د. سناء الشعلان - س . ص . ع لعبة الأقدام.. قصة قصيرة

سناء الشعلان


” مسموح بكلّ شيء في لعبة الأقدام، مسموحٌ بتعالي الضّحكات، مسموح بتهادي الأجساد، وبتعرّق الأبدان، وبشهوة الغناء والسّخرية، حتى إنّه مسموح بالارتداد إلى زمن الطّفولة، أمّا فرحة لقاء الأقدام فممنوعةٌ، وملعونةٌ، وآثمٌ مَنْ يقتنصها أو يحترفها “*

“س”

” القدم العرجاء تهوى لعبة الأقدام أيضًا “.

لم تعرفْ يومًا معنى “س.ص.ع” التي كانتْ تلوكها ضحكات أترابها من صغيرات الحيّ، وزميلات المدرسة، كلّما شرعنَ يلعبنَ لعبة الأقدام المسكونة بدبيب الرّقص، وأزيز التأرجح والتّضاحك والتّداعي، ولا فكّت يومًا رموز هذه الحروف المتفلّتة من عقـال الكلمات، والمتحرّرة من رداء الجمل والمعاني المدركة، ولا فهمت أيَّ علاقة تربطها بلعبة الأقدام التي تداعب صمت الأجساد، فتهبها حركة لذيذة، وتقافزًا مثل فراشاتٍ مزهوةٍ بربيعٍ غير آفلٍ. لكن ما تدركه بحزنٍ خرافي قديم كصخرةٍ مقدّسةٍ – أنّ هذه الحروف دون غيرها من حروف كلام البشر قد ارتبطتْ عندها بالحرمان وبالعجـز، وبقدمها العرجاء على غير استحياءٍ؛ إذ كانت قدمًا عرجاءَ بتبجحٍ تعجزُ عن أن تداريه، فتجذبها بذلٍّ نحو الأرض، وتحني عمودها الفقري نحو معقل قِصَرِهَا، وتبرز ردفيها الصغيرين باستسلامٍ كسيرٍ.

لم تحلم يومًا بقدمٍ تماثل قدمها السّليمة بالطّول والصّحة، وتعفيها من ذلِّ العاهة، وآفة التشوّه ؛ فهي لا تتمنّى المستحيل، فقدمها العرجاء المتكوّرة عند الركبة هي هبة رحم أمّها منذ أن كانت ساكنته السّادسة بعد خمسة إخوة، لكن “س.ص.ع” لعبة الأقدام هي من كانتْ حلمها، لطالما أسندتْ ظهرها المقوّس إلى حائط الحارة، ذلك الحائط القديم الملوّث بصدأ القِدَم وعبارات النّسيان، وأوساخ أخرى فقدتْ تاريخ واهبيها وأسماءهم، تتلصّص طويلًا على الأيدي الصغيرة التي تمتدّ بعشوائية لتمتصّ بتعرّقٍ ثرٍّ أكفًّا أخرى، وترمي بأجسادها الغضّة الصغيرة المكسوة بأثواب الطفولة البريئة في دوائر الرّيح التي تشكّلها حركاتهن البهيجة، وتعلوها ضحكاتهنَّ التي تحجب قرع وجيب قلوبهنّ المشتعلة بحرارة اللّهو والتقافز، والمتوقّدة بضربات أقدامهنّ بالأرض.

تتابع بأسًى صحراوي جافٍ يظمِئ روحها الصّغيرة كحفنة دقيق في كفيّ فقير خطواتهن الصّغيرة، تتمنّى لو كانتْ قدمها العرجاء طائعة طيبةً كانكسارها ؛ لتتآمر معها على الظّفر بفرصة لعبٍ واحدة مع الصّغيراتِ، وعلى فكِّ أبجدية “س.ص.ع” لعبة الأقدام، لكنّ بُعْدَ قدمها عن قلبها جعله يجهر بكلِّ الأمنياتِ المؤجّلة إلا أمنية قدمها العرجاء، فقد ظلّت بكماء، لا تلوي على لحظة احتجاج أمنية مخنوقة.

مرّتْ عشرون عامًا من الانكسارات والأحزان وتاريخ مُدْمٍ من العرج يعلوه صوت خطواتها غير الرّتيبة التي تملك تتابعًا شاذًّا، ليس كسائر تتابع الخطوات السّويّة، حتى يكاد يكون بصمة مميزًا لشقائها، لكنّها لم تنسها “س.ص.ع” لعبة الأقدام التي توارثتها طفلات حيّها الشّعبيّ القديم الرّابض على حدود أحياء من هم أقلُّ من سكان حيّها بؤسًا وانغماسًا في العمل المضني ليل نهار.

كلُّ الأصوات عندها تتماثل، وتتداخل، ثم تتلاشى إلا أصوات ضحكات الصّغيرات المتوّجة بـِ “س.ص.ع” التي لم ترحل مع ذلك الزّمن الرّاحل دون استئذان، واسمه سنوات الطّفولة وبواكير الصّبا. تخشى الزّوج الطّيب بقوة الفقر، وتخشى الهروب من مسكنٍ قديمٍ اسمه بيت، وتتفقّد أقدام صغارها في لحظة ولادتهم ؛ للتتممّ على أقدامهم السليمة ؛ إذ ترعبها حدّ التلاشي فكرة الأقدام القصيرة، والخطوات العرجاء، وتفرح أيّما فرح عندما يمشي أطفالها خطواتهم الأولى بلا حزنٍ شفيفٍ اسمه عرج.

تقطع الحارة يوميًّا ذهابًا وإيابًا، تتمنّى أشياء، وتسبّ أخرى، ثم تنسى ما تمنّت وما سبّت، إلّا لعبة الأقدام فهي لا تنساها ؛ فهي ظلّها الحزين في منحنيات القلب، ” كم ستكون الحياة أجمل لو أنّني حظيتُ ولو مرةً واحدةً بلعبة “س.ص.ع”. تحدّث نفسها بوجلٍ، ثم تزرع ابتسامة ممطوطة على صفحة وجهها، تتنحنح بزفيرٍ شديد، وكأنّها تسحق أمنيتها القلقة، ثم تتابع طريقها بعينين زائغتين في زقاق الحيّ الجنوبي حيث متعة لَعِبِ “س.ص.ع”.

“ص”

” الضّفائر السّوداء تتقن لعبة الأقدام”.

ضفيرتاها السّوداوان تداعبان وجهها القمريّ الملبّد بغيوم حمرة وجنتيها، وتنزلقان بشبقٍ خرافي على ردفيها الصّغيرين، وتلمسانه بإضرابِ دافئٍ، ثم تحملان اهتزازه الطّفولي غير المثقل باكتناز الأنوثة الكاملة بعد، هما رفيف قلبه، وحلواء روحه، الزّمن يتوقّف تمامًا عندما تبدأ لعبتها مع طفلات الحيّ، تغيبُ اللّحظات، ويُضبطُ الطّقس على دقّاتِ قلبه المثخن بعشقهِ الغضّ، وتتسع حدقتا عينيه حتى تكادا تبتلعان رذاذ ضحكاتها، وتقرشان جنون ضفيرتيها السّوداوين ككحلِ آلة جمالٍ فينيفية، لا يعرف الكثير من كلماتِ العشق، وتخونه الكلمات، وتذلّه ملابسهُ القديمة المنكودة بطلاء السّيارات، وسخام العوادم، وشحوم المكابح، فينكسر بين سيارات المرآب المعطّلة حيث يتعلّم مهنة عمه كافل فقره ويتمه، يراقبها ليل نهار، ويلعقُ جمالها عن جدران قلقِ فرحه الطّفولي في لحظات مراقبتها وهي تلعب “س.ص.ع”، فيتمنّى عندئذٍ من صميم قلبه الصّغير لو كان يملك يدين نظيفتين لا تجلدهما قاذورات المحرّكات، ولو كانتْ لعبة حبيبته القمرية الصغيرة ليست عنصريّة، ومتحيّزة للفتيات ضد الصّبية، إذًا لكان أوّل من يغزو حلقات اللّعب على صهوة اشتياقه، ويحتلُّ كفّ إحدى يديها، ويلاحق بقدمه قدمها التي تحنُّ بطفولة ليست بريئة، وإن لم تكن مدنّسة إلى معانقة قدمها، ووطئها بخفةٍ لتصبَّ فيها حرارة فرحته بها، لكنّه – وألف حسرة – صبيٌّ يتيم مأسورٌ لعمّه، وهي فتاة جميلة بثوبٍ أبيضَ نظيفٍ، ووجه قمري مقدّس، وضفيرتين سوداوين كحبر قصيدة مجيدة على جدار قلبه، إذًا فليصمتْ ويراقبها ليل نهار دون كلام، وليتحسّر ما شاء على ضفيرتيها المزّهوتين بثوب الزّفاف وبيديّ رجلٍ ببذلة أنيقة تفكّهما، وتسدلهما باشتهاء قرمٍ على ثوبها الأبيض وجسدها العاري، لتنجب له بعد أشهرٍ قليلة فتاةً بوجهٍ كوجه والدها، حيث رحل القمر، ولكن بضفيرتين سوداوين تعشقان أيضًا لعبة “س.ص.ع”.

بقوة محرّك قديم سارتْ حياته الرّتيبة، وحسبه تاريخ حمارٍ بشريّ دأبه العمل والكدّ دون تذمّر أو شكوى، عنده ثلاثة أبناء ذكور، وابنة واحدة، لا شمسيّة ولا قمريّة، وليس لها ضفيرتان، لذا فمن حقه أن يراقب بحسرةٍ دفينة في عميق أشواقه ابنة المرأة التي أحبَّ دون أن تعرف، وانغرستْ في سويداء قلبه طفلةً صغيرةً تقهقه ببراءة، وهي تلعب لعبتها التي تتقنها، ولا تسمح لأيّ صغيرة تلهو معها في اللعبة بأن تدوس قدمها، وتبقى محلّقةً في سماء دوائر الرّيح، مشرّعةً ضفيرتيها دون قصدٍ لطفلٍ يتيمٍ لا يجيدُ اقتناص الكلماتِ.

“ع”

” عليكَ أن تحضر جسدكَ معكَ كي تلعبَ لعبةَ الأقدامِ “.

اعتادتْ منذ أنْ كانت طفلةً على أنَّ تجدلَ الخرز الملوّن مع ضفيرتيها السّوداوين، ثم غدت تجدلُ معهما حليب أمومتها المتدفّقة وخلجاتِ قلبها المتوثّبة أبدًا لسعادةٍ آدميةٍ اسمها ابنتها الصّغيرة، ثم جدّلتِ الأحزان مع ضفيرتيها بعد أن خطف الموت صغيرتها، وولّى هاربًا بها نحو مملكته المظلمة، وهي تخشى الظّلام، وتخشى كائنات الموت، وتخشى كذلك ذلك الصّمت المطبق الذي اسمه الموت، لذلك فقد آثرت أن تسلم نفسها لحزنٍ أبديّ وجنون دوريّ اسمه طيف ابنتها الحبيبة التي كانت حديثةَ عهدٍ بمتع الطّفولة واللّهو عندما انضّمت إلى لعبة “س.ص.ع”، يومها لعبتْ معها لأوّل مرة في الشّارع مع الصّغيرات، ودفعتها بحنوٍ نحو الأكفّ الصغيرة النّاعمة، ودوائر الرّيح والتّراقص، وجعلتْ من حرفة مراقبتها من شرفة منزلها متعةً لروحها، وكادت تفكر بأنْ تنقلَ الفتيات واللّعبة والشّارع إلى بيتها كي تكونَ ابنتها في أمان، لكنّ “س.ص.ع” هي لعبة الحارات والأزقّة، ولا يمكن أن تُدجّنَ في بيوتٍ مطبقة الأبواب، مغلقة النوافذ، ولذا فقد سهل على الموت أن يسرقَ ابنتها، وأن يطعمها بشرهٍ لسيّارة مسرعة مرّت من زقاق الحيّ، واقتاتتْ جسد طفلتين، ابنتها كانت إحداهما.

ورحل الموت بردائه الجنائزيّ المقيت، وأَسَرَ ابنتها في مملكته السّوداء، وبقيتْ هي ربيبة الأحلام وطيف ابنتها المتفلّت من عالمه السّفلي، والمولع بلعبة الأقدام على الرّغم من ضبابيته العاجزة حتى عن ضمِّ كفٍّ صغيرة تلعب.

تصمّم أحيانًا على مداعبةِ طيفِ ابنتها، وتقحمُ نفسها في حلقاتِ لعبِ الصّغيرات ، وتُحادث الطّيف بانكسارٍ، فترهبُ الصّغيرات، فيهربن جزعات، وتحوقل أمهاتهنَّ ؛ إذ يشفقن على جارتهنَّ الشّابة التي يداهمها الجنون من حينٍ إلى آخر كلما سمعت أزيز لعبة “س.ص.ع”، في حين تصمّم الصغيرات على ممارسة لعبتهنّ المفضّلة غير آبهاتٍ بجنون أمٍّ خسرتْ وحيدتها لأجل لعبة أقدامٍ.

” لعبة الأقدام ”

” من حقِّ الأقدام أن تتمرّد على الأعراف والعادات والأحزانِ “.

كان يومًا ماطرًا ومشمسًا وغائمًا ومرعدًا، وقائضًا وممطرًا ومثلجًا، وتجتاحه عواصف ورمال صحراويّة، بالتحديد كان يومًا عاديًا، ليس من بصمةِ طقسٍ مميّزٍ تعلوه، ولذا فقد سَهُل أن يسقطَ من حسبان ثلاثتهم، إذا كان فيه بذرة جنون، وعوالق تمرّد، وحفنةٍ من أحزانٍ متدفّقةٍ، فكان حَرِيًّا به أن يجمع ثلاثتهم دون ترتيب معلن في ذلك الزقاق، كانت العرجاء حينئذٍ عائدةً من عملها في دورته الصّباحيّة من المستشفى، وكانتِ المجنونة ذات الضفيرتين السّوداوين تلاحق طيف ابنتها الذي يكاد يغشى، بفرح طفوليٍّ يهزأُ بالموت، حلقةَ الأيدي الصّغيرة النّاعمة، أمّا هو فكان يراقب مجنونته الفاتنة، التي غدا الجنون برزخًا يفصله عنها ما شاء لعمريهما أن يمتدّا.

ثلاثتهم كانوا مشغولين بما يشغلهم، وبأصوات الضّحكات، وبترنيمه “س.ص.ع” السّحريّة التي تضجّ بحرارة الزّقاق، والأقدام الصّغيرة الرّاقصة تعفر ترابه المزّ، وتهيّج غبـاره المنتن، الطّيف أوّل مَنْ دلفَ إلى حلقة اللّعب، ثم داهمتِ الأم المجنونة الحلقة لتحضنَ الطيف الشّقي، فَعَلَتِ الصغيرات همهمة ثم زمجرة، ثم هربنَ لا يلوين على شيءٍ، فوقفتِ الأمّ كسيرة تمدّ يديها إلى العدم، حين يقف هو بكرشه الذي نما بتغوّلٍ في السّنوات القليلة المنصرمة، وبحزنه الذي شاخَ، وما شاختْ صبوته، ولا غادرته فتاة قلبه ذات الضفيرتين السّوداوين.

اقتربَ منها، لأوّل مرة في حياتها تلمح كلام عينيه ” أكانَ يحتاج إلى جنونها حتى تسمعَ حنينه وتقرأَ أشواقه ؟” حدّث دهشة عينيها بصمت.

هذه فرصته ليلاعبها، وليراقصها، وليدفن كفها في كفه ولو لمرة واحدة في حياته، مدّ كفّه بانكسار شحّاذ حافٍ، فألقمته كفّها برضا كليمٍ يمدُّ جرحه لآسٍ، وبقيتِ اللّعبة ناقصة، تحتاج إلى ثالث – على الأقل – لتبدأَ.

العرجاءُ بصليل حذائها المقوّم لقدمها العرجاء كانت ذلك الثالث الذي وهبه القدر لهما في لحظة تساهلٍ نادرة، تعانقتِ الأكفُّ السّتة، وبدأتْ رقصة لعبة “س.ص.ع”، العيون كانتْ مشرقةً كنوافذ قمريّة، والرّقابُ مشرئبّة، والأرواح معلّقة في عرش السّعادة. رقص ثلاثتهم كما لم يرقصوا يومًا،

وعلتْ أصواتهم وهم يردّدون بفرحٍ مستحيل مداهمٍ : “س.ص.ع لعبة الأقدام”.

وغشيتهم بركـات لعبتهم السّحريّة، وساحوا في دنيا النّور والطّفولة والأقـدام المنكودة، وفرحوا كما لم يفرحوا يومًا، في حين بكى كثيرٌ من سكان الحيّ من لعنة الجنون التي أصابت ثلاثة أشخاص طيبين من خيار أهل الحيّ، وحرّمت الأمهات لعبة “س.ص.ع” على بناتهم، إذ بِتْنَ يتشاءمنَ من هذه اللّعبة اللّعنة التي تسكن الأقدام، وتأكل القلوب.

د. سناء الشعلان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى