مبارك وساط - وكانت قفزة العمّة أسرع

لم يكن مهدي، وهو الآن في العاشرة، قد وجد نفسه في تواجهٍ مباشر - وعلى مسافةٍ قريبة جدًّا - مع شخصٍ مُخيف، يَنعته الآخرون بـ"المجنون"، قبل صبيحة يوم الخميس ذاك، وفي قرية الدخَّانَة بالضبط. لقد مرّ الآن على هذا أكثر من شهر. كما أنّ عائلة مهدي عادت من زيارتها الصيفيّة للدخَّانة - القرية التي وُلد فيها عبدالمولى، والد مهدي - بعد أن قضتْ هنالك ثمانيةً وعشرين يوماً، وها هي الآن في بلدة لَمْزِينْدَة – التي تَبعد عن الدخّانة بحوالى ثلاثين كيلومتراً- إذ إنّ الإجازة السنويّة لوالد مهدي انتهت، وعليه أن يعود إلى شغله في أحشاء الأرض، فهو يَشْتغل في منجم للفوسفات.
في لَمْزِيندة، ينفتح بيت عائلة مهدي على خلاء فسيح يُؤدّي إلى تلّة صغيرة تنحدر بدوْرها في اتجاه مقبرة البلدة. وإذ يخرج المرء من هذا البيت، فهو يجد على يمينه مساحاتٍ معشوشبة شاسعة تتخلّلها بقعٌ جرداء وصخور، ويرى على يساره طريقاً تمرّ ببيوتٍ، ثمّ بسقّاية عموميّة، أُثْبِتَتْ في جدارها ثلاثة صنابير، وطُليَ الجدار بالفسيفساء. وهذه الطّريق هي التي سيسلكها مهدي مجدَّداً إلى المدرسة، حين تنتهي عطلة الصيف.
في صبيحة يوم الخميس ذاك، وقع الحدث غيرُ المرتقب، فقد وجد مهدي نفسه وجهاً لوجه مع لَكْبيرْ ابن للّا صفيَّة، وذلك في مدخل غرفةٍ بِبيت هذه الأخيرة بالدّخّانة. وللّا صفيّة هي من بنات عمّ والد مهدي. وقد تفاجأ مهدي إذ ظهر أمامه ذلك الشخص ذو العينين البرّاقتين، والشعر المفتول في ضفائر كثّة وقصيرة، والقميص الأزرق المثقب الذي انتشرتْ عليه بقعٌ من الأصباغ. كان في نظرات لَكْبير - ولمْ يكنْ مهدي يعرفُ اسمه لحظتها- تهديدٌ بالبطش استشعره الطّفل، فتملّكه خوفٌ شديد في البدء، ولكن، بعد دقيقة أو أقلّ، تبخّر ذلك الخوف، أو لربّما ثَوى في طبقة أعمق بصدر مهدي، فقد تبدّل شعوره إلى إحساس بالحياد إزاء الموقف الذي كان فيه، كأنّما لم يكن يعيشه وإنّما يتفرّج عليه في شريطٍ سينمائيّ! هكذا كان المشهد، تحديداً: مهدي يقف بمدخل إحدى غرف منزل للّا صفيّة الكبير، عيناه مسمّرتان على رسم غريب معلَّق إلى جدار في الغرفة، يبدو فيه وجهٌ طغتْ عليه الألوان الصارخة، وقد رُسمت منه العينان تحت الأنف. وإذ كان مهدي على وشك أن يدلف إلى تلك الغرفة، التي طالما دخلها في أصياف ماضية – وكانت وقتها فارغةً من الأثاث وشبه منسيّة - نطّ لَكْبيرْ من إحدى زواياها وانتصب قريباً جداً من مهدي، لاوياً شفتيه في تكشيرةٍ ملتبس أَمرها، إذ لم يبد واضحًا إن كانت مجرّد حركة هزءٍ من هذا الطفل الذي يقتحم غرفته، أم أن فيها تهديدًا بضربة على أُمّ رأس غريمه الصّغير ذاك!
وفي النهاية، كال لَكْبيرْ لمهدي دفعةً في الصدر، خفيفة وضعيفة! وسيسمع مهدي من أبيه أنّ لَكْبيرْ عاش طويلاً في فرنسا، و"أنهم أعادوه" من تلك البلاد مجنوناً ومطروداً. لم يكن مهدي قد علم بوجود لَكْبير قبل صبيحة ذلك الخميس.
كان صديق مهدي الأقرب إلى نفسه بِالدّخّانة هو عليّ، ابنُ للّا الضاوية، عمّة مهدي. وكان مهدي يجد عمّته هاته شرسةً قاسية القلب، بل وشريرة، أحياناً. وكان مهدي وعليّ، المتقاربان في السنّ، يقضيان وقتاً في ركوب الحمير، غير آبِهين بغضب أصحابها. ويحبّان، أيضاً، أن ينصتا إلى ما كان يرويه سالم من مغامرات ينسبها إلى نفسه. وسالم هذا قد تجاوز الستين، إلا أنه قويّ البنية. وكان أحد حاجبيه أبيض تماماً، والآخر خالطت بياضه بضع شعرات سوداء.
في المساء السابق على عودة أسرة مهدي من الدَّخَّانة إلى لَمْزيندة، انضمّ مهدي وعليّ إلى حلقة الأشخاص الذين كانوا ينصتون للرجل الستيني وهو يروي لهم إحدى بطولاته. قال سالم إنه كان عائدا ليلاً، في إحدى المرّات، إلى الدَّخَّانة بعد زيارة لأخته في قرية العوامر، وكانت أشعة ضوء القمر تخترق طبقات الظّلام، ولم يكن هنالك ولا شخصٌ واحد خارج بيته. وبغتةً، اقترب منه جديٌ صغير. وبقفزةٍ اعتلى كتفيه. ثمّ إن الجدي – حسبما أضاف سالم – بدأ ينتفخ ويتمطّط، وفي مفاجأة جديدة، بدأ في الحديث إلى الرجل الستيني، قائلًا: "هل تجدني ثقيلًا بعض الشيء؟"، وبعدها صدرت عنه قهقهةٌ كهزيم الرعد. "إثر ذلك - يسترسل سالم - قفز عن كتفيَّ وقد أضحت عيناه حمراوين كجمرتين، وبرزت له أنيابٌ طويلة كالمدى، ثمّ ركلني بقوّة شديدة، فوجدت نفسي ملقى على ظهري قرب داري، تحت ضوء القمر الساطع، والجدي اللعين جاثمٌ بجانبي. لحظتها، تذكّرت السكين الذي في شكارتي* وبسرعة مددت يدي وأخرجته، ثمّ طعنته به في بطنه، فانفتح مكان الطعنة، لكن لم يخرج منه دم أحمر. وقد سقط أرضاً. وكان دمه بين الأصفر والأخضر، كما تبيّن لي في ضوء القمر".
بعد عودة عائلة مهدي إلى لمزيندة بنحو عشرين يوماً، اشتدّ المرض على رحمة، أمّ مهدي، وتقرّر أن "ترقد" في المستشفى الكبير باليوسفيّة - المدينة الصّغيرة القريبة من لَمزيندة - لفترةٍ قد تطول. ولذا، فقد دُعيت عمّة مهدي، للّا الضّاوية، من قبل الأب لتشرف على الحياة اليوميّة للأُسْرَة. وجاءت العمّة ومعها عليّ ابنها. وكانت لمهدي بضعة كتب، وعددٌ واحد من مجلّة "المزمار"، وهو عبارة عن ورقة طويلة وعريضة، مطويّة على أربع، وبها رسوم وحكايات وصور. في مساء يوم وصول العمّة، قالت إن مصباح الغرفة الكهربائي يصب على رأسها سخونته الشّديدة ويكاد يذيب مخّها، فهي لم تتعوّد إلا على ضوء الشموع الوديع. وفي الليلة التالية، اكتشف مهدي أن العمّة الضاويّة قد قطّعت عدد "المزمار" ذاك، وصعدت فوق مائدة، ولفّته حول المصباح للتخفيف من شدّة ضوئه. تفاجأ مهدي وصرخ في وجهها، فنهرته. وفي تلك الليلة، رأى في النوم كابوسين.
بعد ثلاثة أيام على ذلك الحادث، وعلى غير انتظار، حل بِلَمْزيندة رجل مجنون. والغريب أنه كان يدعى، أيضاً، سالم، فهكذا كان يسمّيه من يتحدّثون عنه. وأوصت العمّة الضاوية كلًا من مهدي وعليّ بعدم الاقتراب منه، وأضافت بأنه قد أمسك طفلة من قدميها ورفعها إلى أعلى وأهوى بها على جدار السّقّاية.
ثم إن العمّة الضاوية طلبت من ابنها عليّ أن يعود إلى الدخَّانة بلا إبطاء، على أن تلحق به هي بعد أيام عشرة، كانت هي ما تبقّى للأم رحمة في المستشفى. وكان مهدي قد قال لعليّ: "لِمَ لا تنتقل إلى مدرسة لَمزيندة وتقيم معنا؟". وبقدر ما سرَّه اقتراح مهدي، فقد أثار حنقه كلام أمّه عن ضرورة عودته إلى الدخَّانة لوحده. وفي ذلك الصباح نفسه، رأى الطفلان سالم المجنون، الذي مر قريباً منهما، هادئاً، وديعاً، وعلى شفتيه ابتسامة موجَّهة نحو الغيوم. وخطّط عليّ ومهدي لأمرٍ مثير، وهما يستشعران زهوّاً برصيدهما من الدهاء!.
هكذا إذن، تمدّد عليّ على ظهره، وسط شريط معشب بعيد من بيت عائلة مهدي بنحو مائتي متر. فيما مضى هذا الأخير مسرعاً صوب البيت. ومن وراء الباب، نادى العمّة الضاوية بصوتٍ جعله جهورياً بأقصى ما استطاع، وأضفى عليه ارتعاشاً وتهدّجاً، مصطنعيْن ولا شكّ، لكنّهما انطليا على العمّة: "يا عمّتي! سالم المجنون يقول إن دم عليّ ليس أحمر. ولكنّه بين الأصفر والأخضر!". "هاوِيلِي!"، قالت العمّة صارخةً، "وكيف ذلك؟". ردّ مهدي: "يبدو أنه جَرَحه. أعني أنه طعنه بسكين. وعليّ لا يزال ممدّداً هنالك، قريباً من البيت!".
تخرج العمّة الضاوية مرتاعةً، منفوشة الشّعر، فقد تركت رأسها عارياً، على غير عادتها. ويشير مهدي بسبّابة يمناه إلى حيث يتمدّد علي، ثمّ يهرول مبتعداً. وإذ تقترب المرأة المرتعبة كثيراً من ابنها المنطرح أرضاً، يقفز هذا الأخير واقفاً، معتزماً الهروب. لكن قفزة أمه كانت أسرع وأقوى، ولذا فقد تمكّنت من الإمساك بخناقه، وكالت له عدّة صفعات. وكان مهدي يلتفت ليتابع المشهد، في توجُّس أكيد، وهو يحثُّ الخطى صوب المقبرة.

* شِكارة : كيس من قماش أو ورق متين تعبَّأ فيه موادّ البناء في الغالب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى