ياسمين غبارة - جدتى.. قصة قصيرة

محظوظةٌ هى تلك البيوت التى شَرُفت بإقامة الجدة فيها، فهى بيوت لها باب خلفى يفتح على الجنة.. بيوت تعرف المعنى الحقيقى لكلمة «البركة» وتسكنها نفوس مطمئنة.. وكيف لا تكون نفوس هذه البيوت مطمئنة؟ّ!، فالجدة التى تكون فى خريف العمر أو حتى أرذله تتمتع بنظرة عين تبث الأمان فى الكبير قبل الصغير، فالكبير الذى يحاول أن يكون جذع شجرة يستند عليه أهل البيت مهما كَبُر، يرى نفسه فى عين أمه صغيرًا يجوز له أن يدبدب بقدميه غاضبًا، أو يقوم بأى تصرف أهوج ولو حتى فى خياله، يستمد منها ومن قوة الإيمان والتسليم التى فى عينيها الأمان الذى يحتاجه تمامًا كما يحتاجه ابنه الصغير، ذلك الطفل الذى قد يرى الحزم فى عينىّ أمه وأبيه ويمر بمواقف تُشعره بالتوتر والحيرة، فيكفيه حضن جدته ليخبره بشكل ما أن كل شىء سيكون على ما يرام.

■ ■ ■ ■

الجدة هى بيت داخل كل بيت، وعندما جاءت جدتى لتقيم معنا، أصبحت مجالستها هى هوايتى المفضلة، علمتنى أن الله يغمرنا بالحنان قبل كل شىء، وذلك عندما كانت تقول بين الحركة والأخرى: «يا حنين علينا يا رب».

هى من حكت لى كثيرًا عن طفولتها وصباها وطريق الحياة الوعر الذى مشته مع جدى، ورغم كل ما كانت تصفه من مشقة إلا أنها كانت تحكيه بابتسامة يملؤها الرضا.

كانت تتحدث عن الماضى وكأنه حاضرها، تلمع عيناها إذا تذكرت من غادروا وتلقبهم: بـ«الحبايب»، وعندما تُنهى أى حكاية عنهم، تواسى نفسها بجملة: «الأرض ياما بتطوى»، أما الحاضر، فكانت تراه كطيف عابر يمر من أمامها.

كلما شردت جدتى وسكتت وسكنت أوصالها، يهمس لى أبى بأن أذهب و«أنكشها» فى الكلام حتى «تفوق وتصحصح»، وظلت هذه مهمتى لفترة من العمر جنيت فيها الكثير من الحكايات والخيال ودعاء جدتى لى بين الحكاية والأخرى: «ربنا يطرح فيك البركة والنور».

تجلس جدتى على الكرسى، وأجلس أنا الطفل المولع بالحكايات عند قدميها، أرفع رأسى إليها كالقطة التى تنتظر الطعام، وكان حديثها معى هو خير زاد لنفسى وروحى وخيالى. من حكايات جدتى، علمت أنها لم تكن دومًا كما كنت أراها فى بيتنا جالسة فى سكون تقاوم آلام العظام، وتتأمل ما يحدث حولها، بل كانت فى صورةٍ وأداءٍ مختلفٍ تمامًا قبل أن أعى الدنيا.. كانت جميلة.. أجمل بنات عائلتها، بارعة فى كل ما تحاول فعله، لا يختلف عليها أحد. كانت من ذوات الحضور والطلّة، ومن ذوات الرأى والحكمة والأثر العميق فى كل مكان أو شخص تلتقيه، إمبراطورة فى منزلها، تدير عددا هائلا من الأبناء والأخوة وأهل جدى كذلك، وكل مشاكل المنزل، بمن فيه من بشر، لها عندها حل أو «صرفة».

■ ■ ■ ■

أجلس يا جدتى عند قبرك الآن.. أعلم أنّى اعتدت الجلوس إليك لتحكى لى، ولكن أنا من يحتاج إلى الحكى اليوم.. لن تكون حكاياتى مسلية وحقيقية بقدر حكاياتك، فأعوامى الثلاثون ليس فيها ما هو صادق أو حقيقى.

أنا اليوم شاب غارق فى الماديات والتكنولوجيا، لم أعد أعلم لماذا أفعل ما أفعله؟!، تفوقت فى الجامعة، وتدربت خلال سنواتى بشركات عالمية مما أهلنى للعمل بإحداها بعد التخرج. تزوجت بفتاة لطيفة مبهجة، إلا أنها طموحة بشكل يُرهقنى أحيانًا.

نسيت أصل الأشياء وحقيقتها يا جدتى.. نسيت ذلك الشغف الذى كان يأكلنى من الداخل فيدفعنى للعمل أكثر وتعلُم كل ما هو جديد، نسيت حبًا كان يرقص أمام عينى طربًا. لم أستطع أن أعود إلى المنزل اليوم، فقد تعبت من صخب الحياة ومن تلك المتاهة التى أدور فيها، حتى نسيت أنى من المفترض أن أصل لنقطة نهاية، فظللت أدور وأدور.. لا أعلم من أين وإلى أين؟!.

أحتاج لنفسى يا جدتى ولا أجدها فى شىء أفعله، ولا فى عين أى شخص حولى.. لا أعلم، لماذا أنا متعب وحزين إلى هذا الحد؟!. كم أتمنى أن تحتضنينى بذلك الحنان الذى طالما أشعرنى أن كل شىء سيكون على ما يرام.

■ ■ ■ ■

نهضت واقفًا أمام قبرها مباشرة، قرأت لها الفاتحة، ابتسمت لصورتها المطبوعة فى ذهنى، ومررت بيدى على حروف اسمها المحفور. انطلقت بسيارتى مغادرًا المقابر بكل ما فيها من سلام، وظللت أردد بصوت يملؤه الحنان والحنين متقمصًا أداء جدتى وهى تقول: «يا حنين علينا يا رب».

درجات

فتحت باب شقتها وخرجت منه مسرعة بعباءتها المنزلية البسيطة مشمرةً عن سواعدها، تطرق أبواب الجيران بذعر، مستغيثة فى صراخ:

إلحوقونى، الواد جتته مولعة.. مش عارفة أعمل فيه إيه؟!

خرج الجيران الذين يتجاورون فى تلك البناية القديمة منذ سنوات، ينظرون لجارتهم بحيرة وتردد، واضعين أيديهم أمام أبوابهم المفتوحة كحاجز يمنع أطفالهم من دخول شقة الجارة المستغيثة، خوفًا من أن تكون حمّى من تلك التى يسمعون عنها، فتصيب أحدًا منهم.

خرجت أم محمد من شقتها فى الدور الأرضى، ونظرت لأعلى تسأل الجيران عما يحدث عندهم، أخبرتها إحدى الجارات بما يحدث، فارتقت أم محمد الدَّرج فى ردة فعل سريعة، أمسكت يد الأم المرتعشة ودخلت بها للطفل الباكى، أمرتها بملء «طشت» من المياه الفاترة، وعندما أحضرته الأم، كانت أم محمد قد جرّدت الطفل الرضيع من ملابسه، يصرخ بين يديها ويرتعش لدرجة لا تعلم معها إذا ما كانت وجنتاه محمرتين من فرط البكاء، أم من شدة الحمى.

وضعت أم محمد جسد الطفل المحموم فى الماء، وأخذت تسكبه عليه مرارًا وتكرارًا، والأم تقف بجانبها كمن شلت الأزمة أوصاله.

حملت أم محمد الطفل بعد أن أحكمت وضعه فى غطاء صغير، لتخرج به أمام الجيران وتهبط الدرج بحذر وسرعة فى آنٍ واحد، فبالرغم من سنواتها الخمسين، إلا أنها تسير بخطوات ثابتة قوية، ونظرات عين حازمة تتخللها الرحمة، انطلقت أم الطفل خلفها كمن يركض خلف أمه.

لم يكن موقف أم محمد مستغربًا من الجيران، فقد اعتادوا رؤيتها تتدخل كالفارس الذى يشق غبار المعركة ليحسم الأمر، واعتادوا اللجوء إليها فى أى خلافٍ أو أزمة، لِما تملك من رجاحة العقل، وتُنقذ بسرعة تصرفها الكثير من المواقف التى تمر بها سيدات هذا الحى البسيط، وبالفعل، وصلت أم محمد وأم الطفل الباكى إلى المستوصف، وتمت السيطرة على الحرارة.

■ ■ ■ ■

مرت السنوات- الكثير منها- وأصبح الطفل الباكى شابًا وسيمًا باسمًا يقف أمام شقة أم محمد، يمسك بأكياس الطعمية والخبز الساخن التى يحضرها لها كل صباح مع طلبات أمه.. اعتاد أن يرعى شؤونها كما يرعى أمه التى شرحت له كثيرًا كيف انطلقت به أم محمد فى ذلك اليوم، ودخلت به المستوصف كالإعصار، تصرخ فى الممرضات، وتبحث عن الطبيب، وكيف ظلت تتابع مراحل علاجه حتى انقشعت الحمى تمامًا!.

فتحت له أم محمد الباب بظهر أحناه الزمن، أمسكت منه الأكياس بيدين قل ثباتهما، نظرتها مازالت حازمة، ولكن عندما تنظر إليه، يطغى على عينيها الامتنان.. رفعت إحدى يديها إلى السماء لتوضح أنها تشكره وتدعو له.. ابتسم الشاب فهو وإن لم يسمعها يعلم من ملامحها كم تُحبه.

أثّرت الحمى الشوكية على سمع الطفل الصغير، فكبُر دون سماع أصوات العالم من حوله.. وبالرغم من أن شهامة أم محمد لم تمنع القدر، وحدث للطفل ما حدث، إلا أنها بارتقائها الدرج لنجدة الأم المنكوبة، ارتقت درجات أخرى فى عالم موازٍ.. عالم لم يقف كثيرًا أمام إصابة الطفل المُقدرة سلفًا، ولكن احتفى بأم محمد وبكل خطوة خطتها فى ذلك اليوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى