إيماض مهدي بدوي - نـدم.. قصة قصيرة

أصدقائي، أنا آسفة.. نعم آسفة، آسفة حيث لا ينفع الأسف، ونادمة حيث لا يجدي ندمي. لن أطيل عليكم، ولا أطلب العفو والسماح؛ لأني لن أستطيع مسامحة نفسي، تلك الدنيئة التي حملتني للوقوف بينكم في مثل هذا اليوم. سبع سنوات مضت على رحيل الرفيق الشفيع السني والجرح ما سكت نزيفه..
في مثل هذا اليوم من كل سنة أتلو عليكم قصيدة من قصائده تخليداً لذكراه، ترددون ورائي: لن ننساك.. لن، لن. بين يدي الآن رسالة عمرها سبع سنوات، لم أجرؤ على فتحها غير اليوم، ولا أدري لماذا؟ يخبرني أنه يعلم جيداً أني وراء كل معاناته، كيف لا وأنا التي بلغت عن كل مسببات دخوله السجن. في كل مرة يخرج ويقابلني بالابتسامة نفسها.
الجريمة البشعة التي ارتكبت في حقي، ولا تزال تُرتكب في حق كثير من النساء والرجال داخل المعتقل، أجبرني أهلي على كتمانها، كيف لا والسترة والفضيحة «متباريتان»، الفضيحة التي كان الشفيع ميسرتها. طلب الزواج مني وهو يعلم أن في أحشائي مضغة تكونت أثناء التحقيق. وطلّقني بعد عام دون أن يمس يدي حتى ليقينه التام بأن قلبي لم يعرف غير أحمد حبيباً.
كنا نمشي ثلاثتنا آناء العشق وأطراف النهار نكفكف دمع المدينة بالأمل وغد أخضر ينتظر خروج العسكر من (أبودلمي، ومناقرا، والتبانة، ومرابيع خليفة…)، وعودة النازحين إلى قراهم. لم تعد المدينة تحتمل المزيد من البشر، ولم تعد القرى تقوى على الهجر. ماتت السعية جوعاً، والتي لم تمت هضمها العدو وتبرزها في كل مكان. أكاد أشم نتانة جثة منقال الذي فني وهو حي، ولم يجد من يواري جسده. الكل هاجر، ومن لم يهاجر تعفن كمنقال، أو تعفن بانضمامه لصفوف صفت لتقتيل أهله.
نعم، أنا من قتلت الضحكة في عين أمك وأصدقائك دون أن أهتم لشيء، ولا حتى حالة السني الصحية. نسيت تماماً أنه لم يكن أباً لك وحدك. ففي كل عام من ذكرى خيانتي ألبس فستاني حزين الألوان، وأمسح الماكياج عن ملامحي الحقيقية؛ لأهديكم أكذوبة الإحساس والشعور.
بعت الرفيق بثمن بخس؛ لأشتري براءة أحمد، وباعني أحمد ليشتري أنثى لا يقل حفل «طهورها» قبل سنوات قريبة عن الحفل الذي سيقيمه لزواجها. قد يظن البعض أني أحقد على أحمد أو أحسدها. لا، ذلك غير صحيح؛ فالكل يعرف أنه لا علاقة للمتعة بالمستوى الفكري؛ إذ لا يفيد ماركس ولا كتب الفلسفة ولا جدلية الهامش في ليلة «الدخلة».
أنا مريم.. مريم بعد قراءة الرسالة الأخيرة للمؤبن، وفي كامل وعيي، ويشهد الطبيب أني استشفيت تماماً من أثر «البنقو». نعم، «بنقو». وأشهد أني خنتكم بمشاركتي حزنكم.


الخرطوم-السودان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى