جمال الدين علي الحاج - موسيقى الصخور.. قصة قصيرة

وحده الوجوم مرسوما على ملامح الحجارة التي استقبلتني أعلى التل في حافة الوادي. أذكر وأنا صغير حينما كنت أمر من تلك الأنحاء أتطلع إليها من بعيد كلغز محير وأقول في نفسي لابد أن يأتي يوم وأفك شفرته. ظلت تلك الفكرة مسيطرة عليّ حتى بعدما جرفتني الحياة بعيدا، لم يسبق لي أن كنت قريبا منها إلى هذا الحد، برغم أنني خلال مشاويري الطفولية أحسها تريدني أن أقترب. في مرة خيل إليّ أنني سمعتها تناديني باسمي وتطلب مني أن أصعد وآخذ مكاني وسط الحجارة حتى تكتمل اللوحة; إلا أنني أشيح بأفكاري بعيدا عنها. منعني خوفي بسبب القصة الغريبة التي جرت على لسان أهل القرية; ولاسيما الأمهات وهن يحكين لأطفالهن حكاية ما قبل النوم; وكل أم تضيف إليها شيئا من خيالها; حتى باتت قصة تلك الحجارة المنحوتة بأصابع الخيال تجسيدا لزفة عرس حقيقي حدث في زمن غابر; وليست خرافة.
لا أنكر بأني شعرت بالرهبة وأنا أجيل بصري في الوجوه المرسومة على الصخور عن قرب; رحت أستحضر في ذهني القصة العجيبة التي حكتها لي أمي ذات يوم وأنا غارق في سحر غامض يكتنفها. بدأ الليل يفرض سطوته على الوجود بينما شعرت بالتعب جراء الجهد الذي بذلته طوال فترة العصر محاولا إخراج سيارتي التي غاصت في رمل الوادي. جلست على الأرض; وأسندت ظهري إلى صخرة ملساء تطل على الوادي; معالم الأشياء أخذت تتلاشى شيئا فشيئا. سيارتي تظهر وتختفي كمركب تتقاذفه الأمواج وأشجار السلم والسدر على ضفتي الوادي والجبل خلفها شبح رسمة غير مكتملة معلقة على جدار الخيال.
كأنني في أحضان أمي; استسلم لحلم جميل; وصوتها الدافئ يهدهدني بقصة الزفة التي تجمدت في لحظة كونية خالدة. رحت أفكر في حجة أو بالأحرى كذبة; أتملص بها من حصار تفرضه عليّ كلما وقعت في عينها. تمسك بيدي; تجلسني قربها على السرير; وتبدأ تستعرض من ألبوم ذاكرتها صور فتيات القرية. فتاة وراء فتاة. تتطلع إليّ وعيناها يشع منهما بريق( ها ما رأيك; كل واحدة منهن تقول للقمر قم وأنا أجلس مكانك!). تنظر في عيني وذلك البريق يكاد ينطفئ وتلك الدموع قد ترقرقت; تضغط على كفي; و تقول بصوت متهدج( يا ولدي; العمر يمضي وأنا أريد أن أفرح بك قبل صاحب الأمانة يأخذ أمانته).
طافت بذهني الذكريات وأنا أنتظر فرجا ينبثق في أي لحظة من الظلام يساعدني في سحب سيارتي.
أمي لا تعلم أنني أنتظر فتاة تشبه تلك التي وصفتها لي في تلك الزفة الخرافية.
فجأة انطلقت زغرودة حادة شقت أستار السكون، شعرت بالأرض تحتي تهتز جراء صوت دفوف وطبول تضرب بشدة. انتفضت; نهضت بسرعة ورحت أتلفت مذعورا في المكان. وإذا بدخان شفيف يتصاعد من بين الصخور. ثم ما لبث وعبق الجو برائحة العود والبخور. وإذا بالصخور النحيفة التي تقف متصلبة كشواهد القبور أعلى التلة وفي طرف الوادي استحالت لسرب من الحسان في كامل زينتهن. رأيتهن يمشين نحوي ويرددن أهزوجة شعبية بصوت جنائزي حزين وكأنهن ينعين عزيزا رحل.
تجمّدت في مكاني بعدما فشلت محاولتي في النفاذ من سطح الصخرة الأملس التي أستند إليها.
كانت شبه عارية; إلا من قطعة قماش شفاف تلفعت به، خرجت كآهة طويلة من وسط جوقة الفتيات النائحات، مشت نحوي بخطوات رشيقة وهي تحمل في يدها ما يشبه الكأس. استسلمت لقدري ودهشتي عندما مدت يدها وانتشلتني من خوفي، ناولتني كأسًا يحوي شرابا غريبا لم أتذوق مثله من قبل. أذكر أنها حدقت فيّ بعينين كهرمانيتين قبل أن تغمز بعينها اليسرى وأنا كالمنهوم أحتسي الشراب، ضحكت بغنج، هل تريد المزيد؟ هززت رأسي بالموافقة. فرقعت أصابعها فامتلأ الكأس في يدي مرة أخرى بلمحة. لا أذكر كم مرة سألتني ذات السؤال وأنا أومئ برأسي والكأس يعب بالشراب; حتى شعرت بالدوار. ثم رأيتها تستل شيئا من الفراغ بيننا يشبه الفرشاة; وبضربة واحدة رسمتني صخرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى