حياة قائد - ما وراء سقوط بغداد

أمك تقول أنك لا تجيد تقديم نفسك ولا التعريف الدقيق بأفراد العائلة، معها حق، لهذا دربت نفسك مراراً لتجعلها تغير رأيها عنك! وها قد تحسنت كثيراً، ستقدم عائلتك الآن: أنت الأخ الأكبر، عظيم! نعم.. "عاطل باطل!"... هكذا تقول أمك، أبوك أيضاً عاطل عن العمل منذ حرب الخليج الثانية، أمك صارت عجوزاً بين حرب الخليج الثانية والثالثة، بالطبع لم ولن تعلن أية جهة مسئوليتها عن هذا، أخوك الصغير كل شيء عنده قابل للبيع، أختك الكبرى يطلقها زوجها تقريباً كل يوم ويصالحها كل ليلة، وإن في ذلك لآية لأولى النهى! أختك الصغرى تاجرة أسهم بخيلة، ولأنها آخر العنقود فلابد أن يكون لها اسم دلع خاص بها.. أنتم تدلعونها "بخبخ"!
في الأمسيات الشتوية تستعيدون ذكريات شواء اللحم وأنتم تشوون البصل، في الصيف، في كل صيف، تناقشون الدور الحيوي لأجهزة التكييف في دول الخليج العربي، وبالتالي يجب أن يأتي صيف واحد على الأقل وقد تم إصلاح جهاز التكييف في بيتكم، ولأن شياطين أمك تنشط في الخريف، يتعاون أفراد الأسرة في الخريف على إقناع أمك بترك أختك الكبرى وشأنها، وعندما يأتي الربيع وتورق الأشجار وتغرد الأطيار وتلهو الأبقار.. لا تشعرون بكل هذا للأسف لأن بيتكم يطل على شارع رمادي وسماء رمادية.
تأزمت أوضاع البيت قليلاً مع اندلاع الحرب على العراق لأن أمك ثارت مطالبة بحقها المشروع في مشاهدة التلفاز رغم تعاطفها مع أخبار "الأشقاء" في العراق، في حين يسيطر والدك على التلفزيون بشكل استبدادي حتى لا يفوته شتم أي واحد من الأمريكيين والبريطانيين الذين يظهرون على التلفاز، وهذا أيضاً جعل أخاك الأصغر يسهر الليل ليتابع القنوات الفضائية بعد أن ينام أبوك، مما أدى إلى تدني أخلاقه بسبب مشاهدة نسبة أكبر من الأفلام والبرامج الهابطة!
بعد اندلاع الحرب حدث تطور تاريخي في مزاج أختك الكبرى، أصبحت أكثر إيجابية وقررت أن تُطَلِّق هي زوجها هذه المرة، قالت أنه لا يحس بمشاعرها ولا يفهمها ويوجد بينهما "هموم" لكنها ليست هموماً مشتركة، وفي نفس اليوم أعلنت القوات الأمريكية أنها تحرز تقدماً كبيراً، وقال أبوك أن هذا كذب وبهتان و... كذب الأمريكيون ولو صدقوا، في حين قالت أمك أن ما يهمها في الواقع هو سمعة العائلة وشرفها، وأن أختك كانت متمسكة بزوجها رغم مسلسل الإهانات السابقة، ولكنها تركته هذه المرة مما يثير الشك، ومعنى هذا-والكلام لأمك- أن أختك في رأسها موال! وهكذا طلبت أمك من أبيك أن يتدخل لو كان رجلاً ويضرب أختك حتى تعترف.
لكن أباك لحسن الحظ كان مشغولاً بابتكار شتائم أحلى وأقوى ليرميها في وجه الأمريكيين أثناء مشاهدته للأخبار، وفي تلك الآونة استطاع والدك أن يبتكر نظاماً للشتم يعتمد على المناصب، وأنت شديد الإعجاب بعبقرية والدك، أنت من أشد المعجبين به، لابد أن تطلب توقيعه ذات يوم!! فعندما تكون الشتيمة موجهة لمسئول أمريكي أو بريطاني كبير أو جندي ضخم الجثة وأقرع كان يقول: "يا حيوان!!" وأحياناً يحدد فصيلة الحيوان قائلاً: "يا كلب!"، أما عندما يخاطب جندياً يافعاً من الحجم الصغير القصير فقد كان يقول: "يا مهرج! يا قرد!"، وأحياناً عندما يكون سعيداً بأخبار عراقية مبشرة كان يشتم بأسلوب أكثر تسامحاً، فيشتم حتى "الكبار" بـ"ياقرد ويا مهرج".. إن أباك لإنسان لطيف حليم!!
وبصفتك عاطل عن العمل فقد عرضت عليك أمك مبلغاً رمزياً مقابل أن تثبت رجولتك
وتضرب أختك حتى تعترف، لكنك تجاهلت أمك، لأن نشرة الأخبار كانت تقول أن العرب سيخسرون، وهكذا كان لابد أن تجلس مع أبيك كل نشرة أخبار لتدعمه معنوياً بترديد نفس الشتائم التي ابتكرها، ولم تجد وقتاً لتشرح لأمك أنك مدين لأختك بمبلغ كبير من المال، وبالتالي لا يمكنك ضربها.
في نفس الفترة كنت مشغولاً بعرض آخر: هل تقبل أم لا تقبل الاضطلاع بمهمة إقناع أمك للاشتراك مع أختك "بخبخ" في شراء سهم عقار مقابل نسبة مغرية؟ المسألة مصيرية طبعاً لأن خلع أسنان أمك الذهبية كان ضرورياً لإكمال قيمة السهم، ولكن القيام بهذه المهمة يعني أن أمك ستقطع رقبتك أنت فيما لو خسرت "بخبخ"، وبعد صلوات وابتهالات طويلة طلبتُ فيها هداية الله: رفضت العرض رغم حاجتك الشديدة للمال لشراء بنطلون جينز عصري وملابس داخلية يابانية.
وقبل أن تسقط بغداد بيوم واحد كنتم تشاهدون الأخبار مع والدكم وأنتم تلتهمون العدس، وبالطبع كلما ظهر مسئول أمريكي ضخم أو أقرع كنتم تقولون: يا حيوان! ... ويا كلب..ويا ابن الكلب أيضاً! ولكنك لاحظت أن في صوت أخيك المرتفع جداً نبرة عواطف مفتعلة، فعرفت أنه يخفي شيئاً ما!
نعم.. معك حق ككل مرة! هاهو ذا يعترف لك بأنه سرق شريط الفيديو الذي سجل عليه والدكما إحدى حلقات النشرة الإخبارية الهامة ليسجل عليه مشاهد من البرنامج الروسي "عائلة سعيدة"، قال أنه كان مستعجلاً ولم يجد شريطاً غيره، وفي الفترة بين الموجز والتحليل الإخباري استطاع أخوك العبقري الصغير أن يعطيك فكرة شاملة عن المشروع وأنتما تلتهمان العدس:
"سأكسب كثيراً يا حبيبي، هذه مشاهد نادرة جداً من البرنامج، لقد خصصوا حلقات الشهر الماضي لتصوير ولادات حية بكل التفاصيل، أنا سجلت عبارات للتعليق على كل فقرة مؤثرة، صوتي رائع يا حبيبي والله! وأضفتُ موسيقى وأصوات نساء يصرخن وأطفال يبكون، أنا مبدع يا حبيبي، صح؟ أعلنت عنه في الإنترنت، لدي مجموعة كبيرة من المندوبات المتعاونات، الطلب كبير، مهمتك يا حبيبي أن تنسخ الأشرطة، ليس لدينا وقت، هناك طلبية يجب توفيرها، أنا متعب وسأنام، ابدأ أنت العمل، لا تطلب مني راتباً الآن يا حبيبي، لكن عندما نزدهر ستشعر معي بالأمان الوظيفي!"
وكعادتك، شعرت بالحسد والغيرة لأن أخاك وسيم وذكي وسيصبح غنياً الآن، مما يعني أنه قد يصبح بإمكانه ذات يوم أن يتزوج... ولو بعد حين، لهذا قلت له: "دعني أفكر"، جيد..أنت عاطل عن العمل ولابد أن تفكر!
في اليوم التالي وقفتم أمام الشاشة تتابعون خبر سقوط بغداد، أختك الكبرى أصيبت بانهيار عصبي في حين هتفت "بخبخ" في نشوة:
"الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! سترتفع أسهم العقار يا ناس! الله! الله! لك الحمد يا من مقامك في السماء!".
وقبل أن تفهم ما معنى هذا أمسكت أمك بيدك وهي تقول في قلق ظاهر: "أرأيت؟ لقد أغمي عليها! أختك "عاشقة" ولا شك، وأنا متأكدة أن الرجل الذي تحبه موجود في بغداد، ألن تضربها الآن أم ماذا؟ ألن-....".
وقطعت أمك كلامها لأن أخاك ظهر فجأة إلى جانبكما، وأومأ إلى المشهد المعروض على التلفاز وهو يقضم الجرجير بنهم:
"- خسارة والله! مساكين!" ثم جرك بذراعك ليبعدك عن الباقين قليلاً:
"- أنا ربحت يا حبيبي.. لا تنسى!
- ماذا؟ كيف؟ لا أفهم.
- الرهان حبيبي.. الرهان، نحن اتفقنا.. لو "فازت" أمريكا ستعطيني إيميل البنت التي كنت تدردش معها.
- آ.. لكني اكتشفت أنها ولد!
- لا مشكلة عندي ما دام يجيد التظاهر بأنه بنت!"
حاولت بعد ذلك أن تقنع أمك بتأجيل مسألة ضرب أختك إلى أن تفيق من الإغماء، والتفتَّ لتجد أباك صامتاً في وجوم، ثم استدار وجر ساقيه ليخرج من البيت، فتبعته أنت بالطبع لتخفف عنه قليلاً، وعندما خرجتما إلى الشارع مررتما برجال من الجيران يفسرون الواقعة، وكان أحدهم قد أصرّ على أن أمريكا انتصرت لأن الجنود الأمريكيين أسلموا وحسن إسلامهم فأثابهم الله فتحاً قريباً، فأوشك أبوك أن يجن وارتد عائداً إلى البيت، واستقبله أخوك بأنواع التهريج والمداعبات الثقيلة ليضحك، وأخيراً ضحك أبوك بعينين دامعتين.
ولأن أمك قلقت عليه فقد أرغمته على مشاهدة حلقة للشيف رمزي وفيلم ليلة القبض على فاطمة، بل وسجلتهما له في المساء على شريط فيديو لترغمه على مشاهدتهما بشكل متواصل لأنها على يقين من أن فيهما مفعولاً مهدئاً للأعصاب.
صباح اليوم التالي اكتشفتم أن زوج أختك نقل إلى المستشفى متأثراً بمشهد سقوط بغداد، فانتعشت روح أختك ونشطت فجأة وقررت العودة لزوجها، قالت أن حزنه هذا علامة على وجود "هموم" مشتركة بينهما، وفي نفس اليوم أيضاً أغمي على أختك "بخبخ" عندما فوجئت بأن تاجر الأسهم الذي تعاملت معه نصاب كبير جداً وليس خبير أسهم فقط، حتى أخاك الصغير وجدته في حالة سيئة لدرجة أنك شعرت لأول مرة بعاطفة الشفقة الأخوية نحوه، ربما بسبب تأنيب الضمير.
طبعاً لم تكن بحاجة لسؤاله عن السبب لأنك عرفت أنه نسي شريط النسخة الأصلية لبرنامجه الروسي- والتي تعب في إخراجها- بجانب التلفاز، وأنت رأيته بيد أمك فتجاهلت ذلك عمداً حتى لا تزدهر تجارة أخيك ولا يمكنه الزواج قبلك أيها الحسود! وهكذا سجلت أمك على الشريط مهدئات الأعصاب التي خصصتها لأبيك.
ورغم شعور أمك بفرحة خفية لأنها لم تبع أسنانها في سبيل المساهمة مع "بخبخ"، إلا أنها كانت مكتئبة وغاضبة جداً لأن أختك عادت لزوجها دون أن يضربها أحد، ولهذا فقد ذهبت إلى بيت الجيران وتركت أباك المسكين وحده عقاباً له، في حين بقي هو أمام التلفاز يتابع الأخبار دون أن يشرب الشاي.

***

ها قد جلست أنت إلى جانب أبيك مثل زمان، تنظران إلى التلفاز دون أن تتكلما، كان مسئول بريطاني كبير يبتسم أمامكما على الشاشة ويمطط شفتيه بكل الاتجاهات، أحسست برغبة جامحة في أن تشتمه بصوت مرتفع لكنك سكت، لا إرادياً انتظرت أن يشتمه أبوك لتشاركه أنت في ذلك، ولكن أباك بقي صامتاً على وجهه مسحة من البلادة الحزينة، انتظرتَ طويلاً. . . ولم يقل أبوكَ شيئاً... لم يقل حتى "يا قرد".... أو "يا مهرج"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى