أحمد القطيب - مَقامَةُ " وادي عَبْقَــــــرٍ".. (كُتبتْ لغاية أدبية ونقدية)

حدّثنا " عيسى بن هشام" قال: لمّا خلعتُ عنّي ثوب الإحْرام، وودّعت البلَد الحرام، دعوتُ الله الحيّ السّلام.. أن يمُنّ عليّ بالصلاة والقيام.. في المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين، وثالث الحرمين.. ففارقت قافلة الحُجّاج، وسرت وحيدا بين الفِجاج، إلى أنْ تُهْتُ عن سبيلي في الصحراء، واختلطت عليّ معالم البيْداء، فمِلْتُ إلى وادٍ كالْحفير، تحفّ به التلال والجبال، ولا مُجيرَ لي فيه إلا المُجير.. فلما نزلت إلى أسفل الوادي ، دعوت الله أن يقيَني من العوادي، ثم أبْركت ناقتي في ظلّ صخرة شاهقة، وِجاءً لي.. ولَها من الشمس الحارقة.. فلما صليت الظهر والعصر جمعا وتقصيرا، تسبيقاً لا تأخيرا، ارتشفت قليلا من الماء، والتقمت أعشاب الزعتر من حولي زادا وغِذاء ..
وبعد بُرهة.. سمعت وقْع أقدام أو أخْفاف، وقلت لنفسي : " أنا في حمى الله ولا أخاف"ثم نظرت متوجّسا إلى ناحية الصّوت في منعرج، شديدِ الالتواء والعِوج... وسرعان ما سال منه ظليم(1) كبيرٌ أشْهب،عليه رجل قصيرٌ أشْيب، فلما بلغ إلى مكان مقيلي من الوادي، أوقف طائره ، ثم نظر إليّ مليّا ،فكدت أفرّ منه لولا أنه بلغ من الكبَر عتيّا، فهالني منه قصَرٌ كقِصر الأقزام في القامات، وراعني وجهه غائم القسمات، فلم يكن يبدو منه إلا الزّغب الكثيف، خلاف شعر رأسه الخفيف، الذي يعلوه نتوءٌ مخيف، خمّنتُ أنه منْ شجّة قديمة، أو عاهة مستديمة..
فلما رآني الرجل القزم مرتابا، ألقى عليّ السلام، فرددت عليه جوابا، بتحية الإسلام ..وفي لمح البصر، أبرك الرجل ظليمه كالقدَر، ثم رفع رجليه على رِسْلِه ، وضمّهما إليه على رَحْله ، ثم اتكأ بمرْفقه على ركبته، وقال: من أنت يا فلان؟؟ وماذا تفعل في هذا المكان الذي لا يُرى فيه إنسان؟؟ فأجبته قائلا: أنا " عيسى بن هشام" وقد قفلتُ من البيت العتيق، فتُهْت وأضعت الطريق، حتى أوردتني راحلتي إلى هذا المكان.. ثم قال لي الرجل: وما صنعتك؟ قلت: أنا شاعر وكاتب أهوى الأسفار والمراكب، وأسْفِرُ بين الأمصار طلبا للعلم ومرأى العجائب ، فقال لي الرجل الغريب: فهل لك في الشعراء رأي عليم ، فقلت نعم .. وفوق كل ذي علمٍ عليم، فسألني قائلا : من أشعر الشعراء عندك، فقلت: ( بشار بن برد) فقال : عجبا عجبا.. بل أشعر الشعراء '' ذو القروح'' الذي شاد للشعر الصروح، فقلت له ..: وعلامَ؟؟ قال: إن امرأ القيس قد استوقف الرفيق.. وبكى الدِّمن في الطريق.. وشبَّبَ وتحَبّب.. وشبّه النساء بالظّباء.. ووصف السّيل في الصّحراء.. ولمْ يبُزّه شاعر في القول والإنشاء..ثم سكت الرجل قليلا ليرى أثر كلامه على محيّاي ثم قال: إن امرأ القيس عدّد في التشبيه .. ولا أحد في ذلك يُجاريه.. لما ذكر أنثى العقاب .. وذكر الْحشَف والعُنّاب..قائلا:

كأنّ قلوبَ الطّيْر رَطْباً ويابِساً ۞ لدى وكْرِها العُنّابُ والحَشَف البالي

فقلت للقزم: هل تمنحني الأمان، وتسمع مني هذا البيان..؟ فقال: نعم .. قل مالديك.. فقلت: إن شهرة 'امرئ القيس' خالطها جلال ملكه.. وإشفاق الناس على ضياعه وفوْته.. فاشتهر لمّا تاه في الصحراء.. طلبا للنصرة على الأعداء.. حتى وفَد على ملك الرّوم .. فاضطغنَ عليه وأهداه الرداء المسموم..
وأردفت قائلا: وأمّا السّبق في الشعر على ما ذكرت، فليس له.. بل عليه.. فقال الرجل : أفصح
فقلت: أليس شاعرك من قال:

عوجا على الطّلل المُحيل لعلّنا ۞ نبكي الدّيار كما بكى ابن خِذام

فقال: بلى
قلت:فهذا إذعان منه للسابقينَ واعتراف.. وإقرار منه بالاغتراف.. وكفى به دليلا على معينٍ تليد ، وسُنن للشعر قبله لا تحيد، وإنما اشتهر صاحبك بين الناظمين لقدامته .. لا لزعامته..
فضرب القصير كفّا بكفّ.. فحسبته غاضبا أو أَسِفاً، ولما نظرت إلى وجهه بدا لي بلا ملامح.. وظننت أن وهج الشمس على محيّاه مانعي من النظر الواضح.. ثم قال لي:
وعلامَ تُفضل " بشاراً" وهو من المتأخرين.. وهو كما تعلم مولى.. ولو كان عربيا قحا لكان أولى.. ثم ما شأنه بين الشعراء وقد مُنِي بالعمى والقُبح.. وسلاطة هجاء وفضْح.. فهل سمعت قط بشاعر يبصق يمينا وشمالا.. ويصفّق كالقرد قبل أن يبدأ قيلاً وقالا..
فقلت للرجل: إنّ ' بشار بن برد' وإن تأخّر زمانه.. فقد ظهر في الشعر جُمانه.. فقد مزج القديم بالجديد.. وأجاد التقليد والتجديد.. وركب البحور طوالَها وقصارَها، وبرع في التشبيه و التصوير رغم عماه.. وبلغ في الإحسان مبتغاه... وهو حلو البيانِ.. دقيق المعاني.. فسيح الخطْو.. وثيق النّحو.. فقال لي القصير محتجا:
هل لك من شواهد.. فالكلام بلا بيّنة كلام فاسد.. وللسّداد فاقد.. فقلت له:
ألم تسمع له تشبيهه الخفيّ، وقياسه الذّكيّ، وحصافته النادرة، في حكمته السائرة .. لما قال:

فعِشْ واحِداً أَوْ صِلْ أَخاكَ فإنّـــــــــــــهُ ۞ مُقارِفُ ذَنْـــــــــــبٍ مرّةً وَمُجانِبُــــــــــــــــــــهْ
إذا أنْت لمْ تشْرَبْ مِراراً على الْقذى ۞ ظمئْتَ وأيُّ النّاسِ تصْفو مشارِبُهْ؟؟

فهذا الكلام –لَعمري- كنزٌ نادر.. وأغلى من الجواهر..
ثم قلت للرجل:
ثم إن بشاراً ركَّبَ وعَدّدَ في التشبيه ، ونال الإحسان والتنويه، وأنسى الناس بيت صاحبك الوجيه، لما قال:

كَأنّ مُثارَ النّقْع فوْق رؤوســنا ۞ وأسيافنا ليْلٌ تَهاوى كواكبُـــــهْ

فهل رأيت قطّ أعمى يجلو مثل هذه الأمور، مركّبا بين دقائق المنظور، وهو ضرير معذور، فدبّج صور البياض على السواد، بما أعجز الأقلام والمداد، وهو مع ذلك قد بثّ الحركة في المشهد.. بما عجز عنه صاحبك.. فاشْهدْ..
فقال لي الرجل الغريب: كيف تعلي شأن شاعر دميم، كثر فسقه.. وأغَمّ الناس ذكْره.. فاضطغنت عليه القلوب .. وضاقت بطَلِبته الجيوب.. ولا يُرى إلا هَجّاء بعد مديح.. وعيّاباً بالتلميح والتصريح؟؟ ... فأجبت قائلا:
إن الأخلاق ليست عِيارا للشعر، ولو صحّ ذلك، لرميتَ صاحبك بسهم، فقال ولِمَهْ ؟ قلت: إن " ذا القروح" كان أفسق لما قال:

ومثلُكِ حبْلى قدْ طرقْتُ ومرضـــعٍ ۞ فألْهيْتها عن ذي تمائمَ مُحْولِ

فهذا افتخار بخُلق تعافه الخلال الكريمة.. ويتبرأ منه ذوو الأخلاق القويمة.. ثم إنّ ' بشارا' جمع شُعب الأغراض وسوّاها، وورث صحيفة الشعراء فجلاّها، فجمع بين المدح والفخر والهجاء، ولم يفتْه موضوع الرثاء، وهو على عماه وغلظة طبعه وصّافٌ بارع للنّساء، غَزِلٌ متشبب حين يشاء.. فهو القائل:

هل تعلمين وراء الحُبِّ منزلةً ۞ تُدني إليكِ فإنّ الحبّ أقْصاني

فقال لي الرجل: لقد مات صاحبك مفضوحا مقتولا... فقلت له: كما قُتل صاحبك '' ذو القروح''، وقانا الله من الكائد والحاسد، وفتنة المكائد.. فكما ألّبَ الحساد قلب ( قيصر) على امرئ القيْس.. فقد ألّبوا على شاعري مَوجِدة الخليفة ' المهدي' بالزّور والدَّسّ.. وبالظنّ الغالب .. لا بالجزم الصائب، فرُمي شاعري بالزندقة في المشيب.. ولو راجعوا شعره لوجدوا التوحيد عن لسانه لا يغيب.. وقد صدق شاعري القول في وصف شدة أُوار الحسد عليه لما قال:

وحسْبك أنّي منذُ ستّين حِجّةً ۞ أكيدُ عفاريتَ العدى وأُكادُ

فقال لي القزم العجيب:
دعك من صاحبي وصاحبك.. وأسمعنا من شعركَ لنقيس يَراعك.. ونعلم باعَك.... فأنشدت قائلا:

تبسّمَتْ فَبدا منْ ثَغْرها الْبَـــــــــــــــرَدُ ۞ أوْ سِمْطُ دُرٍّ عَلَيْهِ الْمِثْلُ ينْعَقِـــــــــدُ
كأنّما الْعَبَقُ الْمشْمومُ منْ فَمِها ۞ ذُكاءُ مِسْــــــــكٍ مَـــعَ الْأنْفاسِ يَطَّرِدُ
فَلَمْ أجِـــــــــــــــــدْ جَلَداً لي مِنْ أَذِيَّتِـــــها ۞ أنْ راشَني رغْمَ أنْفي الْحُبُّ والْكَمَـدُ (2)

وما إن أتممتُ أبياتي حتى قهقهَ الرجل ملْء فاه.. وارتدّ لضحكه في أرجاء الوادي صداه.. ثم شدّ قيْدَ لجام ظليمه إليه فقام من مَبْركه إيذانا بالرحيل .. ثم قال لي :
تحرَّ من الشّعر القلائد.. ولا تأكل من فتات الموائد.. فإن الشعر يعلو متى كان جديد الغِراس، شديد المراس.. طريف المأخذ.. أصيل المحْتِـد.. فقلت له أتسخر من شعري؟! فقال معاذ الله !! فقلت له ظننتك منتقصا وقوع الأثر على الأثر.. فهذا أمر بين الشعراء وَقَرْ.. فالمعاني مستعادة.. والألفاظ مستزادة.. فلمَ السُّخْر والضحك إذن ؟؟ فقال لي لو قُيّض لك أن تُعمِّر طويلا مثلي لَما انتقصت الشاعر قطّ.. ولَرأيتَ سوق الشعر سائرا إلى نُفوق.. ورِضى الناس عنه إلى عقوق.. فقد كان الشعر يوزن وزن الذهب.. وصار في زمانكم أرخص من حطب.. فلا عليك... وإنما أضحكني أن أنشدتني الغزل.. فعلمت أنك بالشوق ثمِل.. فالحقْ بأهلك على عجل.. وسرْ على بركة الله إلى جهة الشمال حتى تصل إلى معالم البتراء.. فمنها ستعرف سبيلك . ولا تعرّج قطُّ على هذا الخلاء.... ثم وَكزَ الرجل ظليمه، فانطلق كالبرق.. ونفذَ من شرْخٍ في صخرة الجبل كالشّقّ.. فعرفت أن محدّثي هو ( لافظُ بن لاحظ) شيطان امرئ القيس.. وعلمت أنني بوادي 'عبقر'.. فخنقني الفزع خنقا فظيعا .. فقفزت إلى رحل ناقتي سريعا .. وحثثتها على العدو حثّا مريعا.. فلما خرجت من هنالك.. سرتُ شمالا حتى بدت لي معالم البتراء.. عروس الصحراء.. فأنتعش خافقي فرحا بالسلامة.. وخبا بحمد الله إحساسي بالخوف والندامة..

بقلم : أحمد القطيب 2020/03/25
---------------------------------
1/الظّليم: ذَكر النعامة
2/هذه أبيات من إنشائي ..
**راشه: أضعفه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى