مصطفى نصر - هبوط الليــــل..

أقترب من درجات السلم العريضة، عدد كبير من الممتحنين يقفون في مدخل العمارة، أحس بالتعب فجلس فوق درجة من درجات السلم، تابعه بعض الواقفين في دهشة؛ فالدرجات متسخة.
بحث في الإسكندرية عن عمل دون طائل. أمتحن آخر مرة في شركة استثمارية، أجاب على الأسئلة بنجاح، طلب منه الممتحن أن يكتب على ورقة أمامه؛ فأعجب بخطه ووافق على تعيينه في الشركة بشرط أن يوقع على " وصل أمانة"، صاح مندهشا:
- لماذا؟!
- لأنك ستعرف أسرار شركتنا، وقد تتركنا وتعمل في شركة منافسة.
لم يوافق، جاء رجل آخر- قد يكون صاحب الشركة – تحدث في عجرفة:
- ما الذي يخيفك؛ سنأخذ الأبعدية منك؟! ولعلمك كل العاملين عندي وقعوا على " وصل الأمانة " أو على شيك على بياض.
لقد رسب في دبلوم التجارة العام الماضي؛ بينما نجح كل زملائه الذين كانوا يستذكرون معه. بعضهم كانوا أقل منه مقدرة ومعرفة؛ لكنهم استطاعوا أن يخفوا أوراقا صغيرة مكتوبا فيها الأجوبة؛ وأخرجوها وقت الامتحان ونقلوا منها. منهم من سافر إلى دول الخليج وعمل هناك، وعمل صبري وفوزي هنا في القاهرة. لم يكونا قريبين منه، ولولا أن بعض الذين يستذكرون معهما أصدقاء مقربـــــون لــــه ما ذاكر معهما. عمل صبري وفوزي في وزارة الزراعة؛ سكنا في حي شبرا. هو لم يذهب إليهما قط. لكن أحد أعضاء الشلة أعطاه عنوانهما، كاد يرمى الورقة المكتوب فيها العنوان؛ فهو لن يذهب إليهما مهما حدث؛ العنوان مازال في محفظته.
خرج أحد الموظفين، وقف فوق آخر درجة من الدرجات القليلة المواجهة لباب العمارة الكبير ذكر أسماء الناجحين، كان اسمه ضمنهم، هب من مكانه وأسرع إلى الموظف الذي عاد إلى مقر الشركة، فدخل الباقي خلفه. قال الموظف:
- عليكم بالحضور باكر.
صاح دون جميع الموجودين:
- لماذا؟
تابعه الموظف باستخفاف وقال في عصبية:
- للمقابلة الشخصية مع رئيس القطاع.
دفعه البعض خارج باب الشقة التي تقع إدارة الشركة بها. جر ساقيه وسار في هدوء شديد. انتظره البعض حتى هبط الدرجات ليتبعوه. هو مازال شابا لكنه يحس الشيخوخة في نفسه. يسير ويتحرك ببطء شديد، يلومه عليها الأصدقاء والأقارب. ملابسه متسخة ولحيته متناثرة. أخته الكبرى المتزوجة؛ صاحت في أمه عندما زارتهم بالأمس:
- ابنك لم يتجاوز العشرين ويبدو كأنه في الخمسين.
الوقت طويل ممل؟ أين يذهب؟! ليس مهما. هي ليلة يقضيها على القهوة. أمسك كوب الشاي الساخن وأسند ظهره على مسند المقعد فغفا دون أن يحس، كاد الكوب يقع من يده. سار في شوارع القاهرة طويلا حتى تعب؛ فجلس على مقهي آخر. لن يستطيع الصمود هكذا. لابد أن يجد مكانا ينام فيه، وهو لا يجد المال الكافي لأجرة لوكاندة. أقترض من أمه بالأمس واعدا إياها أن يرد لها ما اقترضه عندما يعمل.
سار بضعة خطوات؛ واجهه حمام شعبي. هو لم يدخل حماما شعبيا من قبل. لكنه رآه كثيرا في أفلام السينما. حتما أجرته أقل من أجرة النوم في لوكاندة.
دخل الحمام، أحس بارتعاش جعل كلماته مهتزة وغير واضحة. قال الرجل البدين الجالس خلف السياج الخشبي:
- أهلا بك.
تمتم بكلمات غير مكتملة، لكن الرجل البدين يعرف كل شيء، قال:
- أنت في حاجة إلى حمام ساخن، شكلك يدل على ذلك، أدخل.
لم يسأله الرجل عن الأجرة ولا عن البطاقة كما يحدث في اللوكاندات.
خلع ملابسه، صرها، رائحة العرق تفوح منها - لا لأنه لم يخلعها منذ الصباح فحسب- وإنما لأنها لم تغسل منذ شهور عديدة؛ خاصة ملابسه الداخلية التي في حاجة لأن تعرض للشمس والهواء.
إنه يستطيع أن يدفع أجرة هذا الحمام، فأجرته لن تتعدى الجنيه. مد ساقيه في الحوض الساخن، أحس بارتياح. جسده في أشد الحاجة إلى الماء الساخن.
أقترب الرجل البدين، حمل ملابسه ووضعها في الدولاب قائلا:
- أطمئن، الدار أمان.
الوقت مر دون أن يحس. أجساد الرجال عارية حوله. بعضها نحيف مثله، والبعض بدين وكروشهم تتدلى أمامهم. وفجأة صاح الرجل البدين بصوت مرتفع، سمعه كل الموجودين في الداخل:
- كل شيء تمام يا سعادة الباشا.
قال رجل قريب منه وهو يسعى إلى السور القصير ليجتازه:
- الضابط، الضابط.
أسرعوا إلى ملابسهم لإحضار بطاقاتهم التي سيطلبها الضابط.
دخل المخبرون قبله. نظروا إلى الجميع في قرف وأفسحوا طريقا للضابط الذي أمسك عصا رفيعة. دفعه بها في صدره العاري، فهو الوحيد الذي مازال في الماء الساخن:
- بطاقتك.
سعى إلى السور القصير. ووضع قدميه فوق البلاط، بينما الضابط والمخبرون يذهبون إلى باقي رواد الحمام، يبحثون عن بطاقاتهم.
أمسك – هو – بطاقته وسار. كان عاريا إلا من سرواله القصير. المخبر أمسك البطاقة منه، جففها بملابسه وأعطاها للضابط الذي نظر إليها ثم صاح غاضبا:
- تأتى من الإسكندرية لتدخل حماما في القاهرة؟
- أصل، أصل.
لم يستطع أن يكمل. قال الضابط في ضيق:
- أرتد ملابسك وأذهب الآن.
سار في شوارع القاهرة. الهواء البارد يدفع وجهه. يحس بأن جسده يرتعش بسبب التغيير الذي حدث فجأة من الماء الساخن إلى الهواء البارد. سمع آذان الفجر آتيا من أول الشارع الطويل. أسرع باحثا عن مسجد يقضى فيه الساعات المتبقية من الليل.
**
‍قابله شاب رآه بالأمس، كان خارجا من باب العمارة الواسع. سأله في قلق:
- بدأت المقابلة الشخصية؟
- للأسف، تأجلت للغد، رئيس القطاع لم يعد من سفره.
- كيف؟!
نظر إليه زميل الامتحان وسار دون أن يجيب.
أسيظل في القاهرة حتى الغد؟ إنه قضى ليلة أمس في حمام شعبي ولولا ستر الله لقبض الضابط عليه. ما تبقى معه من قروش لا تكفي إلا لعودته في قطار الدرجة الثالثة الذي جاء فيه صباح أمس. أيذهب إلى صبري وفوزي؟! لكنه لا يحب أن يرياه في هيئته هذه؛ فقد يسيئا استقباله.
أشترى سندوتش فول وأخذ يقضمه وهو سائر. ماذا لو عاد إلى الإسكندرية الآن. يركب أى قطار موجود في المحطة يكون ذاهبا إلى الإسكندرية. قد لا تكفي نقوده لثمن تذكرة. ليس مهما. فسوف يتهرب من الكمساري إلى أن تأتى المحطة التي تكفي نقوده لقطع تذكرة.
لكن نجاحه في الامتحان بالأمس ليس سهلا. وقد لا يحدث مرة أخرى. وحرام أن يضيّع هذه الفرصة، وإلا عاد إلى الشركة الاستثمارية التي أرادت أن تأخذ عليه "وصل أمانة" لكي يكون تحت رحمتهم طوال الوقت. نعم لابد أن يبقى للغد فمادام نجح في الامتحان التحريري، فالمقابلة الشخصية ستكون سهلة وناجحة. سيذهب إلى بيت صبري وفوزي، سيقابلهما ويطلب منهما البقاء لديهما حتى الصباح. ليلة واحدة ليست مشكلة. لكنه لا يستطيع الذهاب الآن، سينتظر حتى يعودا من عملهما. أرتاح فوق مقعد القهوة. لا يريد سوى أن يرتاح قليلا ويشرب كوب ماء. لكن الجرسون جاء خلفه وكأنه ينتظره:
- شاى. واحد شاي.
سيشربه دون رغبة منه. المهم أن يكون ساخنا ليدفئ معدته الخاوية.
ذهب إلى شبرا، سأل عن اسم الشارع المكتوب في الورقة. صعد الدرجات القليلة، ودق الباب. خرج فوزي، كان يرتدى فانلة سواريه. نظر إليه في دهشة. كان بملابسه وكأنه شحاذ يريد إحسانا. ضمه فوزي لصدره وصاح من مكانه:
- صبري، مفاجأة.
جاء صبري وأخذاه إلى الشقة – هي في الحقيقة حجرة واسعة ودورة مياه اقتطعتها صاحبة البيت من شقتها وأجرتها لتساعدها على المعيشة:
- ما الذي جاء بك إلى القاهرة؟
كان متعبا، يريد أن ينام. لكنهما أصرا أن يأكل في الأول. بعد المغرب بقليل عرضا عليه الخروج لمشاهدة القاهرة في المساء. وأن يجلسوا في قهوة بالحسين.
أراد أن يبقى في الحجرة، المهم أن تنقضي هذه الليلة ويذهب إلى مقر الشركة لمقابلة رئيس القطاع وينتهي الأمر. لكنهما أصرا على الخروج والسير في الشوارع.
ذكروا ما كان يحدث أيام الدراسة. وضحكوا. أشار صبري إلى امرأة تسير على الرصيف المقابل، تصرفاتها تعنى أنها تريد رجلا:
- ما رأيكما؟
أسرع قائلا:
- لا أمتلك مالا.
قال فوزي:
- أنت ضيفنا. كل مصاريفك على حسابنا.
كانت المرأة صغيرة الحجم. تغطى جزءً من شعرها بغطاء أسود من خيوط التريكو المتشابكة، وتمسك " بوكا " صغيرا في يدها. أقترب صبري منها. داعب غطاء رأسها وهو سائر في الاتجاه المعاكس فاستدارت وتابعته.
كان وجهها شاحبا وشبشبها يطرقع في أرض الشارع.
في البيت قالت أنها من " المكس" في الإسكندرية. وجاءت لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بزوجها العاجز، ولم تجد مكانا تبيت فيه.
تذكر – هو – الضابط الذي قابله في الحمام الشعبي: " تأتى من الإسكندرية لتدخل حماما شعبيا؟‍‍! وها هي المرأة تأتى من غرب الإسكندرية لتبحث عن الزبائن هنا في القاهرة.
حجرة وحيدة وهم ثلاثة والمرأة فوق السرير الوحيد الذي يكفي لشخصين فقط.
عندما جاء دوره كانت المرأة منهكة، قالت له:
- سرت طويلا، منذ أن نزلت من قطار الإسكندرية وأنا أدور على قدمي من مكان لآخر.....
جلست فوق السرير وهو بجوارها وفوزي جلس على الأرض وأنشغل صبرى بإعداد الشاي في مكان ضيق بجوار دورة المياه، قالت:
- لا أريد شايا، كل ما أريده أن أنام.
قال فوزي:
- أنتما ضيفانا، ستنامان على السرير،وأنا وصبري على الأرض.
قالت:
- ليس مهما. المهم أن أنام.
وصاح صبري وهو يحمل صينية الشاي:
- مهما فعلتما، لن تناما إلا على السرير.
فرش فوزي فراشا قريبا من دورة المياه، وذهبا إليه. نام – هو – على السرير ناحية الحائط، وسرعان ما استغرقت المرأة في النوم. رمت ذراعها إلى الخارج وتصاعد صوت غطيطها. سمع صوت صبري:
- غلبانة، من شدة تعبها نامت بسرعة.
لم ينم – هو- لحظة. تابع غطيط صبري ثم فوزي وتناغم الصوتان مع صوت المرأة. قام ليذهب إلى دورة المياه، فرأى " بوك" المرأة ملقى بجوار السرير وذراعها ملقى ناحيته.
عاد من دورة المياه وكاد يصعد السرير، يتخطى المرأة التي تنام على جنبها؛ لينام في الداخل. فكر، نقوده لن تكفي لثمن تذكرة القطار، ولن يجد ما يأكل به طوال اليوم. أمسك "بوك" المرأة وفتحه. صبري وفوزي ينامان بعيدا. وحتى لو كانا مستيقظين فلن يرياه. رأى النقود الكثيرة داخل البوك. المرأة استغلت وجودها في القاهرة وجمعت بعض النقود من الرجال، أو ربما هي صادقة، والنقود نقودها جاءت بها من الإسكندرية، وأنه وصبري وفوزي كانوا أول زبائنها. ليس مهما؛ المهم أن يأخذ شيئا من " بوكها " وفعلا، أخذ النقود التي لا يعرف عددها، ودسها في جيبه، ووضع " البوك" كما كان على الأرض.
في الصباح أرتدى ملابسه على عجل. خشى أن تصحو المرأة وتكتشف السرقة. وحتى إن اكتشفتها؛ فسوف يعطيها صبري وفوزي ما تريد. سيعوضاها عما فقدته.
قال صبري – الوحيد الذي استيقظ منهم:
- أنتظر حتى أعد لك إفطارا.
- شكرا، يكفي ما قدمتاه لي.
وأغلق باب الحجرة عليهم وسار في شوارع القاهرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى