د. سناء الشعلان - أحزان هندسية.. قصة قصيرة

(1)

أحزان نقطة المركز

هو المركز في الاهتمام ، يشعر بأنّ الدّنيا تدور من حوله ، وهو في المركز لا يتحرّك ، ولكنّه لسبب لا يستطيع أن يصوغه بالكلمات يتمنّى لو كان له حظٌّ كذلك في الدوران حيث الانعتاق والانفلات ، ويشعر بأنّ هذا المركز الذي يقع فيه ، ويجعله قبلة الرّعاية والعناية هو ذاته الذي يكبّله ويقيّده ويفرض وصاية كلّ من حوله عليه ، على الرّغم من أنّ أمّه تقول إنّ عمره الآن يكاد يبلغ السابعة عشرة ، إذن فهو كبير مثل أخيه مأمون ، وأصدقائه الصّغار في دار الرّعاية الخاصة أمثال لما وجواد وذلك الأشقر الصّغير الذي ينسى اسمه كثيرًا ، إذن فلماذا يعامل معاملة الأطفال ؟ ربما وجوده في المركز هو السّبب.

في البيت مآل اهتمام الكلّ ورعايتهم ، يطعمونه ويغسلون جسده ، ويقومون بكلّ أموره ، ويربتون عليه كقطٍّ شاميٍّ مدلّل ، وفي الشّارع تفرض أمّه أو معلمته أو مرافقة الباص الخاص الذي يستقلّه وصولاً إلى مدرسته عليه وصاياتها واهتمامها ، وفي المدرسـة كذلك هو نقطة المركـز ، فلا يدرس في صفٍّ تقليديّ ، فيه طلبة ومقاعد ومعلّمة ، بل يدرس وحـده في مقعد أزرق مزركش ، وفي غرفة وحده ، ومع معلّمة متفرّغة له ، فلا يسعد بلحظة مشاكسةٍ ، أو حركة فوضى أو تشتّتِ انتباه ، وفي باحة المدرسة ترافقه معلمة ، تعدّل مشيته ، وترعاه ، وتعدّ أنفاسه عليه ، وكلّ ذلك سببه أنّه مهم ونقطة مركز حياة أمّه كما قالت له كلما احتجَّ على الحَجْرِ على حريّته ، وعلى إجباره على لزومه البيت دون إخوته الذين يخرجون بحريّة ، حتى أخته زينة التي تصغره بسنوات ، ويستطيع أن يحملها بيديه لساعات دون أن يتعب تحظّى بحريّة دونها حرّيته.

ليته كان قادرًا على أن يصوغ احتجاجه في كلمات ، وليته كان قادرًا على نطق كلماته بسهولةٍ دون تأتأة وتلعثم واضطراب إذن لقال للجميع : إنّه يكره نقطة المركز اللّعينة ، ويكره أنّه طفل منغوليّ كما يلقّبه الأطفال في الشّارع كلّما أطلّ عليهم من شرفة منزله ، لابدّ أن منغولي تعني أنّه يعيش في المركز ، لا تعني " ابني حبيبي " كما قالتْ له أمّه ، التي تكذبُ عليه كثيرًا بما يخصّ أزمته مع نقطة المركز التي يشغلها ، وتبكي بحرقة وهي تحضنه.

(2)

أحزان خطّين متوازيين

عندما تعارفا كان خطّين متوازيين ، لكن بانحراف نحو مركز واحد اسمه النّجاح والطّموح ، وكان من المؤكّد إنّها سيتقاطعان أو يلتقيان في نقطة ما ، أمّلا طويلاً أن تكون المركز ، وفي وتيرة النّشاط والدأب ، وحمـأة الإنجاز وُلدتْ ومضة بينهما جعلتَ الدّرب أجمل ، والمسافة أقصر ، وكان العشق بينهما.

كلّ منهما نشأ يبرز في حقله ، وينجز الكثير ، هو سار قدمًا في تولّي المناصب ، حتى أصبح وكيلاً للوزارة ، وهي سارتْ قدمًا حتى أدركتْ المجد الإبداعي المسرحيّ الذي نشَدتْ ، واقتربتْ لحظة التقاء الخطّين في نقطة مركز ، وأعدّا العـدّة ، واشتريا خاتميّ الزواج ، ووهبا وقتهما من أجل التّفاصيل الصغيرة التي يحتاجان إليها لإكمال مراسيم زواجهما ، وفي تلك التفاصيل كمنتْ عواصف الفرقة والشّقاق ، هي اجتهدتْ وتعبتْ وتريد مكاسب وغنائم تناسب تضحياتها ، وهو اجتهد وتعب ويريد استسلامًا وخنوعًا له يناسبان رجولته وسطوته ، هي عنيدة وهو متشدّد ، هي لن تقبل بالخسارة ، وهو لا يؤمن بالتّنازل ، هي تخلع خاتم الخطوبة ، وهو لا يبالي ، كلاهما يؤمن بموقفه الذي لا يتغيّر ، ويؤمن بأنّه مستقيم لا ينحني ، ولا ينحرف قَيْد أنملة عن شأنه وموقفه ، يسير كلّ منهما في طريقه ، يغدوان خطّن متوازيينِ لا يمكن أن يلتقيا أبدًا مهما طال بهما الطريق ، مهما تجاورا.

في البداية ما كان أحدهما ليبالي بالآخر ، وكلٌّ منهما أشاح بوجهه عن الآخر ، وحثّا كلّ طاقتيهما على الرّكض والمزيد من الإنجاز ، فطال بهما المشوار ، إذ كان مشوار العمر ، وعندما لاحتْ لهما نقطة النّهاية ، محمّلين بكبرهما وحرمانهما وذكرياتهما المكسورة تنهّدا وتمنيا بصدق آسف محمّلٍ بالحسرة لو لم يكونا خطّين متوازيين ، إذن لكانا التقيا منذ زمن ، وسعدا ، وما عرفا أحزان التّنائي ، وصقيع اللّوعة ، لكن قدرهما كان التجاور أبدًا دون لخطة لقاء.

(3)

أحزان مثلّث

القانون الهندسي يؤكّد أنّ زوايا المثّلث بنفس الإنفراج أو الحدّة ، لذا فهي صورة عن بعضها ، ونسخةً مكرّرة لثلاث مرات عن حالة واحدةٍ ، لكن قانون الأحزان يؤكّد غير ذلك ، فزوايا المثلث عنده غير متكافئة ، فبعضها منفرج على الآخران ، وبعضها الآخر ضامٌ على ألمه ، في حين بعض منها يلتزم الحياد ، وأضلاعه غير متكافئة في الطّول ، فبعضها طويل بألمه ، وبعضها الآخر قصير بحسبه ونسبه ، أمّـا حزنها هي ، فزاويته منفرجة على ألم الرّوح ، وفي زاويتين أخريتين يقف اللّوم والموت الّلذان يعصرانها.

في زاويـة الموت يسكن ابنها الوحيد بمساحاته الممتدّة على السّعادة والطّموح والصّحة ، هو كلّ ثروتها من الحياة في وسط غابة من الأحزان والوحدة ورحيل الأحبّة ، كان يريد أن يكرّس جسده كي يكون أشهر ملاكم عرفه تاريخ الملاكمة ، ولكن الموت أراد أن يستردّ روحه ، فكان لجبروت إرادته الغلبة ، فأكل روحه في حادثٍ رياضي مريع ، ولفظ جسده سليمًا معافىً ينبض بالحياة بعقل لا يعرف من تعويذة الحياة إلاّ وجيب قلبٍ لا يتوقّف إلاّ بعد أيامٍ طويلة ومعاناة موصولة. فتقررّ الأم في لحظة انتحار مجازفة أن تتبرّع بأعضاء ابنها الصّحيحة من قلب ورئة وكلىً وكبد وجلد وعظام وقرنيتي عينيه إلى مرضى في حاجة إليها ؛ فهي تريد أن توزّع حياة ابنها الآفلة على أرواح أخرى ، فيسعد المرضى بقرارها ، وتبكي هي بحرقة كسيفة.

وفي زاوية ثالثة يصبّ المجتمع لومه على قلبها الذي أصبح مقبرة نديّة تضمّ رفات ابنها بحنان ولهفة ، وينعى عليها أن تمزّق سكينة فقيدها الأعزّ ، وتدفنه مسلوب الأعضاء ، لتهبها لغرباء لا تعرفهم ، ولا يعرفون شيئًا عن معاناتها أو عن رحيل ابنها. لكنّها تضرب صفحًا عن لوم مجتمعها ، وعن خرافات بخله المقيتة ، وتهب أعضاء ابنها للمرضى السّبعة ، فيشفون ، وهي ما كان لها أن تشفى لولا أنّها نعمتْ بسماع قلب ابنها ينبض من جديد في صدر فتىً يافع ، وبقرنيتي ابنها تبصران النّور في وجه طفلة صغيرة ، وبلمس جلد ابنها يتمدّد على جسد طفل صغير ، فامتلأت حنايا زاوياها عزاءً ، وكادتْ تُقسم على أنّ ابنها ما يزالُ على قيد الحياة.

(4)

أحزان مربّع

يجوز كذلك في عُرف الأحزان أن تتساوى زوايا الحزن وتتماثل أطوال أضلاع الحسرة إذا كان هناك أربعة متحابيّن يفشلون في وضع صيغة وئام تتسع لهم معًا دون إقصاءٍ لزاوية أو أن كسرٍ لضلعٍ آدميّ أو هندسيّ ، هما وحيدًا أمّيهما ، وهما يتيمان دون أبوين ، وصدفة الزّواج التقليدي هم من جمعتْ بين ذاتيهما التي تذوّقتْ بأنسهما أوّل رشفات العسّل النّقي المصفّى ، فوجدتها حلوة سائغة ، فما عرفتْ شبعًا منها ولا اكتفاء ، وكان من الممكن أن يعيشا في نعيم الزّواج لولا أنّ لكلٍّ منهما أم تعدّ الابن مُلكًا من أملاكها ، لا تقبل فيه منازعًا ، حار الزوجان طويلاً في مربعهما الأسطوريّ الملعون ، فكلّ فيه عاشق ومعشوق ، ولكن لا يمكن أن يُتبادل الحُبُّ فيه بين الزوايا الأربع في آن ، وإذا سعد اثنان ، فعلى اثنين آخرين أن يتعسا بشدّة ، وكان الفصل الأوّل من الهناء من حظِّ الزوجين العاشقين ، ثم تفرّقا بأسىً بضغطٍ وكيدٍ من أميهما ، فسعدتا وشقيا الزّوجان ، وضاقا ذرعًا بالحياة ، وانكمشا في كائنين حزينين لا يرواحان مكانهما ، ولا ينتظران مستقبلاً أو يشفقان على حاضراً أو حتى يحنّا إلى ماضٍ ولّى دون رجعه ، فانتقلَ حزنهما إلى أميهما اللتين أخفقتا في إصلاح ما أفسدتا ، فغدوا جميعاً مربعاً حزيناً لا يعرف السّعادة ؛ لأنّ زواياه أحبّتْ بغير ما يجب.

(5)

أحزان دائرة

يكون الحزن أكبر عندما يكون دائرياً لا يعرف نهاية أو توقّف ، ويتجدّد من حيث يجب أن ينتهي ، ويكون لعنة مقدّسـة مغلقة لا تعويذة لفكِّها عندما يسقط على قلبها ممن تحبّ دون أن يبغوا ذلك ، طفلاها هما من أضاعا النّصف الأحلى والأبهج من شبابها وعنفوان أنوثتها ، وما كان طِفْلا أحشائها ، بل طِفْلا أمّها وأبيها ، ولم يكن لهما معيلاً ومحبًّا وراعيًـا ومنفقًا عليهما خلاها ، ولما استبدلا ريشهما بزغب ، وطارا ، كانتْ قد احترفتْ الانتظار ، وأعدّتْ الحقائب لتبحث عن شريك ليقاسمها ما تبقى من رمق رغبتها ، لكنّ طفليها الآخرين كان عندها قد كُسرتْ أجنحتهم كبرًا وعجزًا ، واحتاجا إلى رعايتها وحبّها ، هي لم تلدهما كذلك ، بل هما من ولداها ، فهما أبوها وأمّها ، ومن جديد دخلتْ دائرة التّضحية الملعونة بقدسيتها ، وراحتْ توفّي نذرها الذي ما اختارته لتهب نصفها الحزين الأخير إلى والديها الطفلين ، وكذلك كان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى