نبيلة غنيم - حزن خلف ابتسامة

أشعة الشمس اللاهية تلفح خديها وتضرب رأسها، استحال وجهها إلى اللون الأحمر القاني، تلهث مع قفزات الساعة متوجهة إلى عملها، يأخذ جمالها العيون، يجذب النظرات النهمة، تبدو شامخة كملكة، أحاطت نفسها بحاجز فولاذي يتقافز عليها التائهون في سحر خمائلها، تتوارى برودة حياتها خلف ذكرياتها الدافئة، تردد لحنا شجياً، يُطرب القلوب الحزينة، تنثر الحياة فوق بســـــاط أولادها الوارف.
لا مساحة لطير جارح، أو فأر مرتجف يبحث عن غنيمة يسد بها رمقه.
توفي زوجها في لحظة عابثة وهو في طريقه إلى عمله، اصطدم قلبها بعويل الأيام، تجاسرت وصمدت، لم يرحم أحد أحزانها، بل وجدت أظافر تتخلل كيانها المنهار، أظافر تريد أن تنهش البقية الباقية من الكيان الذي رحل صاحبه، ضمت ولديها وقررت الرحيل بعيداً عن الطامعين، لتزرع جذوراً في أرضٍ أخرى إلى جوار قلوب تحنو عليها.
تلتحف بليل يكتنفه الصقيع، تشرنقت داخل جسدها، تبحث عن أمل كان هنا بين أحضانها، نبض بالحياة والدفء، تشير إليها أصابع الظلام، إن ما تبحثين عنه لن يعود، تشعر باختناق كالجليد، أذابته بدمعات بللت وسادتها، تهيم في أحلامها، يتهادى عطره الأنيق يُعبق كيانها، يسري في شرايين جسدها المُخدر بين النوم واليقظة، يداعبها، يطبب أحزانها، تراه شاخصاً عند قدميها من عالمه الآخر يقول: معذرة يا جميلتي، أعلم أنك قوية، قررت أن أسكن بداخلك لأكون الطيف الذي يظلل حياتك.
استيقظت من غفوتها، تأرجحت بين الحزن والشوق، علقت صورته الكبيرة على الحائط وتسمرت لتراه تارة ينبض بالحياة، وتارة مجرد صورة صامتة، تتحجر الدموع في مقلتيها، تناجيه، تسخر من أملها في عودته.
جمعت ما تملك من تراث أيامهما الخوالي وصرته في قلبها، وانطلقت في الحياة تجاهد، تبعث القوة في نفوس أولادها، تغلق باب قلبها على أسرارها.
لم يمهلها القدر حتى تشعر بالأمان، تعثرت في صخرة المرض، مد السرطان يده الخبيثة إلى أحد مفاتنها لينهشه، تسرب الخوف إلى قلبها، تتوه في غيبوبة من الفكر .
ماذا لو فقدت حياتها، ما مصير ولديها؟ الموت يدنو منها ولم تكمل مسيرتها بعد.
اتجهت إلى الله بالدعاء ليخفف عنها وينتزع الخبيث من جسدها ، ليس من أجلها، فهى فقدت حياتها سابقاً، بل من أجل صغيريها. كان شبح الموت يفتت قلب الصغيرين، يرعبهما ويجعلهما يتشبثان في ذيل أمهما الأكثر وجلاً منهما.
تدخل في دوامة العلاج القاسية، يتشح الوجه الجميل بالصُفرة ، يلتف العود الممشوق بالهم، ترجو الانعتاق من الكيماوي والإشعاع واقتلاع المرض من جذوره.
نهار كسيح يدب بقدميه الواهنة داخل قلبها المثقل بظلام المرض المُدمر، ضوء خفيف ينبعث بالأمل، يصحح الخلايا المتمردة، يطرد أوجاعها، اشتعل سراج الأمل بداخلها، حفَّزتْ ذاكرتها المسكونة باليأس، وحرضتها على النهوض لبناء ذاكرة جديدة من لبِنات قوة نبضها.
اضطر جسدها أن يحترم عزيمتها وشموخها، قاوم الموت الذي يُمارس عشق حصاد الأرواح، أطلقت عصافير أفكارها التى سكت صوتها منذ أن صدمتها التقارير الطبية، تعتلي سماء الغرفة البيضاء قناديل راقصة لتشعل نور روحها المطفأة.
تعود إليها ابتسامتها، تقف مرة أخرى أمام صورته الكبيرة باسمة، تَعِدهُ أن تُكمل المشوار الذي حَلُمَا به معًا، تلملم ما سقط منه في الطريق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى