د. سناء الشعلان - حيثُ البحر لا يصلّي (قصة)

“البحر يذهب للصّلاة”، كانت هذه الجملة هي إجابة أمي الوحيدة والمكرورة والأكيدة عن سؤالنا الطّفولي عن موجات البحر التي تختفي في البعيد، فلا نعود نراها، ونظّنها تخوننا، وتهرب إلى البعيد لتداعب أقدام أطفال آخرين يألفون البحر أكثر من صبية ثلاثة وطفلة صغيرة اعتادوا على أن يعيشوا معلّقين بين السّماء والأرض في أعالي جبال الأطلس حيث لا بحر ولا أمواج ولا موانئ، حسبهم بحيرات رقراقة موغلة في الصّمت، وذلك الغناء الأمازيغي الحزين المترع بماء اللّوعة، المبتلع لكلّ قصص الحرمان والرّحيل والموت والتفجّع، والمخلص لوجوه الجبل الأليفة حيثُ لاغرباء أو كلمات وافدة مجهولة المعنى.

كنّا نصّدق كلمات أمي، ونعلم أنّ الموجات الهاربة نحو البعيد تذكّرنا بإزوف موعد صلاة الظّهر حيث اعتدنا أن نصّليها جماعة على رمال البحر الذّهبيّة المولعة بحفظ آثار أقدام العابرين والزّائرين، نصّليها على عجلٍ ممطوطٍ إرضاء لخشوع أمي، لنعدووا بعدها متراكضين نحو بيت الخالة فضيلة حيث ينتظرنا السّمك الطّازج المشوّي وحساء غلال البحر، والخبر المدهون بزيت الزّيتون والشّاي المغربي الأخضر ذو الرائحة النّفاثة التي تغزو أنوفنا قبل أن ندخل البيت متدافعين لاهثين، ثم نلتفّ قعوداً متزاحمين حول طاولة خشبية نخرة بأقدام قصيرة، فتتسابق الأيدي التي تفوق العشر على الطّعام الذي يبدو قليلاً مهما كثُر، وننسى البحر أصّلى أم لم يصلِّ.

وعندما نغادر البحر بعد أيام صعوداً إلى الجبل برفقة عميّ الذي يأتي ليصطحبنا إلى بيتنا بسيارته العجوز التي نتكدّس فيه تكديساً حيث تنتظرنا البحيرة والأشجار المثمرة ومقام الحاج علي والكسكسي الأمازيغي وطاجن الضّأن نجد أبي في أوّل القرية يفتح لنا حضنه ويقبّلنا الواحد تلو الآخر بشارب مشعوعب يخزنا بإصرار، فنسكت على مضض خجلاً وخوفاً منه، ونبتسم، ونولّي نحو البعيد لنروي قصص البحر للجدّة وأبناء الأعمام والجيران، فتصرخ أميّ بنا آمرة بحزم:صلّوا أولاً، فنتذكر حينها أنّ البحر يستطيع أن يتهرّب من الصّلاة في غفلة من أمّه –إن كان له أم- أمّا نحن فلا مناص لنا من أن نصّلي الفروض على وقتها؛فأمّنا الشّيخة العابدة صبريّة، ووالدنا من أسرة تتوارث الصّلاح والإمامة في الجبل منذ مئات السّنوات، وجدّنا الأكبر الشيخ علي يرقد في مقامه الجليل يرقب الجميع برضا يتفاوت بمقدار النّقود التي يدسّها الزائرون على عجلٍ في يد خادم المقام الذي لا يبتسم لغير الأوراق النقدية ذات الفئات الكُبرى.

هناك في الجبل كانت قصص البحر الذي يصلّي هي هديتنا لكلّ الأصدقاء والأقارب، نكبر جميعاً، ولا تكبر قصصنا، وتشيخ أمنّا أسرع من جدّتنا، وأبطؤ من أبينا، وبحرنا المصلّي صبي لعوب لا يشيخ.

الصّلاة على وقتها كانت فرضاً علينا في صغرنا، ثم أصبحت ريحانة نفسي عندما كبرتُ، كنتُ أخالها الأجمل، حتى ذُقت قبلة العشق، فعرفتُ حينها أنّ القلب يجيد صلوات أُخر، وعندما صلّيت في محراب جسد ذلك الصّحراويّ البرّي الباذخ الرّجولة ، أدركتُ أنّ للعاشق ألف صلاة لا يعرفها غير من ذاق حلاوة الإيمان بالهوى.يقولون إنّ العشق البشريّ فانٍ بفناء اللّحظة، ولكن الحقيقة أنّه ممتدٌ لا يعرف موتاً أو رحيلاً، وهو طاقة لا تفنى ، ولكن تتحوّل من شكل إلى آخر، وأجمل أشكالها هو ذلك الوجيب الذي كان يخفق في أحشائي منذ أسابيع، هو معجزة حبّنا العظمى، هذا الجنين المستلقي في غياهب قرار مكين هو الشّهادة الوحيدة على أنّ عشقنا قد ذاق جسدينا، فعطّل كلّ خططنا، وجاء سريعاً قبل أن نرتب أمور زواجنا أو نحمل أورقاً شرعية تجهر بشرعيّة علاقتنا.جاء قبل أن يخطبني أبوه من أهلي كما وعدني، وقبل أن تزغرد أميّ وهي توزّع حساء الحريرة ( )والسّكاكر في الحمام المغربي ليلة زفافي.

هذا الجنين العاجز المتواري خلف أسابيع قليلة من الوجود أفسد فرحتنا بنا، ووصم أمّه بالزّنا، وكبّل أباه بكلمة الفاجر، وألّب الأهلين علينا، وحاصرنا بالقتل، فهجّرنا بعيداً عن الجبل الذي يكفر بالحبّ وبالعشق وبالجسد، ولا يؤمن إلاّ بالأوراق الشّرعية وبالمأذون وبالزّواج، ويصلّي الصّلوات على وقتها، ويلعن العاشقين جهرة وخفية.

حتى البحر كان غاضباً علينا، ولم يتعاطف مع عشقنا العملاق الذي لا يخرّ مهزوماً أمام عشيرة أو موت أو طرد، هناك على أطرافه وقفتُ مع رجلي الصّحراويّ الذي كبر في شهر من الطّرد والضّياع في زقاق مدينة “القصر الصّغير” عقداً أو عقدين، كنّا نراقب من بعيد تلك الأرض المنساحة بعد البحر على رمال لا تخاف العشق أو الجسد أو الأجنة الذين لا يحملون أوراقاً شرعيّة من مأذون أو من موظّف دولة، كنّا نحلم بتلك اللّحظة التي سننزل فيها على ذلك الشّاطئ حيث أرض الأحلام التي تستقبلنا، وتفتح أحضانها الماطرة المزهرة لجنيننا الذي لا يعرف من دنياه إلاّ أنّه ثمرة صلاة مجوسيّة اسمها العشق.

الضّفة الشّمالية هناك تلوّح لنا ببهجة لمّاعة بأضواء بالمنارات والفنارات والمباني والطّرقات، وهنا على الضّفة الجنوبية يحدّق بنا الموت الذي ننتظره على يديّ أيّ غريب يقترب منّا؛فلا حياة في عُرف القبيلة في الجبل لامرأة مثلي ولرجل مثل رجلي المعشوق؛فكلانا اقترف خطيئة الجسد، وعليه أن يدفع حياته ثمناً لها، ولكن هناك حيث الأضواء اللامّعة في الشّاطئ الشّمالي الحياة تُوهب مجاناً للعشق وللجسد وللسّعادة، ولذلك اخترنا أن نهرب من هذه الأرض التي تئد أبناءها بخطيئة الحياة إلى أرض النّور وميعاد الحياة، هناك سنتزوّج، وهناك سألد طفلي، وهناك سنكون إيّانا، وهناك سنصلّي كلّ الصّلوات على وقتها، فأنّى كان البحر، فهناك صلاة.

كنّا نحلم بأن ندخل أرض الأحلام يتأبط أحدنا ذراع الآخر مزهواً بفرصته الجديدة للحياة المفاخرة بالعشق وبالطّفل القادم مرهوناً بالبدايات الجديدة، كنّا نحلم بأن تستقبلنا إسبانيا بأردية ورديّة، وبأقداح من عصير العنب وحلوى القرى، أردنا أن تزفّنا أروح العظماء إلى مخدعنا هناك حيث الحبّ مسموح، والجسد مقدّس، والحرّية مكرّمة، والكلمة مصانة، أردنا أن نقول بأعلى صوتنا: البحر البحر من خلفنا، والحياة الحياة من أمامنا، نحن لسنا الغزاة، ولسنا الفاتحين، نحن لسنا جيش طارق بن زياد أو موسى بن نصير، ولا فلول الإسبان وجموع البرتغال وفرسان فريناند وإيزابيلا، نحن لا بربر ولاعرب ولا إسبان، نحن ثلاثة لارابع لهم، نحلم بمساحة صغيرة في هذا الكوكب تتسع لأحلامنا ولرغبتا في الحياة.

لكن إسبانيا لم تسمعنا! ومن له أن يسمع مناجاة امرأة ورجل هاربين بعشقهما من الأهل والوطن والذّات؟ وحدهم عصابات هذه المدينة هم من لهم الحق في مفاوضتنا على أحلامنا، بصعوبة بالغة استطعنا أن نؤمّن لهم النّقود من أجل شراء مكان لنا في إحدى الباطيرات ([ii] )التي تتسلّل إلى الشّاطئ الآخر محمّلة بالحالمين الذين يُسمّون المهاجرون غير الشرعيين.أيام الانتظار لدورنا كانت طويلة في مكان يعجّ برجال العصابات وبالسّكارى وببيوت الدّعارة وبالفقراء وبالغرباء وبالحالمين منتظري الدّور وهم يتأبّطون أسرارهم وحقائبهم الصّغيرة وذكرياتهم المهرّبة معهم، وكانت عصيبة في محاولات لتوفير المسكن والطعام والشّراب بأرخص الأثمان؛إذ نقودنا القليلة المهزولة لا تكفي إلاّ للنزّر الضّروري من متطلبات البقاء على قيد الحياة.

كان من المفترض أن نسافر في قارب واحد، ولكن الأمر تعذّر بسبب تأخّرنا في دفع النّقود، فنفِدت الأماكن، فكان على كلٍّ منّا أن يسافر في قارب وحده، وإلاّ فعلينا الانتظار لأيام أخرى، وهذا ما كنّا نطيق صبرا عليه، فاخترنا أن أسافرُ أولاً في القارب الأوّل، وأنتظره في الشّاطئ الآخر ليوافيني بعد ساعاتٍ لا غير في القارب الثاني.

بقبلةٍ مطروحةٍ على الخدّ على عجلٍ وقلقٍ افترقنا، كان وجهه المذهول الشّاحب منارتي البعيدة التي بقيت أرقبها من مكاني في القارب حتى غاب في الأفق، وغاب معه الوطن، وغاب معه الموت والخوف، وجنيني الوجل الذي لا يكاد يتحرّك في أحشائي هو ذخيرتي الوحيدة في هذا القارب حيث الضّيق والوجوه الغريبة التي يرقص القلق على قسماتها رقصة الاستسلام للقادم أنّى كان.

سابقنا أمواج البحر دون انقطاع، مرات قليلة كنا نسبقها، وفي معظم المرّات كانتْ تسبقنا، وما كنتُ لأحصي ذلك؛ فقد أدركتُ أنّ الموجات لا تذهب للصّلاة كما تقول أمي، بل كانت الواحدة تذهب في إثر الواحدة لتستلقي على الشّاطئ الشّمالي الذي لاح لنا بعد رحلة عصيبة تحوّلنا بقهر إلى كائنات ضعيفة مغضوب عليها، تسابق اللعنة، لعلّها تنجو منها بمعجزة من إله يقّرر في لحظة رضا نادرة أن يمدّ يده لعباد يُسلقون على مهل في مرجلٍ شيطاني آثم، شعرتُ حينها بأنّني حلزونة تتقدّد في ماء مغلي، وكرهتُ لأوّل مرّة في حياتي حساء الحلزون ([iii])، ورثيت للحلزون المسكين الذي كنتُ أتلذّذ بأكله مسلوقاً، وأدركت متأخّرة معنى تلك الهيئة الكئيبة التي كان يبدو عليها وهو مسلوق!

توقّف الزّمن في رحلتنا البرزخيّة الملعونة، وعلا الموج المتعالي بتكبّر فوق رؤوسنا، وطغى جبروته على سيرورة المسير، فماد القارب برّكابه في اضطرابٍ هزلي يكاد يردّه إلى منطلقه الأوّل، وهو يغالب بضعف يكاد يصير بكاءً قدر الغرق، في حين طغى دوار البحر على ذاكرتي وانتظاري، فانسربتُ في دنيا من الأوهام والخيالات التي تعجّ بالصّور والأصوات والروائح والكلمات، وغابت أرض الأحلام عن وجداني، وعجّت فيّ رائحة الجنس في مخدع العشق، وصوت الشّهقات والزّفرات، ووجه أمي وهي تأمرني بالصّلاة قبل الأكل، ورقرقات البحيرة في الجبل، ورائحة البخور في مقام جدي الأكبر الحاج علي، وكلمات عربية وإنجليزية وفرنسيّة وإسبانيّة وأمازيغية مفهومة وغير مفهومة، فاحشة ومهذّبة ينطق بها غرباء في سكّة الحديد، وفي حافلة الجبل القديمة، وفي النّزل الصّغير في طنجة، وتلوكها عاهرات المرفأ القديم، ويهدّد بها رجال العصابات، ويبزقها السّكارى وهم يتطّوحون أشباه عراة دون سراويل عندما تلفظهم الحانات ودور البغاء في آخر اللّيل عندما تفلس جيوبهم.العالم كلّه توقّف في لحظة، ثم غاب، وانسرحتُ في دوار لذيذٍ بدأ متقطّعاً ثم غدا موصووووووووووولاً.

لم أرَ أضواء الشّاطئ الآخر تستقبلني؛لأنّني استيقظت من دواري اللّذيذ بعد ساعات طويلة من أفول القمر، وبزوغ الشّمس التي بحثت عنها في السّماء التي تواجه ناظري مباشرة وأنا مسّجاة في مكاني، أزواج ثلاثة من العيون التي لا أعرفها كانت ترقبني بشفقة وأنا أمسّد على بطني بهلع مضطرب، وكأنّني أخشى على كنزي السّاكن في أعماقه من أن تمتدّ إليه يد السّرقة أو البطش أو القهر، تكوّره الصّغير النافر بكبر لذيذ تحت ملابسي المبتلّة المتجعّدة كان إمارة صموده وبقائه، ابتسمتُ مطمئنة راضية، وغبت من جديد في دواري اللذّيذ.

وذهبت اللّذة وبقي الدّوار لا يفارقني، ولا أفارقه، واكتشفت أنّ دوار اليابسة هو أشدّ بأساً من دوار البحر وأعتى أثراً، لاسيما إن كان دوار اليابسة في أرض الأحلام حيث لا أحلام تتحّقق بيسر لغرباء، ولا دعاء بعودة غائب يُستجاب؛فلا سماء تسمع صوت الغريب في هذه الأرض.لازمتُ البحر لأيام أنتظر حضور رجلي، ولكّنه لم يحضر، البعض قال إنّه غرق مع الذين غرقوا في القارب الآخر الذي داهمته الرّياح العاتية في البحر، البعض زعم أنّه نجا مع الناجين الذين تعهّدهم الصليب الأحمر بالرّعاية ثم أعادهم إلى المغرب قهر إرادتهم، وكيل العصابة التي نقلتنا في قاربها أكّد لي أنّه لم يركب البحر في تلك اللّيلة مع الرّاكبين، وأنّه قفل عائداً من حيث أتى بعد أن انطلق قاربنا نحو مبتغاه، قالوا الكثير، وسمعتُ الكثير، والنتيجة كانت الانتظار الموصول لرجل لا أعرف أهو من خذلني أم أنّ البحر غرّر به ، وابتلعه على حين غرّة، ثم طواه في النّسيان ليورثني سؤالاً لا يفتر ولا يموت، وهو: أين اختفى الرّجل الذي أعشقه؟

هذه الأرض الجميلة أم حنون على بنيها، ولكنّها زوجة أبٍ شريرة للغرباء، هنا يهلّلون لحريّة الجسد، ويبكون عندما يسكرون؛لأنّهم يفتقدون العشق الحقيقي، هم لا يبالون بأوراق الزّواج الشّرعيّة، ولكنّهم يكوون الغرباء بالمطاردة والتّضييق عليهم في كلّ أحوال حياتهم ومعاشهم في سبيل أوراق إقامة رسمية الحصول عليها أصعب من ركوب العنقاء!

هذه الأرض لم تهلّل لي، ولم تمدّ يديها لتلقف صغيرتي وهي تنزلق وحيدة على بلاط جحيمها الموشّى بروائح نفّاذة، هذه الأرض لم تضمّني إلى صدرها لتشفي جراح فقدي لعشقي وأهلي ونفسي، هذه الأرض لم تبالِ بلهفتي على أن أستلقي على أرضها حيث الحرية والأمن بعيداً عن موطن قد يغتالك في أيّ لحظة بتهمة العشق أو التحرّر أو ممارسة الجسد أو المطالبة بحق أو مساواة أو في لحظة طيش محموم غير مبرّر الأسباب، هذه الأرض سرقت حبيبي مني، وسرقتني مني، وصادرت قلبي، واستولت على جسدي، وسجنتني في سجنها الكبير المسمّى حرية.

حاولتُ بدأبٍ وإصرار أن أجد عملاً، ولكن دون جدوى؛فلا مكان لمهاجرة غير شرعيّة في هذه الأرض، سعيت بصدق وإخلاص كي أجد منفذاً من أجل الحصول على أوراق الإقامة الشّرعيّة، ولكن ذلك يتطلّب الكثير من المال، والعمل المتواصل، والعلاقات المتنفّذة، وإتقان اللغة الإسبانيّة، ولامال باقٍ في حوزتي لكلّ ذلك، في لحظات جوع كبير تعضّني، وتعضّ جنيني كنتُ أفكّر في العودة إلى موطني حيث البحر يصلّي بلا انقطاع، تمنّيت أن أُردّ إلى بيتي الجبليّ المعلّق في القمم السّوامق حيث تراتيل زوّار مقام الحاج علي، ووشوشات البحيرة، ووجه أمّي المخضّب بالقداسة والقناعة والصّلاح، حتى ولو ذبحني أهلي على بلاط حديقة منزلي لأكون عبرة لكلّ امرأة تحدّث نفسها بالعشق، ولكنّني ما كنتُ أملك ثمن العودة للاستسلام لهذه المصير الذي ذرعتُ البحر هرباً منه.

الكلّ تخلّى عنيّ في هذه الأرض: إسبانيا وأهلي وحبيبي وأحلامي، وعشقي، وحرّيتي، وإبائي، حتى عفافي قدّ تخلّى عني؛قالت لي رشيدة الوادي مديرة بيت الدّعارة في ملقا إنّ المعدة الخاوية لا تبالي بالجسد العاري، عندها سببتها، وطردتها من جحري حيث آوي، ولكنّني بعد أيام قليلة من الجوع كنتُ أسلمها جسدي المهزول المتفتّق عن بطنٍ متكوّر على حمل في أشهره الأخيرة، يومها نهقت بضحكاتٍ منحوضة من أعماقها النتنة المتعفّنة حيث لا تسكن إلاّ النقود المبتلّة بعرق أفخاذ فتياتها العاهرات اللواتي تتاجر بأجسادهن ليل نهار، ثم قالت:سأنقص من أجرك نصفه؛فقليل من الزّبائن من يرغب في أن يسافد امرأة منتفخة البطن!

لم أفاوضها في ثمن جسدي؛ فمهما دُفع فيه يظلّ المدفوع زهيداً، ولكن مع أوّل يد تجرّد الجسد من ستره، وتطرحه في فراش العهر يغدو رخيصاً لا قيمة له أو ثمن! أصبح جسدي دنساً، وكلّما انتهت مهمّته الكريهة، أسدر في ضحك هستيري لا ينتهي إلاّ جبراً من أجل أن يقدّم خدماته الإبليسيّة من جديد لزبون آخر مقابل حفنات من الأوراق النقديّة المدفوعة مسبقاً لرشيدة؛حمقاء أنا، ومنكود جسدي، وملعونة هي أحكام عالمي المعلّق هناك في الجبل، أرادوا أن يسفكوا دمي ؛لأنّني وهبت جسدي للحظات لرجل أعشقه، فها أنا ذا أبذله رخيصاً في هذه الأرض لكلِّ باغِ، فما تراهم سيفعلون أولئك الحفنة من الظّلمة لابنتهم التي تحترف البغاء في ملقا؟!

طفلتي آمال هي تعويذتي المقدّسة الوحيدة في هذه الأرض حيث لاشيء غير دنسي، أطعمها من أثمان جسدي الذي تنهشه كلاب الطّرق بلا انقطاع، أتقن أن أواريها سرّاً بعيداً عن يدي رشيدة في دار رعاية خاصة، وأدّخر كلّ ما أحصل عليه من مال كي أدفعه أقساطاً لتلك الدّار كي تبقى بعيدة عن المستنقع الذي أعيش فيه، قلّما أحظى بفرصة كي أراها، وأرافقها في رحلة إلى البحر الذي ابتلع أحلامي كاملة، وسرقني منّي، أضمّها عندئذٍ إلى صدري الذي أعتاد على أظلاف الرّجال تخمشه بوحشية من يدوس على سجّادة اشتراها من عبد آبق، أروي لها قصص أرض الأحلام حيث منزل الجبل والبحيرة ومقام الحاج علي، وعندما تسألني متى نذهب إلى تلك الأرض، أتجاهل سؤالها الطّفوليّ الحلو، وأشرع أراقب معها الموجات تتسابق راكضة للانكسار في الأفق، فتسألني آمال بفضولٍ بادٍ: إلى أين تذهب الموجات؟

ابتسم لها، وأقول: تسافر نحو البحر الذي يصلّي.

تسألني باستغراب غارق في طهر سنواتها الخمس: ألا يصلّي هذا البحر الذي تسكنه هنا؟!

أجيبها بحرقة محلاّة بابتسامة مصنوعة بإحكام: البحر هنا لا يصلّي يا آمال!!!

تتمّلك آمال نظرة حيرى وهي تنعم النّظر في قسماتي كأنّها تستبين الصّدق من الكذب فيما أقول، وتسأل بصرامة من ألقى القبض على آثم: وأنتِ يا أمّي ألا تصّلين؟

أضمّها إلى صدري سريعاً كي لا ترى دموعي الخائنة لهيئتي المتجمّلة بمبالغةٍ مقصودة: أمثالي من النّساء لا يصلّين يا آمال! أنا يا آمال…

ويعلو صخب هدير البحر، فيطغى على صوتي، فلا تسمع آمال كلماتي، ولا أجرؤ على أن أكرّرها من جديد على نفسي، فأصمت بإصرار، ويظلّ البحر يهدر وآمال تحّدق في الموجات الهاربة نحو البعيد…



– حساء شعبي يقدّم على المائدة المغربيّة في كلّ المناسبات والأعياد.
[ii] – الباطيرات : هي أسماء القوارب الصّغيرة التي تنقل المهاجرين غير الشرعيين إلى سواحل أوروبا.
[iii] – هو حساء شعبي مشهور في المغرب،يتكوّن من الحلزون المسلوق في نكهة من الأعشاب المخصوصة لهذا النّوع من الحساء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى