د. سناء الشعلان - منامات السّهاد..

" أفلح من نام، وتعس من استيقظ" (1)

(1)
منام السلطان
سهد السّلطان ثم نام،فرأى في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم أنّ الرّعية خرجت إلى الشّوارع تهتف باسمه، وتدعو الله بطول العمر له، وتسأله بإلحاح أن يأخذ ما في أيديها من عطايا له، لينفقها في سبل لهوه، ومصارف مجونه وعبثه، عندها خرج إلى شرفة قصره، وشكر شعبه على تقديره الرّفيع لشهيته الشّرهة في كلّ اللذائذ والمتع، وفي لحظة مجازفة متهورة منه طلب من جنوده أن يفتحوا خزائن قصره للرّعية يغرفون منها ما شاؤوا، ويمضوا إلى شؤون حيواتهم راضين مرضييّن، وعندما برّز الجوهر والمال للشّعب، أشاحوا بوجوههم عنه، ورفعوا الأكفّ الدّاعية لله بطول بقاء السّلطان، وصمّموا على أن يضمّ ما في أياديهم من عطايا وهبات إلى كنوزه المكدّسة في غياهب سراديب قصره المنيف الرّابض على تلّة السّلطنة وعلى صدورهم الممتلئة أحزاناً وآلاماً.
فأسقط في يدي السّلطان من شدّة إلحاح الشّعب عليه بأن يضمّ قليلهم المقطوع من أقواتهم إلى كثيره المكدود من عرق ضنكهم، وتلطّف عليهم بأن تكرّم بقبول هداياهم، وصرفهم بلطف وهم يرفلون بحمده.
وراح يرقبهم في منصرفهم غير آبه بأسمالهم التي بالكاد تستر أجسادهم الهزيلة التي براها الجوع، وقسمها الذّل، وكبّلها العوز والخوف، وغضّ الطّرف عن عيونهم التي تزوغ بفضول في قصره تدهش لما في حديقته من مظاهر الخيلاء، وتحف التّرف، وأطربه دبيب خطى قدم تلك الحسناء الفلاّحة التي تستر صدرها برأس طفلها الرّضيع، وتلمّظ بتلاحق وهو يتخيّلها فريسة سهلة تنهشها أظلافه، وأرسل الطّرف لشهوته تلفّعها برغبته.
وما كاد زوج المرأة الفلاحة يلتقط نظرات مولاه السّلطان، حتى هزّه الطّرب، وأدركه الفرح، وشدّ طفله عن صدر زوجته، وهمس في أذنها بحبور، ثم تابع مسيره يحمل طفله يحثّ الخطى للابتعاد، في حين قفلت الزّوجة راجعة تيمّم نحو قصر الحريم لتكون هدية الشّعب في هذا المساء للسّلطان الهمام.
عندها زاد حبور السّلطان بوفاء شعبه وإخلاصه، وأمر جنده أن يؤذّنوا بالنّاس أنّه تقديراً منه لظروفهم وتخميناً لتفانيهم في سبيل إسعاده، فقد قرّر أن يزيد الضّرائب والمكوس، ويقنّن الأرزاق، ويحرث الجبال على أكتاف الرّجال.
فهــلّل الشّهــب ابتهــاجــاً بكرم السّلطان، وشخصت العيون إلى السّماء تسأل الله أن يمدّ في عمر السّطان.(2 )

(2)
منام الشعب

سهد الشّعب ثم نام، فرأى في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم أنّ الحياة قد صفت له، وأنّ كامل حقوقه قد ردّت إليه بقدرة حجاب فعّال نفث فيه نفر من الجان، وعقد عقده نجل الشّيطان، ورأى السّلطان يجرّ أذياله في الشّوارع والميادين، يتفقّد الرّعية، ويجبر خواطر المكسورين، ويرد المظالم إلى أهله، ويوقد نيران القرى للغادي والرّائح.
وحوله رجال بطانته من الصّالحين العابدين الخيّرين الذين لا يخشون بالحق لومة لائم، فيشدّون من أزره، ويضربون معـه على أيـدي الظّالمين، يأمرون بالمعروف، وينهـون عـن المنكر.
بالعدل صفت الوجوه، وزهت العيون، وابتسمت الثّغور، وعمّ الخير، و آتـت الأرض غلالها أضعافاً، وطرحت جناها في العام الواحد مراراً،فطهرت القلوب، وعفّت الأيدي والأجساد والذّمم، وعمّ الأمان، وانتشر الخير، وفاضت الهناءة، وما عاد في السّلطنة من ينام حزيناً أو مظلوماً أو خائفـاً أو جائعـاً، وغدا هـمّ المواطـن أن يسأل ربّـه أن يهبه أن يحسن شكراً للسّلطان الـذي بفضـله ازدانـت الحيـاة، وجملـت المعيشة.(3 )

(3)
منامها
سهدتْ ثم نامتْ، فرأتْ في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم أنّها أُسميت فرحاً عند مولدها؛ لأنّ والديها أرادا أن تحمل اسماً يكرّس مشاعر فرحهما العميق بمولد ابنتهما البكر التي تمنيا دون توقّف أن تكون أنثى جميلة ترفـل في الدّمقس والحرير، وتربّى على العزّ والدّلال، وتملأ حياتهما بهجة وسعادة وغبطة، ولذلك أسمياها فرحاً.
الدّنيا كلّها كانت تفتح ذراعيها لفرح، القبيلة التي لا ترى الحياة تكتمل إلاّ بمولودة أنثى جميلة كتبت باسمها قسمتها المقنّنة من أراضي المواليد الجدد.
وظلّت تاج والديها إلى أن جاء أخوتها الذّكور إلى الحياة؛ فارتقوا بها لتكون جوهرة التّاج.
كلّ تفاصيل حياتها جاءت علـى قـدر الأمنيـة، وعلى حجـم الأمل، وعلى مساحة الشّوق؛ الدّراسة كانـت متاحـة حتى استكفت منها، والوظيفـة العادلة ساوتها مــع أقرانها مـن الرّجال العاملين بجدٍّ والنّساء العاملات بإخـلاص، والأمير الوسيـم الــذي يسكن الغمـام، ويحلّـق علـى صهوة مهـر أبيض مجنّح خطـفها في ليـلـة حلم، وطار بها إلى السّموات العلا، وأنزلها عروساً له في قصر المرجان في عنان السّماء. (4)

(4)
منامه

سهد ثم نام، فرأى في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم إنّ الأراضي تهب جنى دون أن يزرعها، وأنّ تخوم الوطن تؤمّن دون أن يحرسها، وأن النّجاح يحصّل دون تعب، وأنّ الذّكر يعلو دون عمل، وأنّ فتاة الأحلام توافي على السّاعة كما يكون الأمل، فيتزوجها دون أيّ معرقلات، وينجب منها فوارس زمنه، ويعيش تفاصيل قصة سعادة كاملة دون كدر حتى يأتيه هادم اللذّات ومفرّق الجماعات. (5)

(5)
منام السعادة

سهدت السّعادة ثم نامت، فرأت في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم إنّها قد غدت ماء كلّ شارب، وهواء كلّ متنفس، وقدر كلّ مخلوق، فآلت إلى الرّكون إلى كلّ القلوب، وسارت في كلّ الدّروب، وصاحبت كلّ الأقدار، وأصبحت نصيب كــلّ البشر، فهنـأت بنفسها، وهـنأت بهم.(6)

(6)
منام الحظّ
سهد الحظّ ثم نام، فرأى في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم أنّه قد أصبح زاد الفقراء؛ فعزّ أكثر وندر ولؤم وشحّ ثم فُقد.( 7)
(7)
منام المنام
سهد المنام ثم نام،فرأى في المنام يا سادة يا كرام فيما يرى النّائم أنّه قد خلص لنفسه، ووهب لذاته لأوّل مرّة منذ تكوينه، فاغتبط بفرصته النّادرة، وقطع ساعاته يحلم بحلم، ويبحث عـن مأمول ليقتنصه، فأدركه الصّباح، وفرّ منه إليه، وأُسقط في يديه، وفاته أن يكونه ولو لمرّة واحدة في حياته( 8)



الهوامش
(1) ورد في أسفار المجرّبين والصّالحين المهزومين: النّوم باب من أبواب البركة المستجلبة، وهو مندوب مستحب عند الخاصّة والعامة، والاستيقاظ باب من أبواب المنقصة - والمعاذ بالله - وهو مكروه، وفي بعض الأسانيد هو حرام لا خلاف في حرمته. والمستبدّون أعلم.
(2) تتضارب الأقوال عن هذا المنام؛ ففي رواية سيئة السّمعة رُوي أنّ السّلطان أمر بفرمان مستعجل أن يتحوّل منامه إلى حقيقة حتى ولو سفك دماء الأبرياء الذين يرفضون أن يتورّطوا في منامه، وفي رواية ثوريّة ذكر الرّاوي إنّ هذا كان المنام الأخير للسّلطان قبل أن تسفك كلّ مناماته على نصل مقصلة الثّوار.
(3) هذا المنام سارٍ بأمر من السّلطان. ولو استيقظ الشّعب لعرف أنّ الأقدار تغيّرها السّيوف لا حجابات الجان!
(4) حلم أنثوي لم يعد سريّاً بعد أن سقط بالتّقادم.
(5) حلم ذكوريّ ذائع الصّيت، ولكنّه عنين.
(6) يحدث في المدينة الفاضلة المزعومة.
(7) حظّك هو جزء من حظّك.
(8) هكذا هي الحياة منام لا يدرك مناماً.


* قاصة وكاتبة اردنية


** نقلا للفائدة عن موقع جريدة الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى