بجراحنا التي لا تحصى و........!
تبا لك يا كلب سيده، ما بالك تدغدغني؟
لماذا لا تضع الأصفاد في يدي؟
لماذا تربت على كتفي...؟
من أين أتت هذه الضمادات، التي تنزعها عن وجهي، ولِمَ أتألم هكذا؟
...........................................
تناهى إليه صوت حليمة وكأنه قادم من بعيد، بالكاد فتح عينيه رآها تحلق تحت السقف، تهش الحشرات الصغيرة عن وجهه الملوث بذيل محبوب، حاول تقريب الصورة، حرك دماغه وسط جمجمته، ليصحو أكثر، أحسه يدور دورة كاملة حول نفسه، وأخرى حول حليمة. بينهما يتعاقب ليل رمادي، ونهار أحمر، ولا أثر للخضرة والبياض. أغمض عينيه وأعاد فتحهما، فرآها تجلس داخل بؤبؤيه! حاول إخراجها لكنه أحس بألم فظيع، فقال:
  • أوف حليمة.... كيف جئت إلى هنا؟ هل اعتقلوك ؟
  • هل حدث لي انقلاب...، يا إلهي رأسي ثقيل، لا أكاد أفهم شيئا مما يدور حولي ....
  • اسم الله عليك .. ستخف، سيزول مفعول التخدير قريبا يا قرة عيني.
  • لم تقولين ذلك يا حليمة؟ لم تبكين؟
  • الملاعين زحفوا بالملايين لإسقاط النظام، فأسقطوك أنت وصندوقك...، ومرت جحافلهم المسعورة فوق جسدك النحيل يا قرة عيني، لكن لابأس عليك، ستخف، سيزول مفعول التخدير، سـ......
  • حليمة...! هل لا تزال السماء في مكانها؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى