المقاهي فيديل سبيتي - بين الجميزة والحمراء تحرير اختر للإدارة

المتوحدون يسهرون في علب الجميزة...
والمتكتلون يسهرون في علب الحانات

المرايا في حانات الجميزة الليلية، سيدة المكان. فهي ما يمنح الحانة اتساعها. وحجم المرايا، كبر أم صغر، يعطي الحانة رونقاً وعظمة وفخامة. والحانات ذات المرايا الكبيرة والنظيفة والمرتفعة فوق البار وعلى امتداده تشي بأن أصحابها يتقنون عملهم ويعرفون خباياه، وربما كانوا من الساهرين فيها قبل ان يصيروا من أصحابها. وهي تنقل صورة السهرة الى الضفة الأخرى. فإذا كانت السهرة التي تدور خارج المرآة "واقعية" أو "هاذية"، فالسهرة التي في المرآة هي كذلك، مع فارق واحد بسيط هو ان سهرة المرآة تُري الشارب والساهر السكران نفسه بعينيه، بينما السهرة التي تدور خارج المرآة تريه نفسه في عيون الآخرين، وتري الآخرين أنفسهم في عينيه.

مرآة الكيان في الجميزة

أحد الأصدقاء المداومين على السهر (المداوم على السهر هو الذي يعطيه حيزاً كبيراً من يومه ويجعله في أعلى سلم أولوياته اليومية) وصف المرآة في حانة "الكيان" القريبة من التباريس بأنها "آلهة المكان". فهي تمنحه أبهته وتمتد في نصف مساحة المكان، وتُضاعف مساحته. ولولاها لبدا "الكيان" زاروباً في حي الحرامية الذي تقع فيه الحانة. وهي تُدخل الشارع المحاذي الى المحل فتضاعف مساحته، وتُدخل السيارات النازلة على مهل نحو شارع الجميزة، والساهرين القادمين من حانات آخرى حين يمرون على الرصيف المحاذي. فيصير الداخل والخارج مكاناً مشتركاً لا يفرق بينهما إلا صوت الموسيقى المدوي في الداخل.

ولئن كان مرور السيارات والساهرين يحدث في لحظات، فتكراره طوال السهرة يحول المرآة الى ما يشبه شاشة السينما، وإنما صالة مضاءة روادها ثرثارون ومدخنون، ولا يترك القلق الممزوج بمحاولات طمأنينة وفرح وحبور سحناتهم. فالقلق سمة من سمات الساهرين المياومين والمداومين من اللبنانيين، او هذا ما يبدو منذ تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد واغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم حرب تموز الساحقة والمدمرة، إلى احتلال ساحتي الصلح والشهداء و"غزوة بيروت" في أيار الماضي، وأخيراً الخوف من انتقال المعارك من غزة إلى لبنان وترقبه. وأحسب ان الساهر اليومي والمداوم، وهو جعل زيارة الحانات أولوية في يومياته، قلق في طبعه، خصوصاً إذا عدّ نفسه "فناناً" أو عدّه أصدقاؤه كذلك.

صور متماسكة

والمرآة تنقل للساهر اليومي صورته التي ينكرها. صورة سكره البادي في عينيه وملابسه وشعره وكيفية إحتسائه مشروبه. وأما ساهرو نهاية الأسبوع الذين يخرجون الى السهر ترفيهاً، فقد تكون المرآة في نظرهم ديكوراً جميلاً في الحانة. على ملاحظ المرآة ودورها ان يكون رائداً في السهر، ومحتاجاً للمرآة والنظر فيها، ويملك صورة عن نفسه مغايرة لتلك التي يراه عليها الآخرون. صورة عميقة ودفينة ولا يمكنه إخراجها الا بواسطة "فنه" الذي ليس في مستطاع الجميع "فهمه".

والجارة العجوز التي تسكن في الطابق الأول من البناية المقابلة لحانة "الكيان" حدست دور المرآة وأهميتها في الحانة. فلجأت - بعدما أعيتها كل الطرق التي لجأت إليها- الى سلاح الضوء، تعطل به تطفل المرآة. فسلّطت "بروجكتير" نحو مرآة الحانة. فراح ضوء البروجكتير يعمي الساهرين المعتادين على ضوء الحانة الخافت. ونجحت خطتها نجاحاً باهراً، فأجبرت الحانة على الإقفال عند الواحدة ليلاً... يومياً.

وكثرٌ هم رواد "الكيان" الفرادى الذين يرفضون الجلوس على كراس وطاولات بعيدة عن المرآة، وكأنهم يخافون الشعور بالوحدة، وخسارة صورتهم الأخرى في المرآة التي تتولى كسر وحدتهم عليهم.

وهذا دأب الرسام الذي يصل يومياً من الجنوب الى حانات بيروت، ومنها "الكيان"، فينهي سهرته نائماً لدى أحد أصدقائه في بيروت قبل ان يعود في صباح اليوم التالي الى بلده. وهو رسام لا يثق برسمه، ولا تعجبه لوحاته التي لم يبع منها إلا عدداً قليلاً لأصدقائه بأسعار متهاودة. وعلى الرغم من سنه والزمن الطويل الذي أمضاه رساماً، تراه يهرب من وحدته في بلدته الجنوبية الى وحدته في حانات الجميزة، ومن شعوره بفشله رساماً الى الكحول والمرايا.

وهذا دأب الشاب الذي نشر كتاباً عن تجربته في أحد الأحزاب الأصولية، ظانّاً ان تلك التجربة خميرة حياة كاملة لا تقارعها تجربة أخرى ولا تضاهيها أهمية. فيستمتع بشعوره هذا مستزيداً من الكحول توكيداً لانصرافه عن زمنه الماضي، ومحاولاً الانخراط في اجتماع السهر الليلي في الجميزة. وهذا غالباً ما يجبر الساهر على ترك "تجاربه" خارج باب الحانة ليدخلها متخففاً إلا من الرغبة في السهر والتعارف.

وهذا دأب الشاعر الشاب الذي أصدر إلى اليوم مجموعتين شعريتين، وباع من الأخيرة ما يقارب العشرين نسخة في توقيعه في معرض "الكتاب العربي والدولي"، وأهدى أصدقاءه وأقاربه نحو المئة نسخة، وانصرف للتحضير للمجموعة الشعرية الثالثة. وهو يقول ان شعره "ما بعد حداثوي"، وأنه ينقل حياته في المدينة ومعايشته ليلها وسهرها وساهريها. وهذا ما يدفعه الى الشعور بأن مراقبته الساهرين في حانة "الكيان" (مثلاً)، وجلوسه في مواجهة المرآة وحيداً متأملاً، هو بمنزلة مخيلته بمادة كتاباته. وهو يحسب أنها ستكتشف في يوم ما كما اكتشفت كتابات "كافكا" بعد وفاته.

ما بين الجميزة والحمراء

وأما سهر الحمراء فمثقل بيسارية وعروبة وقومجية (كرستها غزوة 7 أيار وجعل السوريين سفارتهم في وسط أحد شوارعها الرئيسية). ومن لا يظن في نفسه انه يملك "تجربة" سابقة على غرار تجربة الأصولي، ومن لا يتنسم في نفسه نجاحاً في "فنّيته" بعد فشل، ومن لا يشعر أنه يسهر مع أمثاله، فلن يتمكن من الدخول الى اجتماع السهر الليلي "الأحمر". ففي الحمراء عليك ان تنتسب الى جماعة لتسهر. والفرد يفرد إفراد "البعير المعبد"، على خلاف الجميزة التي يتألف ساهروها من وحدات قد تكون أفراداً او مجموعات، ولا تتحول الى جماعات البتة.

والرسام والأصولي السابق والشاعر، هي مثالات عن عشرات من الساهرين الذين يحاولون جمع مريدين في حانات السهر الليلي، وصمتهم وشرابهم وتدخينهم في مواجهة المرآة هي عدة هذا "التجميع"، الفاشل غالباً في الجميزة، والناجح غالباً في الحمراء.

والساهر المداوم أمام المرآة مستمعاً الى الموسيقى، منتشياً بهما، يريد ان يعرف اين بلغ من السكر. وهذا المطلب تفي به المرآة الغاوية. ويريد صاحبه الوثوق بأن صورته عن نفسه وصورته في نفوس الآخرين، هما واحدة. والمرآة غالباً ما تخطئ في تلبية المطلب، فيشعر السكير انه شخصان، واحد يسكر أمام الجموع، وآخر تنبعث من دواخله مشاعر "ثقافية ـ فنية" متوهمة. والصديق الشاعرـ حين نتصل به في أواخر السهرات يقول انه يكتب متشاوفاً علينا ويظن أن تضييعنا الوقت، فيما هو يكتب، يمنحه تفوقاً ـ هذا الصديق حين يقرأ على مسامعنا قصائده نعرف فوراً انه كتبها وهو في حالة سكر، وبعضنا ينتبه الى انه كان متأثراً بصورته التي أرته إياها مرآة "الكيان".
هذا الشعور الافتتاني يبدو في أغلب الأحيان مبرراً للسهر. فالناظر في شريط حياته السينمائي، حين يجده مليئاً عن بكرة أبيه بالسهر، يحول السهر الى مبرر ابداعه المفترض، او هو في أضعف الأحوال مكافأة على إبداعه.

وهذا مرتبط بالصورة التي يريد الساهر اليومي، "المثقف ـ الفنان"، طبعها لدى رواد الحانة المختلفين عنه. فبعضهم يسهر وحيداً متأملاً المكان، او نفسه، في المرآة مدخناً بشراهة، كارعاً كؤوس الكحول "السك". والبعض الآخر، اذا ما اجتمع بأصدقاء من أمثاله، بحثوا عن مكان هادئ لا ضجيج فيه، رواده من أمثالهم، أي مثقفون ينبذون الضجيج، ويطلبون المجالسة للحديث في أمور الثقافة وشجونها، وهذه (الأمور والشجون) لا تعدو النميمة.

مثقف الافلام الفرنسية

الصورة هذه (التوحد – التدخين ـ كرع الكحول...) مستعارة من صورة المثقف في الأفلام الفرنسية، او في إعلانات السجائر الفرنسية، وهي تظهر المدخن مثقفاً (او المثقف مدخناً) يقتعد مقهى، ويحمل صحيفة يقرأها، فتنجذب اليه فتيات الاعلان الجميلات اللواتي يغويهن صمته وجديته، فيجهدن من أجل فك أسرارهما. وصورة المثقف هذه أيضاً ليست بعيدة عن صور المثقفين اللبنانيين والعرب التي تبدو وكأنهم يلتقطونها لنشرها بعد مماتهم (بوعكة صحية غالباً) في الصحف والصفحات الثقافية وفي مهرجانات التأبين. فهذه هي صورة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، او الشاعر السوري محمد الماغوط، او صورة أنسي الحاج، أينما وجدت، وكذلك أدونيس وبول شاوول وغيرهم كثر: سيجارة، ووجه مفكر، وشعر مشعث.

ومثقفو ـ فنانو حانات الجميزة القليلون حملوا تلك الصورة من شارع الحمراء الى الجميزة. ومن استطاع الصمود في سهر الجميزة يبدو غريباً عن المحيط الذي يسهر فيه.
أما من زار الجميزة مرة، ولم يعد اليها لشعوره بالغربة، فقد سامحته مرايا حانات شارع الحمراء، وأعادته الى قعرها ينظر فيها متأملاً في قعره.

مرآة التورينو

المرآة في حانة "التورينو"، في وسط الجميزة، في مواجهة مبنى الدرك، تلعب دوراً آخر.

في الحانة التي كانت دكاناً بُني أيام الانتداب الفرنسي، ويرتفع سقفها المقعر (قنطرة) ستة أمتار، ترفع المرآة السقف ستة أمتار أخرى. فهي معلقة في أعلى الحائط، ولا يمكن للداخل الى "التورينو" إلا ان يرى رأسه من دون رقبته فيها. ولا يمكن للساهر هناك، كي يتسلى، إلا ان يتحرش بالجالسين ويحادثهم، لا تلهيه المرآة عنهم ولا صورته فيها. فينسج صداقات جديدة.. وربما عداوات.

والصديق الشاعر عاشق المرايا قال في وصف مرآة التورينو إنها "فقيرة الدار"، مشبهاً إياها بأمه التي "كانت في بيتها الزوجي تبدو خادمة أكثر من كونها أماً".
وفي التورينو عدد الساهرين الذين تراهم أمامك هو نفسه. لا لغز في الأمر. وعدد قناني الكحول المرصوفة خلف البار هو نفسه. وحدها الصداقات الجديدة هي السبب الجدي الذي يدعو الى "التورينو". لذا بات، بعد افتتاحه في بدايات 2003، ملتقى للأصحاب الذين تعارفوا فيه. وصار رواده يعرفون بعضهم بعضاً حتى يبدون وكأنهم متعارفون منذ ما قبل افتتاحه. فترى واحدهم، حين يدخل إليه، يحتار الى أي طاولة يجلس، وعلى أي فريق يلقي التحية. وإذا تمكن من إلقائها على الجميع استحال عليه الانتحاء في زاوية، وإكمال سهرته وحده، فرداً في المنزل يمكنه الانزواء في غرفته شاعراً بالطمأنينة لأن أهله يحيطون به من جميع الجهات.

"التورينو" لا يجذب إلا كارهي الحانات الأخرى الذين يمقتون الفخامة في تأثيث الحانات الجديدة، ويمقتون أصحاب السيارات الفخمة الذين يعطون سياراتهم للـ "valet parking" ثم ينزل واحدهم من سيارته ترافقه فتاة تبرجت وارتدت ملابس تبديها كأنها ذاهبة الى عرس. رواد "التورينو" (وهو مثال لعدد من الحانات في الجميزة والحمراء) يمقتون رواد السهر من أجل السهر. فهؤلاء، رغم انهم لا مرايا ينظرون فيها في "التورينو"، إلا ان صورتهم عن أنفسهم جاهزة. وهم من مثقفي الحداثة، أو ما بعدها، ومن صانعي الأفلام القصيرة، ومبتدعي أفكار الإعلانات، ومهندسي الديكور، والمصورين الفوتوغرافيين والعاملين في جمعيات أجنبية لا تبتغي الربح وتعاني ظلم "امبراطورية الشر".

ولا يمكن للقادم من حانات الحمراء ان يتكيف في أجواء "التورينو". فهو يبدو قديماً وعتيقاً في عيون رواد الحانة. رائد الحمراء وحاناتها، حين يقرر المجيء الى الجميزة يكون في حال من التوحد، وهذا لا يمكّنه من الصمود في حانة يعرف روادها الأفراد بعضهم بعضاً، ومع ذلك يبقون أفراداً. والرسام الجنوبي وصاحب التجربة الأصولية والشاعر لم يتمكنوا من الصمود في "التورينو"، ولا من العودة إليه. فهنا لا يمكن جمع مريدين، ولا مرآة تكسر الوحدة.

التقرب من شارع الحمراء

رواد السهر في شارع الحمراء، سواء في "الريغوستو" القريب من مقهى "الستاربكس"، او مقهى وحانة "تاء مربطة" الجديد في اوتيل البافيون، او حانة "البارومتر" في آخر شارع عبد العزيز، او حانة "سمرا" في مبنى "زيكو" في الصنائع، يعتبرون ان حانات السهر في الجميزة "كلاس"، ولصنف آخر من الساهرين. فهؤلاء الرواد يعرف جميعهم بعضهم بعضاً. ومعرفتهم لم تعد مقتصرة على السهر بل على انتمائهم الى جماعة الساهرين أصحاب الآراء السياسية المتقاربة وأصحاب الفكرة المتطابقة عن "الفنان ـ المثقف" ودوره الطليعي في المجتمع. وهم فئات من مختلف الأعمار تتخالط وتتقارب وتسهر وكأنها في جماعة ساهرة. وهؤلاء هم من الرسامين "الفاشلين" او الباحثين عن النجاح الذي يخرجهم من حانات شارع الحمراء، ومن كتاب المقالات في الصحف اللبنانية، والشعراء على اختلاف تصنيفاتهم (شعراء رواد ـ شعراء حرب ـ ما بعد الحرب ـ ما بعد الحداثة...)، والشباب العاملين في مؤسسات غير حكومية ذات ميول يسارية، وأجانب يسارويين يجدون ملاذاً في حانات شارع الحمراء، فيشعرون انهم في كثرة بعدما كانوا قلة في بلدانهم، ومن متسكعي الشارع الذين ينتظرون السنوات القادمة حتى يخرجوا "ابداعاتهم" الى العلن و... وهؤلاء جميعهم من الساهرين المياومين والمداومين. ففي حانات شارع الحمراء هذه لا وجود لساهري أيام آخر الأسبوع، لذا فإن اكتظاظها يبقى على حاله في كل أيام الأسبوع وقد تكون مكتظة في وسطه أكثر مما تكون في نهايته.

وفي حانات شارع الحمراء لا دور للمرايا البتة. والجماعات المتكتلة لا تحتاج الى المرايا. والمرايا اذا ما كانت موجودة في الحانة ففي خفر، وفي زوايا الحانة وليس في مقدمها. فهناك تحتل الصور الفوتوغرافية واللوحات المرسومة على عجل، والأفيشات، مركز الصدارة. في حانة أبو إيلي في كاراكاس صور الثورة الشيوعية وثوارها. في البارومتر زياد الرحباني وياسر عرفات والمسجد الاقصى. في الريغوستو تتصدر صور التلفزيونين المعلقين في زاويتين متقابلتين. في "سمرا" تنتشر صور لمطربين وممثلين عرب وأفيشات أفلام مصرية قديمة.

وفي الآونة الأخيرة تم افتتاح عدد من الحانات الجديدة في شارع الحمراء وفي الشارع الذي أقيمت فيه السفارة السورية في لبنان. حانات تحاول التشبه بتلك التي في الجميزة، ولكنها لا تنجح في تقليدها رغم انها تنجح في جذب الرواد من حانات الحمراء القديمة الذين كانوا يسهرون فيها على مضض. ولكن حانات شارع الحمراء على اختلافها لا تجذب رواد السهر قدر ما تجذب رواد الشارع نفسه. فتسحبهم من مقاهيه القديمة والجديدة إليها ليلاً، ويكمل هؤلاء يومهم الذين يبدأونه في الشارع مستصعبين الخروج منه. مرة بسبب المسافة ومرة بسبب التغرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى